إيسايكو: الحياة الطيبة … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
مقال تمّ نشره في مجلة الوعي الإسلامي
إيسايكو: الحياة الطيبة … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ) (سورة النحل: 97)، والإنسان يسعى جاهدا في الحياة الدنيا للحصول على الحياة الطيبة والسعادة والرزق الحلال والقناعة والراحة النفسية والسعادة النفسية، وجميع ذلك من علامات جودة الحياة التي تُعدّ من أهمّ الموضوعات في علم النفس الإيجابي المُؤثرة إيجاباً على حياة الفرد والأسرة والمجتمع.
حيث تُعدّ جودة الحياة بشكل عام هي الجودة الكامنة في رضا الفرد عن نفسه وعن أدائه، وإحساسه بمدى قدرته على التكيف مع الإمكانات المتاحة له، وعلى توظيفها واستثمارها في سبيل تحقيق توافقه النفسي ثم السعادة النفسية، ومن ثم استشعاره بذاته كعضو فاعل في المجتمع له حقوق وعليه واجبات (1).
وقد كشفت الدراسات العلمية عن بعض الأبعاد الناتجة عن تطبيق أدوات القياس المُحكّمة على بعض أفراد المجتمع ثم تحويل تلك البيانات الخام إلى نتائج علمية من خلال عملية التحليل الإحصائي حيث كشفت دراسة (العنزي، 2016) عن عناصر جودة الحياة، التي منها (الجودة الصحية، الجودة النفسية، الجودة المهنية، الجودة الأسرية، الجودة الاجتماعية، الجودة الأكاديمية، الجودة الدينية، جودة إدارة الوقت، وجودة الخدمات)، وأما الجودة الدينية التي هي محور الموضوع فتمّ تعريفها على أنّها التمتّع بصفاء النيّة وسلامة القلب، ورضا الفرد عن نفسه من خلال أداء ما عليه من واجبات وعبادات، وأثر تلك الخيريّة على رفع مستوى الشّعور بالطمأنينة، والإقبال على فعل الطاعات، والمبادرة بفعل الخيرات المُجرَّدة من الأهواء النفسية والمصالح الشخصية.
كما أنّ الجودة الدينيّة تحتوي أيضا على عدّة عناصر، تتمثّل في: (الصلاة) كأن يُحافظ المُسلم على الصّلاة بِشكل مُنتظم، و (العبادات) كأن يشعر المُسلم بِأنّ عبادته سبب رئيس في سعادته، و (فعل الخير) كأن يُبادر المُسلم بِفعل الخيرات، و (الدعاء) كأن يُحافظ المُسلم على الدّعاء في السرّاء والضرّاء، وفيما يلي شيء من التفصيل لعناصر الجودة الدينية (3).
الصلاة:
الصَّلاة عمود الدين، ولن يستقيم أمر الفرد إلا باستقامته عليها، ومهما بلغ الفرد من جودة الحياة فإنّه ناقص في حال عدم إقامته للصلاة؛ فالصلاة تكشف عن مكامن القوة البشرية في حياة الفرد؛ فجودة الحياة تكمن في المحافظة على أداء الصلاة في وقتها ومع الجماعة، والخشوع عند أدائها، وحمايتها وإجبار نقصها بأداء السنن الراتبة، وغرس حبّها في قُلُوب الأبناء، والتواصي بأدائها، ومهما كان تقصير الفرد فلا ييأس أبدا وليستعن بالله على أداء الصلوات المكتوبة، وليعلم أن الهمّة مُتفاوتة؛ فاليوم هو في نشاط وغدا في خمول، كما أنّ العِبْرة في النهاية والأعمال بِخَواتيمها، فَلْيَجْتهد الفرد على أن تكون آخر أيّامه على صلاة؛ (فَالْمَوت أن تعيش حياتك بلا صَلاة، والحياة أنْ يكون مَوْتك على صَلاة (4).
العبادات:
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لعبادته وحده لا شريك له، وخلق الكون بِكُلّ ما فيه تسخيراً لهذا الإنسان العابد؛ خليفة الله، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (سورة البقرة، آية 30). فالواجب على الإنسان عبادة الله سبحانه وتعالى كما ورد في الكتاب والسنّة من غير ابتداع وابتكار؛ فالدِّين كامل مُتكامل ولا مجال للمُزايدة عليه، والقرءان الكريم صالح لكلّ زمان ومكان، وكذلك السنة النبوية الشريفة؛ فأقلّ العبادات الابتسامة في وجه أخيك، فهي صدقة، كما أنّ إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ومن أعلى مراتب العبادة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر خيره وشره واليوم الآخر؛ فالحياة واحدة ولا توجد هناك محاولة أخرى والعبادات يسيرة فلا تبخل على نفسك بالمواظبة عليها، ولن يتعارض ذلك مع نصيبك من الدنيا فاستمتع بما أحل الله لك، والعاقبة للمتقين.
فعل الخير:
فعل الخيرات بإخلاص لوجه الله تعالى، والمبادرة بأدائها تقرّباً له سبحانه وتعالى، وحثّ الآخرين عليها حباً لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم، والمُوفّق في هذه الدُّنْيا من وفّقه الله لفعل الخيرات وعلّق قلبه ولسانه بِالتّسبيح والتّهليل والاستغفار.
الدعاء:
الإنسان يدعو الله تعالى مُضطرًا يُريد الخلاص من الابتلاء،ومن رحمة الله أن يُعطيه ما أراد ويزيده فضلا، فالدّعاء عبادة، وذلك من كرم الله سبحانه وتعالى علينا جميعا؛ فالفرد مُضطّر ويدعو بخوف ووجل، ويرفع الله عنه البلاء ويأجره على صبره ودعائه، فكيف بمن يدعوه بالسرّاء؟ فلا تستهِنْ بالدعاء أبداً ولا تجعله لغير الله مهما كانت الظروف؛ فاللّجوء إلى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال عبادة، والتضرّع إليه بالدّعاء عبادة، فاستمتع بِالدّعاء الخالص لله وحده، وانتظر العطاء من الله سبحانه، واحمد الله على الإجابة، واستمر بعبادة الدّعاء في السرّاء والضرّاء لِتَنْعم بِأقْوى علاقة في الوجود.
إن علاج وشفاء القلوب يُعدّ سبب رئيس في علاج الجوارح، مما ينتج عنه حصول التوافق والاطمئنان والسعادة والتفاؤل والإقبال على الحياة (5)، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (سورة يونس، آية 57).
ولن يتمتّع الإنسان بالصّحة النفسيّة والحياة الطيّبة الهانئة السّعيدة والقناعة التامّة إلاّ بِطَاعة الرّحمن سُبحانه وتعالى، والعمل الجاد الدؤوب على زيادة الإيمان من خلال الإخلاص بأداء العِبادات لله وحده لا شريك له، كَمَا أوْصَى بها الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام، والإكْثار مِن العمل الصّالح تقرباً إلى الله واحتساباً للأجر، والثبات عليه وإن قل، والأمر بِالمَعروف والنَّهِي عن المُنكر، وإصلاح ذَات البين، والصّدقة في السرّ والعلن، واسْتدامة الدّعاء الخالص، والثناء على الله سبحانه وتعالى قبل الدّعاء، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام قبل وأثناء وبعد الدعاء، وأيضا في كلّ الأوقات، والحمد والشكر في السرّاء والضرّاء (6)، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (سورة النحل، آية 97).
علما بأنّ الحياة الطيبة ليس لها علاقة بالمال أبدا، وإنما هي نتيجة لإيمان الإنسان المُطلق بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورُسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (سورة النور، آية 55). وهذه العقيدة التي محلّها القلب إنّما هي أساس الحياة الطيبة وبها تطيب الأنفس، كما أنّها قائمة على العبادات التي تقوم بها الجوارح مثل التوحيد والصلاة والزكاة والصوم وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا وسائر الأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى الله التي منها الصبر الجميل على الابتلاء، وبرّ الوالدين وإن كان شاقاً، والرضا بالرّزق وإن كان كفافاً، ومُعاشرة شريك الحياة بالمعروف وإن رأى أحدهم من الطرف الآخر ما يكره، وبذلك سوف تتحقّق لدى الإنسان قناعة تامة ورضا عن الحياة، وبالتالي سينعم بجودة الحياة والراحة النفسية والاتزان النفسي والاستقرار النفسي والحياة الطيبة التي يُعدّ تحقيقها غاية لدى الجميع.
الدكتور مرزوق العنزي
المراجع: