التاريخ النفسي (2) بديعة … البلد فايرة … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
إيسايكو: التاريخ النفسي (2) بديعة … البلد فايرة … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
تاريخ النشر: 21 مارس 2021م
تناولت علم التاريخ مقرونا بعلم النفس مرات عديدة، فبلغت حصيلة ذلك التوجّه بعض الإصدارات المطبوعة، كما بدأت بكتابة المقال المختص بمجال التاريخ النفسي، وكنت ولا زلت أدعو الزملاء المختصين للكتابة في هذاالمجال النافع في القسم الخاص له تحت عنوان التاريخ النفسي بجريدة الإرشاد النفسي.
قبل أيام وصلتني شهادة الدكتوراه من جامعة تونس عن طريق سفارة دولة الكويت في تونس، فاستعدت ذكريات الدراسة الجميلة وذكريات أول يوم زرت فيه الجامعة، فبعد أن أشعل البو عزيزي شرارة الربيع العربي في تونس، وهرب حاكمها زين العابدين بن علي ودخلت البلد في مرحلة جديدة امتدت لسنوات تعاني فيها من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وأيضا السياحي مما تسبب بعزوف الكثير عنالسفرإلى تونس أو حتى مجرّد التفكير بذلك بسب تلك الأحداث، ولكن للضرورة أحكام، فقد أبلغتني سفارة الكويت في تونس بضرورة القدوم إليها لحضور مقابلة وزارة التعليم العالي التي تحددت بهدف استكمال إجراءات التسجيل في جامعة تونس للحصول على درجة الدكتوراه بتخصص علوم التربية، وبالفعل توجهت إلى تونس عن طريق مطار اسطنبول، ومباشرة ذهبت إلى مبنى وزارة التعليم العالي، وقمت بإجراء المقابلة الشخصية فزودوني بخطاب القَبُول المُوجّه إلى جامعة تونس في شارع 9 أفريل لاستكمال متطلبات التسجيل ثم بدء الدراسة في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد رأيت جمال البلاد وسُموّ أخلاق العباد.
أنهيت جميع المهام والإجراءات القانونية حسب النظام المُتّبع لديهم، وعُدت إلى فندق جولدن توليب المشتل الواقع بجانب حديقة البلفيديرالجميلة، حيث نصحني به أحد موظفي سفارة الكويت لمرونة تعامل طاقم الفندق مع أهل الكويت وكذلك دول مجلس التعاون، كما أبلغني بأن دولة الكويت تمتلك هذا الفندق، فعلمت من تلك اللوحة الجميلة المعلقة عند بوابة الفندق بأن افتتاحه كان في عام 1987م وبحضور وزير المالية آنذاك السيد جاسم الخرافي رحمه الله.
وفي اليوم التالي نهضت من جديد لاستكشاف معالم العاصمة التي من ضمنها جامع الزيتونة، فوصلت إلى شارع الحبيب بو رقيبة فوجدتبه نصبا تذكاريا للمُفكّر ابن خلدون يقف شامخا في ساحة الاستقلال الواقعة فيما بين السفارة الفرنسية وكاتدرائية القديس فنسون دو بولوالقديسة أوليفيا، وقد علمت بأن بناءه تمّ بأمر الحبيب بو رقيبة الذي يُعدّ أول رئيسا لجمهورية تونس في عام 1957 بعد استقلالها عن فرنسافي 20 مارس 1956م ليصادف اليوم ذكرى استقلالها 65، ومن ثم علمت بأنّ شعب تونس اتّخذ هذا النُّصب التّذكاري رمزا للحُريّة يجتمعمن حوله لِيُطالب بِحقوقه المسلوبة وكذلك ليطالب بالإفراج عن المعتقلين أمام وسائل الصّحف المحليّة والعالمية.
والجدير بالذكر أن وفاة البو عزيزي نتجت عن إحراق نفسه تعبيراً عن غضبه واحتجاجا على ما قامت به الشرطية فادية التي صفعته أمامالملأ وقالت له: ارحل .. فأقدم بعض الشباب في البلاد العربية على الانتحار إشعالا لثورة مشابهة لثورة تونس! كما أصبحت كلمة إرحلشعارا لجميع الثورات العربية، والتي بسببها تم خلع الرئيس زين العابدين ليموت في مستشفى الملك فيصل التخصصي بمدينة جدة بسبب سرطان البروستاتا، ويدفن بالبقيع في المدينة المنورة.
وعندها تمعنت جيدا في حال شعب تونس الطيّب الذي عانى من طُغيان الرئيس، كما استذكرت لحظتها نظرية الدولة لصاحبها ابن خلدونالذي أورد مقولته الشهيرة: (الظّلم مؤذن بِخَراب العُمْران)، وهو يقصد بذلك خراب الدولة! واستيقنت بأن الربيع العربي في تونس لم يكن لولاالظلم الذي عانى منه الشعب! ذلك الشعب الذي يُعدّ عاملا رئيسا في قيام الدولة وتقدمها وازدهارها، فبدلا من أن تحترمه الدولة! فقد همّشتهواضطهدته!
وفي مقابل سُقوط الدّولة بِسبب الظُّلم والاستبداد فقد حذّر ابن خلدون من سُقوطها بسبب ترف عالية القوم وانغماسهم في الملذات!
والسؤال هنا: هل كان رئيس تونس مُغيّبا عن أحوال الشّعب؟ أم أنّه على علم ودراية بظروفهم المعيشية الصعبة؟ وهل كان يجهل إسرافأدواته وأجهزته الأمنية في هدر كرامة الشّعب؟ ومساومتهم على قوت يومهم؟
لو قلنا بأنّ الرّئيس مُغيّب فسنقول بأنّه لا يستحق أن يكون عليهم رئيسا! ولو قُلنا بعلمه وإحاطته بكل ما يدور في الدولة! فسنقول بأنه تجبَروطغى .. والشعوب تستحق الأفضل! فليس من المعقول أن يعلم ابن خلدون المُتوفي في عام 1406م بأسباب سقوط الدولة ولا يعلمها ذلكالرئيس المخلوع في عام 2011م؟
ومن غير المعقول أبدا أن يجهل الرئيس ما يدور حوله، وأيضا ما يدور في أوساط شعبه، فهو واع ومدرك لذلك تماما، ودليل ذلك تحويلهللأموال خارج البلاد واهتمامه بتأمين نفسه من خلال حفر الأنفاق لضمان لحظة هروبه، معتمدا على دعم الغرب له! إلا أنه في نهاية المطافلم يستطع إقناع فرنسا باستقباله! ومن المحتمل أن يكون رفضها لاستقباله كان نتيجة لخشيتها من ردود أفعال الشعب الغاضب! فَظلّ زينالعابدين عالقا هو وزوجته بطائرتهما الخاصة في السماء لا يعرف أين يذهب لولا تدخل المملكة العربية السعودية في الوقت الضائع حيث منحته حق اللجوء والحصول على الجنسية السعودية.
وقد تكررت تلك الأحداث في ليبيا ومصر وغيرها من الدول العربية، وأيضا في سوريا عندما قام الطفل سامر (14 عام) مع أصدقائه بالكتابةعلى جدران إحدى المدارس في منطقة درعا، مما جعل كتاباتهم سببا رئيسا بانطلاق شرارة الثورة السورية ضد رئيسها، ومن الغريب أنالطفل سامر لا زال على قيد الحياة! وقد تزوج في عمر العشرين وأنجب أطفالا، وفي المقابل لا زال رئيس سوريا بشار الأسد على قيدالحياة، ولكنّ سوريا الجميلة احترقت! تحت ذريعة الربيع العربي الذي أعاد الوطن العربي إلى الوراء عقودا من الزمن! وأعتقد جازما بأننا لووجّهنا سؤالا للرّئيس الأسد عن أحداث درعا؟ وكيفية التعامل معها بشكل إيجابي لحظة وقوعها؟ لقال باستعداده التام لمحاسبة محافظ درعاوالأجهزة الأمنية، وإطلاق سراح الأطفال في مقابل حفظ سوريا وشعبها وأمنها واستقرارها، ولكن أمر الله واقع.
ومثلما كان رئيس تونس يعلم بزواله! أيضا كان ملك العراق يعلم بزواله، فقد ذكر المعاصرون لحُكم الأسرة الهاشمية أنها علّقت في أعلىمدخل القصر الآية الكريمة: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَعَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فهم يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى آتاهم المُلك لإقامة العدل، ولكنهم يتناسون قدرته العظيمة على نزع المُلك منهم عنداختلال ميزانهم! وكذلك الله يُسبّب الأسباب، فاعتبروا يا أولي الألباب.
وأستذكر لقاء الناجية من مجزرة قصر الرّحاب وريثة العرش الهاشمي الأميرة بديعة بنت علي حفيدة الشريف الحسين قائد الثورة العربيةالكبرى، حينما وجّه لها مقدم البرنامج سؤالا على قناة الشرقية: هل كان متوقعا ما حصل للأسرة الحاكمة في العراق؟ فأجابته: نعم .. فقدقال لي الشريف الحسين (زوجها) عندما كنّا لاجئين في سفارة المملكة العربية السعودية في بغداد: (البلد فايرة .. بديعة .. البلد فايرة).
وفي كلا المشهدين سواء أكان في النظام الجمهوري أم النظام الملكي فإننا نحتاج إلى قراءة متكررة ومراجعة دقيقة وتحليل علمي لفكر ابنخلدون الذي استمدّه من تجاربه المتنوعة وخبراته المتراكمة واطلاعه على أحوال الأمم، وباختصار شديد لذكر مسيرة حياته الحافلة فهوحضرمي ولد في تونس، ودرس في جامعة الزيتونة التي تعد من أقدم الجامعات في العالم كما أنها أول وأقدم جامعة أنشأت في العالمالإسلامي، ثم عاش في المغرب والأندلس وأخيرا كانت وفاته في مصر! ومن أبرز مقولات ابن خلدون المشهورة: أن للدولة عمر طبيعي كماللأشخاص؟ وأن أعمار الدول لا تتجاوز 120 عاما، وأن لكل دولة خمسة أطوار؟ هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثمطورالقنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير!
فمن يقرأ تاريخ ابن خلدون يعلم علم اليقين بأن الحياة فانية مصداقا لقول الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِوَالْإِكْرَامِ). وأن للدولة أجل مثلما لرئيسها أجل، كما قال الله تعالى: (وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ). فالجميع يعلم بذلك وأكثر … ولكنها لذة الحكم! حينما يستمرأ الحاكم تجويع الشعب وإهانة كرامته، متجاهلا تبعات تسلّطه على رقابهم!
وإنكان البعض يتسائل .. ما دام الرئيس يعلم بحتمية نهايته! فلماذا لا يعمل بصدق وإخلاص لتأمين نفسه؟ ويجتهد بمعالجة مواطن الخللفي إدارته للدولة؟ فمن المتفق عليه أن معالجته الإيجابية لما بين يديه أفضل بكثير من معالجة الشعب لأمر ليس بأيديهم! فالحاكم يعالجها منرأس الهرم ومن خلال قنواته المشروعة، وهو قادر، والشّعب يعالجها بالفوضى والتخبط، وهو عاجز! وإن تمكّن الشّعب من ذلك مُتسلّحابصلاح نيّته، فالتجارب السابقة تخبرنا بقدرة الشعب على اتخاذ قرار انطلاق الثورة ضد الحاكم! ولكنها في المقابل تخبرنا بأنّ قرار إنهاءالثورة والعودة إلى البيت ليس بيد الشّعب!
ولعلّ أحد أهم الأسباب في عدم سيطرة الشعوب على ثوراتهم هي عدم شرعيتها ثم تسلّل المُندسين بين أوساطهم! مما يُفقد قياداتهم زمامالأمور، وكما قال الشاعر:
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلُحت … فإن تولت فبالأشرار تنقاد
والحكمة تحتّم على الدول المتضررة من موجة الربيع العربي أن تقطع الطريق على الأشرار، وأن تبادر بالمصالحة الوطنية مع الشعب، وأنتعمل من أجلهم، وتذلّل الصعوبات التي تواجههم، لتحقيق رفاهيتهم وحفظ كرامتهم.
الدكتور مرزوق العنزي