الحماية الزائدة … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
إيسايكو: الحماية الزائدة … بقلم الدكتور مرزوق العنزي
يروي لي أحدهم بكل فخر واعتزاز عن اهتمامه الزائد بولده الكبير الذي أخلص في تربيته وتعليمه وتوفير جميع متطلبات الحياة له إلى جانب تدريبه المبكر وتعليمه قيادة السيارة حتى أصبح محترفا مما جعله يطمئن عليه، ويتخلى عن مصاحبته! لينطلق في إدارة شؤون حياته بعيدا عن وصاية والده!
وذات يوم جاءته مكالمة هاتفية من ولده الذي تأخر عن موعد عودته للبيت ليخبره بتوقف سيارته على جانب الطريق السريع بسبب خلل في إطار السيارة! فأبلغه الأب بأن الأمر بسيط جدا حيث أوصاه باستبدال الإطار والعودة إلى البيت ليتكفل هو بإصلاح الخلل! حينها جاء الرد صادما .. يا أبي أحتاج لمساعدتك فأنا لا أعرف كيف أستبدل الإطار! فنعم .. أنت قد دربتني على القيادة ولكنك لم تعلمني كيف أستبدل الإطار!
ما سبق هو مدخل بسيط لما يعانيه شباب اليوم من تهميش لأدوارهم في الحياة وبالتالي عدم قدرتهم على إدارة شؤونهم كاملة بسبب تدخل الوالدين الدائم بأداء جميع واجباتهم في الطفولة مرورا بالمراهقة بحجة إحساسهم بالمسؤولية تجاههم مما يجعل الأبناء اتكاليون سلبيون في مواجهة صعوبات الحياة! نتيجة لأسلوب المعاملة الوالدية في عملية التنشئة الاجتماعية للأبناء المتمثلة في الحماية الزائدة.
ومن أهم تلك الصعوبات ما يعانيه شباب اليوم من صعوبة التمييز بين الصديق الصالح والطالح في ظل اتساع دائرة الأصدقاء مما أودى بحياة بعضهم عن طريق جرائم القتل والمخدرات والخمور إلى جانب بعض الجرائم مثل الربا والرشوة وخيانة الأمانة التي أودعتهم السجون، وقد بدأت تلك الجرائم بانحراف الفكر ثم السلوك من خلال توجيه أو إيحاء أو خدعة من صديق السوء المتستر بقناع المحبة والإخلاص.
نعم .. يمتلك الأفراد في الحياة المدنية علاقات واسعة بسبب الانفتاح المتسارع الذي يعيشه المجتمع، كما يمتاز البعض بالقدرة العالية على تكوين علاقات اجتماعية مع مختلف شرائح المجتمع أثناء مراحل الدراسة والعمل والحياة الاجتماعية إلى جانب تلك العلاقات الافتراضية التي يعززها الفرد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي! فالبعض يرى نفسه بكثرة علاقاته، كما أن البعض لا يفرقون بين علاقاتهم! ويرون المحبة والنصح في عيون الجميع!
وإن كان السواد الأعظم من الناس يعلمون مسبقا بحقيقة بعض العلاقات الاجتماعية المبنية على المصالح الشخصية التي تنشط في أوقات الرخاء! وتخمل في أوقات الشدة! غير أن تلك المعرفة لم تمنعهم من الاستمرار بتلك العلاقات السلبية التي تشكل عبء كبير على عاتقهم لهدرها الوقت والجهد والمال، ولو اكتفى الفرد باصطفاء عدد قليل من الأصدقاء الذين يعتمد عليهم في وقت الرخاء والشدة لكان خير له.
فالمجتمع اليوم قد اختلف عن سابقه حيث كانت البساطة والشفافية عوامل رئيسة في تكوين وتوطيد العلاقات، كما أن الأهل والجيران والأصدقاء كانوا متعاونين على تربية الأبناء وتوجيههم وإرشادهم، ولكن الأمر قد اختلف، فالتوجيه العام أصبح تدخلا في شؤون الآخرين، والإرشاد الخاص أصبح قمع للحريات، فارتفعت الأيادي عن المسؤوليات المشتركة واحتارت العقول في إدارة المستجدات وارتبكت الأجيال في مواجهة التحديات، فبدأ انحراف الفكر ثم السلوك.
وإن كانت السطور لا تسع ما في النفوس! إلا أن هناك جانب هام من جوانب الحياة يستحق تسليط الضوء عليه يتمثل بتلك العلاقات المنحرفة التي أضاعت الأجيال حيث أصبح الولد الصالح النزيه هدف مميز للأشرار يتسترون به من القانون، وأحيانا يستخدمونه كبش فداء لحمايتهم من العقاب، فالأشرار لا يبالون بالآخرين في سبيل تحقيق النزوات والشهوات من خلال اختراق القانون! ولذلك فالأشرار على استعداد تام للتضحية بالأصدقاء لضمان سلامتهم! فالحقيقة المخفية تكمن في رؤية واعتقاد هؤلاء الأشرار للآخرين بأنهم أدوات يجب استغلالها لتحقيق المآرب الشخصية دون أدنى اهتمام بمصير ومآل تلك الأدوات البشرية.
وفي السياق تأتي بعض التساؤلات .. كيف للفرد أن يحمي نفسه من تلك العلاقات السلبية؟ وما هي الطريقة التي يعتمد عليها في تصنيف علاقاته واصطفاء صداقاته؟ في ظل اختلاف سمات الشخصية من فرد لآخر! وما مدى استطاعته على التمييز بين مقامات الناس في ظل عدم الإلمام بعلم سمات الشخصية؟ وهل هناك عوائق تحول بينه وبين تلك القدرة على التصنيف؟
والملاحظ من تلك التساؤلات أنها تدور حول الفرد نفسه دون التطرق للوالدين أو طبيعة التربية! والواقع أن بعض الأبناء ما هم إلا ضحايا لتربية سلبية قد تلقوها في الطفولة، وأن المسؤولية تقع اليوم على عاتقهم، كما أن معالجة نتائج تلك التربية السلبية تتطلب الاعتراف بوجود مشكلة قائمة متمثلة بصعوبة الكشف عن سمات الشخصية، فهذه المعرفة تعد الخطوة الأولى في بداية الطريق الصحيح نحو تنمية الذات وتطوير المهارات وتعزيز الجوانب الإيجابية ومعالجة الجوانب السلبية لتجاوز آثار تلك التربية السلبية.
وإن كانت تلك التربية السلبية في الحقيقة أساسها الخوف على الأبناء والاجتهاد على توفير متطلباتهم إلا أن مخرجاتها سلبية حيث كشفت عن جيل اتكالي جانح للانحراف! وقد أثرت سلبا على تكوين شخصية الأبناء يصل حد الانحراف!
والصواب هنا يتمثل في تنازل الآباء والأمهات عن قيامهم ببعض أدوار الأبناء مع الاحتفاظ بحق الإشراف والتوجيه والإرشاد لخلق جيل كفؤ يقوم بمهامه على أكمل وجه ليكون له دور هام وفاعل في الأسرة والمجتمع، وإن كانت هناك ضحايا من الأبناء الراشدين لتلك التربية السلبية؟ فعليهم التزود بالعلم النافع والمشاركة بالتدريب الهادف لتجاوز تلك المرحلة الصعبة، والبدء بإصلاح أنفسهم واتخاذ إجراءات جادة لتعزيز الشخصية والقدرات والمهارات استعدادا لبناء أسرة واعية لما يدور حولها، وقادرة على إدارة شؤونها بعيدا عن تلك التربية السلبية التي تعرضوا لها في الطفولة والمراهقة! فالمسؤولية كبيرة في تجاوز الأخطاء والعمل على حماية الأبناء من بعض الشخصيات السلبية التي انحرفت فأضاعت جهد وأمل الآباء والأمهات.
الدكتور مرزوق العنزي