اضطراب الشخصية الحدية: ما هو؟ ولماذا يصيب النساء أكثر؟
[ad_1]
- نغم قاسم
- بي بي سي نيوز
لوقت طويل كانت بسمة مصطفى تعتقد أن شعور الضيق والخوف من الفقد الذي يلازمها مرتبط بظروف مؤقتة.
“كنت أشعر بالضيق طوال الوقت، أشعر أنني شخص سيء وأن الناس تنفر منه، كما أن مزاجي متقلب على مدار الساعة، ولدي إحساس دائم بالفراغ والخوف من الفقد”.
لكنها شعرت أن في الأمر خطأ ما، عندما استمرت الأفكار السوداوية بمرافقتها حتى بعدما حققت كل ما تريد، “عندما صار كل شيء حولي كما أريد تماما، كنت لا أزال أفكر في الانتحار”.
لا تختلف تجربة بسمة كثيرا عن تجربة كثيرين ممن يعانون من اضطراب الشخصية الحدية.
حكت لي بسمة، وهي أم لطفلتين، عن رحلة اكتشافها لإصابتها باضطراب الشخصية الحدية قبل 5 سنوات.
كان الأمر صعبا ومربكا، خصوصا أن الاضطراب الذي أصابها يتشابه مع الكثير من الاضطرابات الشخصية والأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق، وهي أعراض غالبا ما تكون مصاحبة له.
ما سبب صعوبة التشخيص؟
تقول الطبيبة النفسية مها محسن إن صعوبة هذا الاضطراب تكمن فى أنه يقف على “الحدود” بين الكثير من الاضطرابات مما يجعل تشخيصه صعبا وعلاجه، بالتالي، في غاية الصعوبة.
وبحسب هيئة الصحة الوطنية البريطانية، تتلخص أعراض اضطراب الشخصية الحدية في: عدم الاستقرار العاطفي، الدخول في علاقات غير متوازنة، القلق من الهجر والتخلي، تبني سلوك مؤذ للذات، فضلا عن الاندفاعّ والتهور، والشعور الدائم بالاكتئاب و القلق والغضب، والمرور بتقلبات مزاجية حادة دون سبب واضح.
وبحسب دراسة صادرة عن المكتبة الوطنية الأمريكية للطب، لا يعد اضطراب الشخصية الحدية واحدا من الاضطرابات الشخصية الشائعة عالميا، حيث يٌشخص نحو 1.6 في المئة من البشر فقط بهذا الاضطراب.
لكن يعتقد أن نسبة الإصابة بهذا الاضطراب قد تكون أكبر من ذلك بكثير، إذ أن انعدام الوعي به وعدم البحث عن مساعدة متخصصة غالبا ما يجعل الأرقام الموثقة للإصابة به أقل بكثير من الواقع.
وتكمن خطورة هذا الاضطراب، بحسب دورية الطب النفسي الصادرة عن جامعة كامبريدج البريطانية في أن 70 في المئة من المشخصين به يحاولون الانتحار مرة على الأقل.
ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟
تقول الاختصاصية النفسية شذى عبد الجليل إن اضطراب الشخصية الحدية من أكثر الاضطرابات التى يجدها الاختصاصيون النفسيون بشكل يومي خاصة بين المراهقين.
وعلى الرغم من أن أسباب الإصابة بهذا الاضطراب غير معروفة ، إلا أن الأبحاث تشير إلى ارتباطه بخلل في كيمياء الدماغ، وهو ما يعنى أن الناقلات العصبية المسؤولة عن التحكم في المشاعر والمزاج تضطرب لسبب غير معروف علميا لكنها تتسبب في تقلبات مزاجية حادة.
وتكشف الدراسات العلمية فجوة بين الجنسين في معدل الإصابة بهذا الاضطراب فنحو 75 في المئة من المشخصين باضطراب الشخصية الحدية من النساء.
وتؤكد عبد الجليل أنه لا مبرر علميا واضحا لذلك، لكنها ترجح أن تكون التركيبة النفسية الخاصة بالفتيات هي ما تجعلهن أكثر حساسية من أقرانهم الذكور، وبالتالى تكون مشاعر الفتيات أسهل في تقلبها من الرجال، و هو ما يعنى أنهن أكثر عرضة للإصابة به.
وتقول بسمة البالغة من العمر 32 عاما إنها ظلت تعاني من أعراض اضطراب الشخصية الحدية لسنوات طويلة لكنها كانت تعتقد أن هذه طبيعة شخصيتها.
وتضيف “كان كل من حولي يقولون “إنني حساسة للغاية وعصبية وسريعة الغضب، ومثيرة للمشاكل”، لم أتخيل يوما أن هذه أعراض لاضطراب ما، حتى عام 2018 عندما كان كل شئ من حولي جيد للغاية لكني أشغر بالغضب و الحزن و أفكر في إنهاء حياتى، وقتها فقط قررت الذهاب للطبيب النفسي”.
التفاصيل نفسها تقريبا حكتها لي ميمونة وهي طالبة في قسم الكيمياء الحيوية في كلية العلوم، وتم تشخصيها باضطراب الشخصية الحدية قبل 3 أشهر.
تقول ميمونة أنها منذ الصغر تشعر بالوحدة، والرغم من كونها اجتماعية إلا أنها كانت دائما ما تشعر بالغربة وسط أهلها، وتضيف “كنت دائما أشعر أني غير مقبولة ولا أحد يحبني، وفاشلة، فأبدأ في إيذاء نفسي والتفكير في إنهاء حياتى بصور شتى”.
وتضيف “كنت أبحث عن الطريقة التى لا تسبب ألم لأنهى بها حياتى، أعرف أنه أمر محرم لكني لم أكن استطيع السيطرة على الفكرة نفسها و دلائما ما افكر فى البدائل المتاحة”.
توجهت ميمونة للأخصائية النفسية في الجامعة والتى أحالتها لطبيبة نفسية شخصتها باضطراب الشخصية الحدية قبل شهور لتبدأ رحلة العلاج بعد أن دخلت في حالة غضب وهياج شديد على خلفية خلاف عائلي بسيط مع أمها ، كما ذكرت لي.
وتضيف “تركت البيت وأنا في حالة غضب وبكاء شديد ورغبة في إنهاء حياتي، وقتها اتصلت بصديقتي التى نصحتني بزيارة الأخصائية النفسية في الجامعة، بزيارة الاخصائية بدأت رحلة العلاج التى أتحمس لها كثيرا”.
هل هناك علاج؟
تقول شذى عبد الجليل إن طرق العلاج يمكن إجمالها في أسلوبين: العلاج المعرفي السلوكي الذى يركز على تعديل الأفكار والمشاعر وتعديل السلوك. والأسلوب الآخر هو التحليل النفسي الذي يركز على استهداف العقل الباطن، والذكريات المخزنة فيه والتى تؤدي إلى اضطراب السلوك.
وتضيف أنه يستغرق علاج اضطراب الشخصية الحدية تقريبا أكثر من 20 جلسة، على مدار 18 شهرا .
وتقول ميمونة إن أسرتها بدأت في احتوائها بعد تشخصيها بالاضطراب وتحسنت علاقتها بوالدتها وأخوتها كثيرا خاصة بعد أن أدركوا أن ما تمر به أمر ليس بيدها و لايمكنها التحكم فيه، “مزاجي المتأرجح ليس دلعا و قراراتي المتهورة بخصوص ترك الدراسة أو ترك العمل الجانبي ليست عدم تحديد و طفولة كما كانوا يقولون، الأمر خارج عن سيطرتي”.
فكرت ميمونة في ترك دراستها دون أي أسباب لكنها تراجعت عن الفكرة لاحقا وعادت للانتظام في الدراسة، كما قررت ترك عملا جانبيا كانت تقوم به إلى جانب الدراسة بعد أن شعرت بالضيق والضغط الشديد.
و عن أهمية الاكتشاف المبكر لهذا الاضطراب، تقول الاختصاصية النفسية إن طريق العلاج طويل و يحتاج لكثير من الصبر لكن التشخيص المبكر يساعد كثيرا في اختصار الوقت والجهد خلال رحلة العلاج. و غالبا ما يلجأ المشخصون بالاضطراب للطبيب في مراحل متأخرة بسبب اعتقادهم أن الأعراض مجرد سمات شخصية عادية.
بحسب ميمونة “كان الأمر سيكون مختلفا، لو أن من حولي فهموا مبكرا معنى ما أقوله عن الشعور بالوحدة، لا أعنى أنهم ليسوا موجودين، هم حولي لكنى أشعر بالوحدة. أن يجعلوني أشعر بالأمان أكثر، أن يسمعوني أكثر”.
بدأت ميمونة رحلة العلاج وتقول “أتمنى في نهاية هذه الرحلة أن أكون شخصا عاديا لا أعرف كيف يكون الشخص عاديا؟ أريد أن ارتاح من هذه الأفكار المتسارعة والمتناقضة أحيانا”.
العلاج النفسي .. “مداواة بالحب والالتزام”
بسمة تعافت من اضطراب الشخصية الحدية بعد رحلة طويلة استمرت خمس سنوات، وتتذكر تلك الرحلة قائلة “كانت رحلة صعبة، أصعب ما فيها هو القبول، أن أقبل أني تعرضت لإساءه المعاملة في الطفولة لم يكن أمرا سهلا، أن أقبل أني مررت بصدمات صعبة من مقريبن مني كان منوطا بهم حمايتى كان أمرا موجعا ومعقدا”.
كما كان الالتزام بحضور الجلسات أمرا صعبا للغاية، خصوصا في ظل التوقعات غير المنطقية بشأن مدة العلاج، فبحسب بسمة “كنت أتوقع أن يستمر العلاج لسنة واحدة على الأكثر وبعدها أشعر بالتحسن و أكف عن زياة الطبيب، لكن ما كان يحدث معي هو أني كنت أتحسن جدا ثم أعود وانتكس بشكل كبير، بسبب كلمة صغيرة أو تعليق من شخص لا أعرفه أو موقف يبدو للآخرين بسيط”.
الإدراك كان أيضا واحدا من الصعوبات التى واجهتها بسمة في رحلة علاجها، “كلما فهمت حالتى و ما حدث معي، تألمت أكثر، ففي السنوات الثلاث ونصف الأولى من العلاج كنت أشعر بالألم في كل مرة أزور فيها الطبيب لمساعدتي في فهم حالتي، لكن نهاية الرحلة كانت تستحق كل هذا الألم”.
الوصم الاجتماعي
كما يضع الوصم الاجتماعي المحيط بالمرض النفسي المزيد من الأعباء على كاهل المرضي في رحلات علاجهم و أحيانا ما يعرقل كل الجهود المبذولة لمساعدتهم. و بحسب شذى عبد الجليل، الاختصاصية النفسية، تتجاوز نسب النجاح في علاج اضطراب الشخصية الحدية بحسب الدراسات والأبحاث نسبة الـ 50 % لكن في بعض الحالات لا تصل نسبة التحسن إلى 50 % لأسباب كثيرة تتعلق بالمشخص نفسه، و على رأسها الدعم العائلي، وهو ما يعتبر الأساس في نجاح علاج هذا الاضطراب إلى جانب العلاج النفسي.
بعكس ميمونة التى تحظى بدعم عائلي خلال رحلة علاج، لم تنعم بسمة بنفس الدعم و تقول “كان هناك رفض عنيف من أهلي لفكرة المرض النفسي، إذ لم يكن بمقدروهم استيعاب ما يحدث وكانوا رافضين لفكرة أنهم السبب في الاضطراب الذى أعانى منه، وكانوا دائما ما يرون أن هناك عوامل أخرى هي ما يتسبب في تعبي منها عملي أو البعد عن الله أو ترك الصلاة أوحتى زيارة الطبيب نفسه”.
ورغم حملات التوعية لاتزال الثقافة السائدة بشأن المرض النفسي تعرقل علاج الملايين. وتسبب الوصم الاجتماعي في إنهاء عمل أحمد الذى شُخص باضطراب الشخصية الحدية قبل سنوات، وقالى لي أحمد “بدأت رحلتى في اكتشاف إصابتي بالاضطراب بعد رحلة طويلة من التشخصيات الخاطئة، ففي عام 2015 كنت أعانى من آلام جسدية لم أكن خلالها قادرا على الحركة دون عكازين، بعد فترة وجهنى الطبيب لاختصاصي نفسي، وبعد رحلة طويلة أيضا من التشخصيات الخاطئة بالاكتئاب و الشيزوفرينيا وغيرها استقر أكثر من طبيب على تشخيصي باضطراب الشخصية الحدية”.
بعد أن عرف زملاؤه بالأمر أصبحت الأمور أصعب، مما أثر على عمله و أدائه بعد أن كان مدمنا على العمل، وبعدها تعرض أحمد لمشكلات قانونية انتهت بإنهاء عمله.
ويحكي أحمد البالغ من العمر 36 عاما أن اضطراب الشخصية الحدية كان يجعله يعيش في خوف دائم . أكثر ما كان يؤرق أحمد هو الخوف الشديد من الفقد والوحدة والعزلة، إلى الدرجة التى جعلته يفعل أي شئ ليحتفظ بحب المحيطين بي، و يضيف “كنت لا استطيع قول لا، حتى في العمل أنفذ مهام أكثر من اللازم ولا استطيع تكوين علاقات سوية مع الآخرين، وبالتالي أحاول ارضاء الآخرين بأي طريقة حتى لو كانت بالإنفاق ببذخ عليهم، مهما كانت الوسيلة حتى لو كانت بالاستدانة والحصول على قروض و بيع ممتلكاتي”.
أحمد متزوج ولديه ابنتان وعثر على عمل جديد لكنه لا يفصح عن تشخيصه بالاضطراب حفاظا على مصدر رزقة الجديد.
توقف أحمد و هو دارس لعلم النفس عن حضور جلسات العلاج بسبب ارتفاع تكلفته بعد أن كان يواظب عليها، واستمر لفترة في تناول العقاقير لكنه توقف عنها أيضا. و يقول ” كنت قد تركت عملي و ليس لدي اموال تكفي لجلسات العلاج المكلفة للغاية و التى تصل لـ 400 جنية مصري في الجلسة الواحدة كل أسبوع أي ما يعادل 20 دولارا”.
و يضيف “أنظمة الرعاية الصحية المجانية لا تتضمن العلاج النفسي و دائما ما تعتبره ترف و رفاهية و تعطي الأولولية للأمراض العضوية، و العبء المادي الكبير للعلاج النفسي يقع على كاهل المريض وحده”.
وتحاول جميعات خيرية في عدة دول عربية تقديم الدعم النفسي بالمجان لغير القادرين، و من بين هذه المؤسسات جمعية “مداواة” الخيرية في مصر. تواصلت مع المدير التنفيذي للمؤسسة داليا سلام و قالت لى “المؤسسة تقدم الدعم لنحو 65 مريض نفسي من غير القادرين، في شكل علاج مجاني و جلسات دعم مجانية، منهم تقريبا 16 شخصا يعانون من اضطراب الشخصية الحدية”.
وبحسب داليا تعانى المؤسسة من قلة الموارد المالية التى تسمح لها بالتوسع في تقديم الدعم لمزيد من المحتاجين، “فالعلاج النفسي مكلف للغاية، و غالبا لا يلتفت له الناس باعتباره حاجة ملحة كالعلاج العضوى وأكثر”.
“المتدينون يمرضون أيضا”
تقول بسمة أكثر ما ساعدها على التعافي من الاضطراب كان الحديث عنه، و تضيف “المشخصون باضطراب الشخصية الحدية دائما موصومين وهذا كان السبب وراء أن أصر على التحدث عن الموضوع ، وأن أوصل رسالة أننا بخير وأني لم أكن مسؤولة أنه لم تكن لدي طفولة جيدة”.
بدأت بسمة بكتابة يوميات على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بشأن اضطراب الشخصية الحدية، تحدثت فيها بانفتاح عن مشاعرها و تطور حالتها ، كما شاركت نصائح قدمها لها الطبيب النفسي على أمل أن يستفيد منها آخرون.
وتقول “كانت تصلني رسائل على الخاص من أشخاص يعانون في صمت و يسألون عن اسم طبيبي، عن خطوات للتعامل مع القلق المصاحب للاضطراب، كانوا أحيانا يسألون عن ما كنت أشعر به و ما إذا كان ظهرت علي نفس الأعراض في السابق”.
وتصف بسمة أن الوصول لهذه المرحلة من التصالح من الاضطراب لم تكن سهلة ، فكانت رحلة مداواة بالحب حيث تخلصت من شعورها بالغربة وأصبحت قادرة على تكوين صداقات ساعدتها على تجاوز الرحلة الشاقة ولم تعد كما كانت تبعد عن المحيطين بها خوفا من أن يقرروا البعد عنها. كما كان زوجها داعما كبيرا خلال تلك الفترة حتى تجاوزتها.
لكن فى المقابل، كثيرون يتفقون مع تفسير أسرة بسمة لاضطرابها، فالبعض يرى المرض النفسي هو نتيجة حتمية “للبعد عن الله” مما يؤخر علاج ملايين المرضى النفسيين حول العالم العربي. وشهدت وسائل التواصل الاجتماعى لغطا كبيرا مؤخرا بعد تصريحات منسوبة لطبيب مصري شهير يقول فيها إن المرض النفسي لا يصيب المتدينين. و أن البعد عن الله هو سبب كل الأمراض النفسية. وجاءت هذه التصريحات في أعقاب جدل أثير حول محاولة انتحار مذيعة مصرية . و أرجعت المذيعة محاولتها الانتحار لتشخصيها باضطراب الشخصية الحدية حيث تتلقى العلاج لكنها لاتزال تعانى من أعراض الاضطراب.
وتقف تلك التفسيرات والوصم الاجتماعي وغياب الدعم الحكومي لأنظمة الرعاية النفسية المجانية عائقا أمام إنقاذ ملايين حول العالم العربي من براثن المرض النفسي.
[ad_2]