لماذا لا يزال سؤال “ضرب الزوجة” مطروحاً؟
[ad_1]
- سناء الخوري
- مراسلة الشؤون الدينية – بي بي سي نيوز عربي
بالرغم من أن العنف الزوجي ممارسة منبوذة نظرياً وفقهياً على نطاق واسع، إلا أن هناك في بعض المجتمعات ما يشي بتصالح فاضح مع ما يوصف بأنه “حقّ للزوج في تأديب زوجته”، وإحالة ذلك إلى مبررات دينية.
لا شك أن المواضيع الدينية تثير فضول الكثيرين على مواقع التواصل، خصوصاً في ما يتعلق بشؤون الحياة الزوجية.
وبعيداً عن مواقف المؤسسات الدينية الرسمية أو تعاليم المرجعيات الفقهية والشرعية، يبقى موضوع “ضرب الزوجة” حاضراً في الإعلام وعلى مواقع التواصل بكثافة، ويعرف هذا الحضور في بعض الأحيان، تدخلات من قبل شيوخ يميلون إلى استعادة قضايا قد يرى البعض أن الزمن تجاوزها، أو إلى بثّ أفكار تحرّض على العنف وكراهية النساء.
وفقاً لأحدث إحصائيات الأمم المتحدة، تقتل امرأة كل 11 دقيقة على يد شريكها الحميم أو زوجها، في كل أنحاء العالم.
وبحسب منظمة “مساواة” الهادفة لتحقيق المساواة في الأسر المسلمة، من خلال دراسات تنجزها مختصات بالفقه والشرع الإسلاميين، “تدعم السياقات الإسلامية النسق الأبوي المألوف في كل الثقافات والأديان”. وهي، بحسب المنظمة تمنح الرجل سلطة مطلقة على الزوجة، بالاستناد إلى مفهوم “القوامة”، الذي “يشكل أساساً لعدد من قوانين الزواج المستقاة من الشرع، ويستخدم [هذا المفهوم] كمسوغ ديني لمنح الرجال حقوقاً وميزات لا تتمتع بها النساء”، وهو ما يستند في كثير من الأحيان إلى تفسير الآية 34 من سورة النساء.
ويقول نصّ الآية: {الرّجال قوَّامون على النّساء بما فضَّل اللَّه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصّالحات قانتات حافظات لّلغيب بما حفظ اللّه واللَّاتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ واهجروهنَّ في المضاجع واضربوهنّ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا}.
قد تكون الآية المذكورة، من أكثر الآيات إثارة للجدل بين علماء الدين، لاعتبار بعض المفسرين أنها تبيح الضرب غير المبرح في حال خروج الزوجة عن “طاعة زوجها”، في حين تقدم تفسيراتُ مجددين ومجددات في الفقه والتفسير، قراءة مغايرة لذلك.
إشكالية الفعل “ضَرَب“
ويرى مجددون ومجددات في الفقه والتفسير أن الآية تستخدم أحياناً لتبرير ممارسات اجتماعية عنيفة تطال النساء المسلمات داخل أسرهن في عصرنا الحالي، مع تبني شروح تسقط عن النص القرآني سياقه التاريخي، وأسباب نزول بعض آياته.
من بين هؤلاء، المفكر السوري محمد شحرور (1938-2019) الذي يفسر النشوز المشار إليه في نص الآية، على أنه استبداد المرأة برأيها وتسلطها، وليس خروجها عن طاعة زوجها، كما يرد في التفسير التقليدي. ويرى شحرور أن الضرب في الآية المذكورة لا يعني الضرب الجسدي، بل اتخاذ موقف صارم لتجريد الزوجة من تسلطها.
ويعلّل شحرور تفسيره بأن القرآن عند ذكره الضرب بمعناه الجسدي حدده على وجه التخصيص: {فوكزهُ موسى فقضى عليه} (القصص 15) حيث “وكزه” تعني “ضربه بجمع الكف”؛ أو بذكر أداة الضرب: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} (البقرة 60).
ويقول شحرور في موضع آخر: “{وَاضْرِبُوهُنَّ} ﻻ تعني إطلاقاً الضرب الجسدي سواء كان مبرحاً أو غير مبرح، ففعل “ضرب” له عدة معان: منها الضرب في سبيل الله {إذا ضربتم في سبيل اللّه} وهناك الضرب في اﻷرض {وإِذا ضربتم في الأَرض}، والضرب باﻷرجل ويعني العمل، وهناك ضرب في اﻷمثال”.
من جهتها، تتطرق المفكرة وعالمة الفقه الأمريكية آمنة ودود في كتابها “القرآن والمرأة” للآية 34، وتعود إلى معنى الفعل “ضرب”، وتفسره بدورها بمعنى ضرب المثل، أو الابتعاد في المسافة.
وتضع ودود الآية في سياقها التاريخي فترى أنه “في ضوء العنف المفرط الممارس ضد النساء وممارسات الوأد (في الجاهلية) التي أدانها القرآن، لا يمكن أن تقارب تلك الآية إلا بوصفها تحريماً للعنف بغير رادع على النساء، لذلك فإنها ليست إباحة، بل تقييداً شديداً لممارسات كانت قائمة” في ذلك الحين.
وتعتبر أن مشكلة العنف الزوجي في المجتمعات المسلمة اليوم لا ترتبط بجذور قرآنية، فالممارسات الأبوية برأيها موجودة قبل الأديان، وتشير إلى “إساءة فهم الآية من قبل الرجال الذين يعللون ضرب زوجاتهم بإباحة دينية”، لأن القصد من الآية، بحسبها، “هو إعادة التناغم إلى العلاقة، وليس زيادة الشقاق”، إضافة إلى أن القرآن لا يخص النساء وحدهن بالنشوز، بل ينسبه إلى الرجال أيضاً – {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضاً} – النساء :128.
من بين الاجتهادات الأخرى التي حاولت تقديم مقاربة لموضوع الضرب الوارد في الآية 34 من سورة النساء، بشكل يتجاوز التفسيرات التقليدية لها، أو يقدم رؤية مغايرة للتعامل معها، يبرز اجتهاد العلامة محمد حسين فضل الله (1935-2010) والذي أثار جدلاً واسعاً عند صدوره.
لم يحد فضل الله عن التفسير التقليدي للضرب الوارد في الآية، إذ فسره بأنه “لا يمثل الضرب اللامعقول الذي يمارسه الإنسان بطريقة انفعالية”، بل “هو الضرب الخفيف الذي يحمل هزة نفسية (للزوجة) كي تعود إلى رشدها”، لكنه أفتى بحق المرأة بالدفاع عن نفسها في حال ضربها زوجها، من منطلق أن الله أباح لأي إنسان ردّ الأذى عن نفسه، بحسب موقع “بينات” المختص بنشر فتاوى المرجع الراحل.
ويشرح فضل الله ذلك في مقابلة صحافية قال فيها: “عندما أفتيت بأنه من حقّ المرأة ضرب زوجها من أجل الدفاع عن نفسها في حال ضربها ظلماً، إنّما ارتكزت في ذلك إلى النصّ القرآني انطلاقاً من قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}”.
الجدل حول كيفية التعامل مع قضية الضرب الواردة في القرآن إذاً، ليس مستجداً، بل يطفو دوماً إلى السطح بين فترة وأخرى، عند كل مفترق طرق يتعلّق بإقرار قوانين عنف أسري جديدة، أو عند مقتل امرأة تحت الضرب المبرح.
في فبراير/ شباط الماضي، وخلال نقاش في البرلمان المصري حول تغليظ عقوبة تعدي الزوج على زوجته في قانون العقوبات، استعيد تصريح قديم لشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، قال فيه في برنامج تلفزيوني، يعود إلى العام 2019: “الضرب ليس واجباً، أو فرضاً، أو سنة، أو مندوباً لكنه أمر مباح”، وتابع بالإشارة إلى أن “ولي الأمر يمكن أن يقيد المباح”، بمعنى أن الدولة يمكنها سنّ قوانين تحدّ من الأذى.
يومها تسبب التصريح بنقاش حاد في مصر، وخرجت دار الإفتاء المصرية للردّ بتغريدة جاء فيها: «”الرجال” لا يضربون النساء».
أعاد السجال المعلن إلى الضوء مسألة الخلاف الفقهي في المؤسسات الأزهرية بشكل خاص، والإسلامية بشكل عام، حول تفسير آيات تتعلق بالنساء.
فهل فعلاً تعد مسألة “ضرب الزوجة”، موضع “خلاف” في الأدبيات الأزهرية؟
رداً على سؤال بي بي سي نيوز عربي، يقول رئيس تحرير “صوت الأزهر” أحمد الصاوي إن مسألة رفض الضرب “محسومة فقهياً داخل الأزهر، وجميع المرجعيات الأزهرية سواء هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية أو مركز الفتوى داخل الأزهر وعلى رأسهم الإمام الأكبر”. يؤكد الصاوي أن كل هذه المرجعيات “تجمع على إدانة هذا الأمر ومحاصرته فقهياً وتأييد صدور قانون يجرم كل أشكال العنف الأسري”.
يحيل الصاوي الخلاف بشأن المسألة إلى المجتمع والدولة، إذ يقول إن مسألة “الإرباك الموجود لدى الناس حول هذه المسألة، لا علاقة له بالخطاب الفقهي، بل بالعادات والتقاليد، إلى جانب وجود فراغ تشريعي وقانوني”، مؤكداً أن “سد الفراغ التشريعي سيحل الإرباك، لأن الجدل الفقهي بات يعدّ من الماضي أو من التاريخ”.
ويلفت الصاوي إلى أن الأزهر يتلقى أسئلة كثيرة حول تأويلات الآية، و”يرد عليها بالمناهج الأزهرية المعتمدة، والتي تشير إلى أن كلمة واضربوهن في الآية الكريمة لا تعني أمراً بالضرب وإلا لأصبح كل زوج لا يضرب زوجته آثماً”.
قهر تقاطعي
إن كانت المؤسسة الأزهرية تعدّ الجدل حول مسألة الضرب “من الماضي”، فأين مكمن الخلل إذاً؟ ولماذا تتقاذف المؤسسات الدينية والحكومات مشاريع القوانين حول العنف الأسري، وكأنها كرة نار؟
بالنسبة لبعض النسويات الناشطات في مناهضة العنف الأسري، فإنّ الإسلام، كغيره من الأديان، يحمل جذوة فكرية ترى النساء كأنهن مقتنيات وفي مرتبة دنيا، ولا طريق للالتفاف على ذلك، مهما تقدمت التأويلات.
في المقابل، تحاول النسويات الإسلاميات استعادة التفسير وردّ التأويل إلى أساس الإسلام كما يفهمنه، كدين يدعو إلى القسط والمعروف والعدل.
تقول الباحثة ريتا فرج الحائزة على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، وصاحبة كتاب “امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة: خطاب اللامساواة في المدونة الفقهية”، إن “مسألة العنف أو الضرب ليست مسألة إسلامية حصراً، فالعنف في المجتمعات الغربية مثلاً مرتفع، وذلك ليس لأسباب دينية، فالرجل الذي يضرب زوجته، سواء أكان مسلماً أو مسيحياً أو بوذياً، لا ينتظر إذناً دينياً للقيام بذلك”.
ترى فرج أن “العنف ضد النساء في العالم العربي، ناتج عن القهر التقاطعي، على أسس مجتمعية إثنية وسياسية وثقافية، وتأتي طبقة الدين لتزيد منه”.
لكنها تقر في المقابل، أن “النص القرآني نفسه أو أي نص ديني، فيه حمولة أبوية، من الصعوبة بمكان أن نحرره منها مهما حاولنا تقديم رؤيا تأويلية حديثة”.
تدرك الكاتبة اللبنانية أن الحديث عن قطيعة مع كل المدونة التراثية الدينية قد يثير إرباكاً بين المحافظين، وتدعو بالمقابل إلى اعتماد ما تصفه بـ“جدلية التجاوز”، وتشرحها بأنها “إعادة البناء واعتبار التفسيرات الفقهية الأبوية عتبة علينا تجاوزها”.
إعادة قراءة التراث
تلفت باحثة الدكتوراه الكويتية سارة الشمّري، إلى ما تصفه بإصرار مؤسسّتي الفقه والحديث وشيوخ الدين من الرجال عموماً على إثارة قضايا “مستفزة وثانوية وميلهم إلى تعظيمها ومحورتها”. وتعتبر أن هذا ليس أمراً جديداً؛ “إنما هو نمط يُتبّع في كتب التراث التي بُدئ بتدوينها في مرحلة متأخّرة تُجاوز القرن من وفاة النبي والتناقل الشفاهي للأحاديث”.
برأي الشمّري، “خلقت مأسسة الحديث خطابات أدّت بشكل ما إلى ترسيخ وتأصيل بعض المقولات إلى حدّ إهمال تعارضها مع مقولات أخرى سواءً في المروي الشفاهي من الأحاديث أو في القرآن”.
تشير مثلاً إلى حديث “لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”، الذي “نجد له حضوراً متكرراً”، وتعتبر أن “لنا الحق في التشكيك بظروف ظهوره”، خاصة “حين نجد في مقابله آيات قرآنية تمدح بلقيس المرأة وحكمتها وحكمها القائم على الشورى، فتصفها وقومها وصفاً شعريّاً جميلاً”.
برأيها، لا يكمن الحل في القطيعة التامة مع التراث، “لأن القطيعة مع التراث تعني تسليمنا كنساء بكلّ ما قيل لنا ولُقِّنّاه أو تلقّيناه من الفقهاء معاصرين كانوا أم قدماء، إذ صارت تأويلاتهم على النصوص هي النص حتى غدونا بعيدين عن لغة النصوص ذاتها، غريبين عن محاورتها واستكشافها”.
الحل برأيها هو الاتصال مع النماذج النسائية التي تزخر بها كتب التراث الإسلامي ومحاولة استنطاق المسكوت عنه وقراءة ما بين السطور، لأن ذلك قد “يساعدنا في فهم تحرك النساء ضمن المنظومة السياسية الدينية ورصد كيفية تعاملهن معها داخل أطرها”.
تعد الشمّري أطروحة بعنوان “بلاغات عائشة بنت أبي بكر في أخبارها والمرويّ عنها”، وتستشهد بأسلوب عائشة في محاججة الصحابة والرد عليهم بجدية أحياناً وبنفس ساخر أحياناً أخرى حين يتعلّق الأمر بأحكام المرأة، مستندة في ذلك إلى معرفتها القريبة بالنبي محمد بصفتها زوجته، وأخذها لكثير من أمور الدين عنه مباشرة.
تضرب الباحثة مثالاً من أحد المواقف المذكورة في كتب الحديث، إذ يُحكى أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر النساء إذا اغتسلن بعد الجماع أن يفككن ضفائرهنّ، وحين بلغ عائشة قوله، قالت ساخرةً: “يا عجباً لابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهنّ أن يحلقن رؤوسهن”.
تقدم الشمّري قراءة لهذا الموقف فحواها أنه “كان بمقدور عائشة أن تردّ القول دون استهزاء، إلا أنها كانت على الأغلب تعرف أثر هذا الأسلوب في رفع الوعي إذ يضع السامع في موضع يشركه في إدراك الخطأ”.
وفي مثال آخر تذكره الشمري: تناهى إلي عائشة ما قاله أبو هريرة نقلاً عن النبي محمد من أنّ “الطيرة (الشؤم) في المرأة والدابّة والنار”، فغضبت غضباً شديداً، وقالت: “والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن كان نبيّ الله يقول: كان أهل الجاهلية يقولون (كذا وكذا)”.
من هذا المنطلق، ترى الشمّري أن “إعادة قراءة التراث الإسلامي عامة والحفر في مؤسسة الحديث خاصة، عمليّة ضرورية، حتى لا يتوهم بعض فقهاء اليوم أنهم وحدهم من يملك ملكة قراءة النص وتفكيك الرموز”.
وبرأيها، فإن إحدى الطرق الناجعة في الرد “على نقاشات متكررة ما عادت تصلح لزماننا هذا ولربما ما كانت بالصورة الحدية التي يصورها هؤلاء، هي السخرية”، لكنها تضع شرطاً هو أن تأتي هذه السخرية “عن علم”.
[ad_2]
Source link