كيف أدى اكتشاف بنية الـ دي إن إيه قبل نحو 70 عاما إلى ثورة علمية هائلة؟
[ad_1]
- سمية نصر
- بي بي سي نيوز عربي
ربما كان الاعتقاد السائد لدى البعض هو أن الاكتشافات العلمية تحدث بشكل مفاجئ وعشوائي، يؤدي إلى أن يصيح المُكتشف بعبارة “وجدتها!” ليتغير مجرى التاريخ العلمي – وإن كان الواقع يشير إلى أن أن تلك الاكتشافات عادة ما تستغرق سنوات وسنوات من الجهود المضنية التي ربما تواجه الكثير من الإخفاقات قبل أن تكلل بالنجاح، ويحدث التقدم بشكل تدريجي.
ويعتبر إعلان العالمين فرانسيس واتسون وجيمز كريك في عام 1953 عن اكتشاف بنية الحمض النووي منقوص الأكسجين “دي إن إيه” نقطة تحول علمية هائلة حَرية بعبارة “وجدتها!”، إذ إنها أدت إلى تغيير فهمنا للحياة وكانت إيذانا ببدء حقبة جديدة لعلم الأحياء الحديث.
فما هو الدي إن إيه، وكيف تم اكتشافه، وما أبرز ما أفضى إليه ذلك الاكتشاف من تطورات وتطبيقات علمية؟
الجينات والكروموسومات
يعد الدي إن إيه أساس كافة أشكال الحياة البيولوجية ويوجد في نوى جميع الخلايا، ويحمل المعلومات الوراثية للكائنات الحية، وكافة التعليمات التي تحتاج إليها للنمو والتكاثر والبقاء.
يتكون الحمض النووي منقوص الأكسجين من جزيئين طويلين على هيئة حلزون مزدوج أو سلم معقوف.
والجينات هي أجزاء صغيرة من الدي إن إيه، وتحمل معلومات لخصائص وملامح الكائن الحي، مثل شكل الأذن أو لون العينين. وتحمل المجموعات المختلفة من الجينات سمات مختلفة، وهناك العديد من الجينات داخل الكروموسوم الواحد.
وداخل نواة الخلية، ينقسم الدي إن إيه إلى ضفائر يطلق عليها اسم الكروموسومات أو الصبغيات.
يختلف عدد الكروموسومات من كائن حين إلى آخر: يوجد 46 كروموسوما داخل كل خلية من خلايا جسم الإنسان، في حين يبلغ عدد الكروموسومات في خلية ذبابة الفاكهة ثمانية فقط، أما خلية الكائن البحري المعروف باسم سرطان حدوة الحصان فتحتوي على عدد هائل من الكروموسومات هو 208!
نصف الكروموسومات يُتوارث من الأم والنصف الآخر من الأب. يفسر ذلك سبب حمل الكائنات الحية لصفات وراثية من كلا الأبوين. فطفل ما، على سبيل المثال، قد يكون له شعر أسود مثل أبيه وعينان زرقاوان مثل أمه.
ويتفرد كل شخص بدي إن إيه يميزه عن غيره – باستثناء التوأمين المتماثلين اللذين يشتركان في نفس الحمض النووي، كونهما ينشآن من الخلية الأولية ذاتها.
ونظرا للأهمية الكبيرة للدي إن إيه لصحة الإنسان وبقائه وتكاثره، فإن أي عطوب أو طفرات يتعرض لها قد تسهم أحيانه في إصابته بالأمراض، كما أن تراكمها يعد من الأسباب الرئيسية للشيخوخة وفق بعض النظريات.
لكن تجدر الإشارة إلى أن بعض الطفرات والتحورات من الممكن أن تكون مفيدة وتسهم في تنوع الجنس البشري.
يظن كثيرون أن عالم الأحياء الأمريكي جيمز واتسون (1928-) وعالم الفيزياء الإنجليزي فرانسيس كريك (1916-2004) هما أول من اكتشف الدي إن إيه في خمسينيات القرن الماضي، لكن ذلك غير صحيح.
يعود الفضل في اكتشاف الحمض النووي منقوص الأوكسجين إلى عالم الطب والأحياء السويسري فريدريش ميشر (1844-1895).
في عام 1869، تمكن ميشر من اكتشاف مادة تحتوي على كل من الفسفور والنيتروجين في نواة خلايا الدم البيضاء الموجودة في القيح. هذه المادة أطلق عليها في بادئ الأمر اسم nuclein (النيوكلينات) لأنها كانت على ما يبدو تُنتج في نوى الخلايا (nuclei)، ثم عرفت فيما بعد باسم الحمض النووي بعد عام 1874، حينما تمكن ميشر من عزل مكوناتها إلى أحماض وبروتينات. هذه المادة هي ما يعرف الآن بالحمض النووي منقوص الأكسجين المسمى اختصارا “دي إن إيه”.
أجرى ميشر وطلابه بجامعة بازيل العديد من الدراسات على الخصائص الكيميائية للحمض النووي، لكنهم لم يدركوا وظيفته. لم تتضح أهمية اكتشاف ميشر إلا عندما أجرى عالم الكيمياء الحيوية الألماني ألبريشت كوسيل (1853-1927) أبحاثه على المركب الكيميائي للنيوكلينات.
بين عامي 1885 و1901، استخدم كوسيل وطلابه التحلل المائي وغيره من الوسائل العلمية لتحليل الأحماض النووية الموجودة في النيوكلينات، واكتشف مركباتها العضوية التي اكتشف فيما بعد أنها قواعد نيتروجينية وتعد جزءا حيويا من تركبية الدي إن إيه والحمض النووي الريبوزي “آر إن إيه”.
وكان لعلماء آخرين مثل الأمريكي من أصل روسي فيباس ليلفين (1869-1940) والأمريكي إروين تشارغراف (1905-2002) والإنجليزية روزاليند فرانكلين (1920-1958) الكثير من الأبحاث المهمة التي ساهمت في اكتشاف المزيد عن التركيبة الكيميائية للدي إن إيه. ورغم أنهم لم يتمكنوا من التعرف على وظيفته، إلا أن أعمالهم كانت بمثابة حجر الأساس لما وصف بأنه أعظم اكتشاف بيولوجي في القرن العشرين.
واتسون وكريك
كان العلماء الذين يدرسون الدي إن إيه في خمسينيات القرن الماضي يستخدمون مصطلح “جين” للإشارة إلى أصغر وحدة من المعلومات الوراثية، لكنهم لم يكونوا يعرفون شكل ذلك الجين أو تركيبته الكيميائية أو كيف يستنسخ نفسه بدقة عالية جيلا بعد جيل.
أدرك العالمان كريك وواتسون في مرحلة مبكرة من دراساتهما أن الحصول على معلومات مفصلة عن التركيب الثلاثي الأبعاد للجين كان بمثابة مشكلة رئيسية تواجه علم الأحياء الجزيئي. فبدون تلك المعرفة، لا يمكن فهم الصفات الموروثة والتكاثر.
بدأ واتسون وكريك العمل على حل تلك المشكلة معا، حيث اضطلعا بمهمة بحثية شاقة شملت انخراطهما في فروع علمية عديدة كعلم الوراثة والكيمياء الحيوية والكيمياء الطبيعية والتصوير البلوري بالأشعة السينية.
بنا العالمان أبحاثهما على نتائج التجارب المهمة المتفرقة التي أجراها علماء آخرون على التركيبة الكيميائية للدي إن إيه وقاما بتوحيدها في إطار نظرية مترابطة، واستفادا من خلفياتهما العلمية التي كان يكمل بعضها بعضا – فقد كان كريك متخصصا في الفيزياء والتصوير البلوري بالأشعة السينية، بينما كانت خلفية واتسون العلمية في مجال علم الوراثة الفيروسية والبكتيرية – وتوصلا إلى اكتشاف أن للدي إن إيه تركيبا معقدا بما يكفي لأن يجعل منه النواة الرئيسية للحياة.
نشر واتسون وكريك اكتشافاتهما في مقال تحت عنوان “تركيبة الحمض النووي منقوص الأكسجين” في دورية “Nature” العلمية الصادرة في بريطانيا في 25 أبريل/نيسان عام 1953. وتضمن المقال رسما تخطيطيا للحلزون المزدوج أو السلم المعقوف.
وشرح العالمان في المقال كيف يقوم جزيء الدي إن إيه باستنساخ نفسه خلال انقسام الخلية من خلال التفكك إلى خيوط منفردة يصير كل منها بمثابة قالب لحلزون مزدوج جديد، بما يمكن الكائنات الحية من التكاثر بدقة هائلة، باستثناء بعض التحورات الجينية التي تحدث في بعض الأحيان.
استعان واتسون وكريك بالدراسات التي أجرتها روزاليند فرانكلين على الدي إن إيه باستخدام الأشعة السينية، حيث سلطت تلك الأشعة على الجزيء، ما أنتج صورة ظل لبنيته.
كانت فرانكلين عالمة شابة خجولة تعرضت بوصف مؤرخين علميين للكثير من التصرفات المتعالية والتمييز، مما دفعها إلى العمل بمفردها. وقام زميل لها هو موريس ويلكينز بعرض الصور التي التقطتها والتي توضح بنية الدي إن إيه على واتسون وكريك بدون استشاراتها.
في عام 1962، تقاسم واتسون وكريك وويلكينز جائزة نوبل في الطب. كانت روزاليند فرانكلين قد توفيت عام 1958، ورغم إسهاماتها في اكتشاف بنية الدي إن إيه، فإن الجائزة لا تمنح للمتوفين. وتشير العديد من المصادر التاريخية والعلمية إلى أن واتسون وكريك لم يوفياها حقها ولم يعترفا بالشكل الكافي بالدور الذي لعبته في اكتشافهما.
يجمع العلماء على أن اكتشاف التركيب الكيميائي للدي إن إيه وقيامه بعملية الاستنساخ كان بمثابة نقطة تحول وبداية لحقبة جديدة لعلم الأحياء.
منذ عام 1953، بدأت صناعة ضخمة مرتبطة بعلم الأحياء ترتكز على الدي إن إيه. وشهد العالم ظهور الهندسة الوراثية وعلم الأحياء التركيبي الذي يهدف إلى تصميم وبناء مسارات أو كائنات أو أجهزة بيولوجية اصطناعية جديدة أو إعادة تصميم النظم البيولوجية الطبيعية الموجودة، لأغراض علمية وأخرى تجارية.
الجينوم
في عام 2003، أعلن فريق من العلماء الدوليين عن استكمال مشروعهم الذي بدأ في عام 1990 بهدف رسم خريطة للجينوم البشري. والجينوم هو مجموعة المعلومات الوراثية الموجودة في تسلسل دي إن إيه في الكائن الحي.
يسمح رسم خريطة الجينوم البشري للعلماء بعزل الدي إن إيه لشخص ما ودراسة الشفرات الجينية المختلفة به، ما يساعد في تحديد احتمالات الإصابة بمرض ما. على سبيل المثال، إذا كانت سيدة لديها نفس الشفرة الجينية لمريضة بسرطان الثدي، فإن ذلك يعني وجود احتمال كبير لأن تصاب تلك السيدة بسرطان الثدي في المستقبل، وهو ما سيمكنها من إجراء الاختبارات أو تلقي العلاجات اللازمة في مرحلة مبكرة ومن ثم زيادة احتمالات الشفاء.
وقبل بضعة أيام، أعلن باحثون من جامعة كامبريدج البريطانية أنهم تمكنوا من تحديد العشرات من الأنماط الجديدة للمادة الوراثية لأورام سرطانية من خلال دراسة خرائط الجينوم لأكثر من 12000 مريض بالسرطان في إنجلترا، مما منحهم الأمل في التوصل إلى علاجات أكثر فعالية ووسائل أنجع للوقاية.
وقد اكتشف هؤلاء الباحثون 58 نمطا -أو تحورا- جديدا في دي إن إيه المرضى، ما يعني أن ثمة أسبابا للسرطان لا يعرفها العلماء بعد. ويأمل الباحثون في أن يؤدي الاكتشاف إلى إجراء دراسات مستقبلية تتوصل إلى أسباب التحورات والطفرات المسببة للسرطان.
العلاج بالجينات
هو مقاربة طبية تسعى إلى معالجة مرض ما أو الوقاية منه من خلال إصلاح خلل جيني. وتسمح تقنيات العلاج بالجينات للأطباء بمعالجة بعض الأمراض من خلال تغيير التركيبة الجينية للمريض بدلا من استخدام العقاقير أو الجراحة.
وتضمنت الطرق الأولية لهذا النوع من العلاج إضافة جين جديد للخلية لمساعدتها في مكافحة المرض، أو إضافة نسخة غير معطوبة من جين ما تحل محل النسخة المتحورة المعيبة المسببة للمرض.
وأدت الدراسات التي أجريت لاحقا إلى تطوير تقنيات ذلك النوع من العلاج لتشمل ما يعرف بتعديل الجينوم، وهي تقنية تشبه استخدام مقص لقطع الدي إن إيه عند نقطة ما، ثم يستطيع العلماء إزالة أو إضافة أو استبدال الحمض النووي عند تلك النقطة.
حل ألغاز الجرائم
باستطاعة خبراء الطب الجنائي الآن مقارنة الدي إن إيه الذي يعثر عليه في مسرح الجرائم (من الشعر أو الدم على سبيل المثال) مع عينات الدي إن إيه المأخوذة من المشتبه بهم.
مثل هذه التقنية أدت إلى ثورة هائلة في نظم العدالة الجنائية خلال العقود القليلة الماضية، وزادت من احتمال التعرف على مرتكبي الجرائم بشكل شبه مؤكد، كما قللت من احتمال معاقبة أبرياء عن طريق الخطأ.
في بعض الحالات، مكن التقدم الذي أحرز في هذا المجال لمؤسسات إنفاذ القانون من حل ألغاز جرائم ارتكبت قبل عقود، من خلال فحص عينات غنية بالدي إن إيه (كقصاصات الأظافر) كانت قد جمعت قبل ابتكار تحليلات الدي إن إيه.
إضافة إلى التاريخ البشري
يحتوي حمضنا النووي على قصص تعود إلى الماضي السحيق، تسبق بدء البشر في تدوين تاريخهم.
فدراسة الدي إن إيه والجينوم البشري تضيف إلى الاكتشافات الأثرية، ويمكنها أن تخبرنا بمعلومات عن الأنماط الديموغرافية للبشر، وما المجموعات البشرية التي اختلطت ببعضها بعضا وأين ومتى تم ذلك الاختلاط، وأنماط الهجرة البشرية..إلخ.
وفي أواخر فبراير/شباط الماضي، أعلن علماء من جامعة أوكسفورد أنهم تمكنوا من إنشاء أضخم شجرة عائلة بشرية على الإطلاق، تعود أنسابها الأولى إلى 100 ألف عام مضت، مما سيسمح للأفراد بتتبع أنسابهم، ومعرفة من كان أجدادهم الأولون وأين عاشوا، وكذلك صلة القرابة بينهم وبين كل شخص يعيش في الوقت الحالي. وقد استخدم هؤلاء العلماء الدي إن إيه من مصادر بعضها قديم وبعضها حديث لفهم تاريخ الإنسان وتطوره.
ويعد ذلك التطور من بين الأحدث في سلسلة من التطورات المذهلة التي شهدها العقدان الماضيان في مجال أبحاث الجينات البشرية، والتي أثمرت عن جمع بيانات الجينوم لمئات الآلاف من الأفراد، بمن فيهم آلاف من الأشخاص الذين عاشوا في حقب ما قبل التاريخ، وغير ذلك من الإنجازات العلمية المذهلة، والتي ما كان أي منها ليتحقق بدون اكتشاف الحلزون المزدوج للحمض النووي منقوص الأكسجين.
[ad_2]
Source link