حركة عدم الانحياز: من طموحات مؤتمر باندونغ إلى تحديات اليوم
[ad_1]
في وقت يشهد فيه العالم تصاعدا شديدا في التوتر وحالة استقطاب حادة جراء الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، يبرز مأزق خاص بالدول التي تقضي مصالحها بعدم المجازفة بانضمام صريح إلى أحد طرفي الصراع.
ومن هذه الدول مصر والهند وصربيا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وباكستان، وأندونيسا، هي دول أدانت الغزو لكنها رفضت المشاركة بالمقاطعة والالتزام بالعقوبات التي فرضت على روسيا.
واليوم تجد هذه الدول نفسها أمام ضغوط أوروبية وأمريكية متزايدة للانضمام إلى حلف المقاطعة، وبوجود تهديد مضمر لا يمكن تجاهله بأن عدم الاستجابة لهذه الضغوطات قد يضعها في خانة المعادين للغرب.
في المقابل فإن اتخاذ هذه الدول موقفا قد يقودها إلى التضحية بعلاقاتها بروسيا، ليس من الضروري أن يضمن لها الحصول على الدعم الأوروبي والأمريكي.
إنها أجواء تذكر إلى حد بعيد بما كان عليه الحال في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ذروة الحرب الباردة، والاستقطاب بين المعسكرين السوفييتي والأمريكي وحلفي وارسو والناتو.
وكانت تلك الأجواء هي التي قادت حينها الدول، التي لم تسع رسميا إلى التحالف مع الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي، وفضلت أن تكون مستقلة أو محايدة، إلى تشكيل تجمع غير منحاز إلى أي من المعسكرين تحت اسم “حركة عدم الانحياز”، التي اُعتبرت يوما ما التكتل الموازن بين كفتي العالم، والحل لتجنب الغرق في صراعات القوى الكبرى.
فما هي حركة عدم الانحياز، التي يعتقد مراقبون أن تفعيلها أو إنتاج بديل لها أكثر كفاءة في التعامل مع تحديات اليوم، بات ضرورة ملحة؟
كيف تأسست، وما هو المؤتمر الذي عقد قبل 67 عاما بالتمام، ويعتبر النواة الأساسية لانطلاق الحركة التي تبنت مبادئه؟
مصطلح “عدم الانحياز”
تعود صياغة مصطلح “عدم الانحياز” بحسب مصادر عديدة، إلى فينجاليل كريشنا مينون، السياسي والدبلوماسي الهندي، الذي تسلم منصب وزير دفاع الهند خلال فترة من حكم جواهر لا نهرو، أول رئيس وزراء للهند بعد استقلالها.
فقد استخدم مينون الذي ترأس وفد بلاده إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مصطلح عدم الانحياز خلال خطابه أمام الجمعية عام 1953 والذي تحدث فيه عن سياسات حكومته الحيادية والمناهضة للاستعمار.
ولاحقا، استخدم نهرو المصطلح نفسه خلال خطابه في كولومبو بسريلانكا عام 1954.
ولم تكن سياسة نهرو الخاصة بعدم الانحياز تهدف إلى تعزيز كتلة ثالثة تتخذ موقفا سلبيا من الكتلتين الأخريين، وإنما التأكيد على هوية مستقلة، والقيام بدور إيجابي، وضمان حرية صنع القرار للدول التي تحررت حديثا من الاستعمار.
مؤتمر باندونغ ونواة التأسيس الأولى
شهد العالم في مطلع الخمسينيات في أعقاب الحرب العالمية الثانية استقلال جزء كبير من المستعمرات في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتكوينها دولا مستقلة تجمعها قواسم مشتركة، تتجلى في معارضة سياسة الارتباط بأي من المعسكرين الشرقي أو الغربي، والسعي لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنهاء السيطرة الأجنبية بكافة أشكالها.
في ظل هذه الأجواء عقد مؤتمر باندونغ (المؤتمر الآسيوي – الأفريقي)، وهو أول مؤتمر واسع النطاق على مستوى دول أفريقية وآسيوية، معظمها حديثة الاستقلال، وقد نظم بمبادرة رئيسية من الهند وإندونيسيا، إلى جانب ميانمار (بورما حينها) وسريلانكا (سيلان حينها) وباكستان.
كانت الفكرة قد بدأت بتشكيل منظمة إقليمية آسيوية، وقد سبق مؤتمر باندونغ مؤتمر آسيوي عقد في الهند في مارس/ آذار عام 1947، ومؤتمر ثان عقد في نيودلهي أيضا في يناير/ كانون الثاني عام 1949، وشاركت فيه 19 دولة.
ولاحقا توسعت القاعدة لتشمل أفريقيا أيضا، وعقد مؤتمر باندونغ، الذي يعتبر الحدث الرئيسي الذي قاد بشكل مباشر إلى قيام حركة عدم الانحياز.
عقد المؤتمر في مدينة باندونغ، عاصمة مقاطعة جاوة الغربية في إندونيسيا، خلال الفترة من 18-24 أبريل/ نيسان عام 1955، وكانت أهدافه تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي الأفرو آسيوي، ومعارضة الاستعمار بكافة صوره بما فيها الاستعمار الجديد، وبحث القضايا العالمية، وانتهاج سياسات مشتركة في العلاقات الدولية.
وشارك في المؤتمر رؤساء ورؤساء حكومات 29 دولة ينتمون إلى الجيل الأول من قيادات ما بعد الحقبة الاستعمارية من قارتي أفريقيا وآسيا، ومن أبرزهم نهرو، والرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو، وجمال عبد الناصر.
وكانت الدول العربية المشاركة هي مصر، والسودان، وسوريا، ولبنان، واليمن، والأردن وليبيا، والسعودية والعراق. ومن بين الدول الأخرى المشاركة إيران، وتركيا، والصين، وقبرص، الفلبين، وتايلاند، وكمبوديا، وأفغانستان، وإثيوبيا واليابان.
ودعا المشاركون الذين حصل العديد من بلدانهم على الاستقلال حديثا، إلى “عدم استخدام أحلاف الدفاع العسكرية الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من الدول الكبرى في سياق الحرب الباردة، وأكدوا على ضرورة امتناع الدول النامية عن التحالف مع أي من القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والانضمام معا لدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها ضد جميع أشكال الاستعمار والإمبريالية”.
وتم في هذا المؤتمر الإعلان عن المبادئ التي يجب برأي المشاركين أن تحكم العلاقات بين الدول، والتي عرفت باسم “مبادئ باندونغ العشرة”، وتم تبنيها لاحقا كأهداف رئيسية لسياسة عدم الانحياز، وأصبحت “جوهر” مبادئ حركة عدم الانحياز.
مبادئ مؤتمر باندونغ
تنص مبادئ المؤتمر العشرة على:
- احترام حقوق الإنسان الأساسية، وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
- احترام سيادة جميع الدول وسلامة أراضيها.
- إقرار مبدأ المساواة بين جميع الأجناس، والمساواة بين جميع الدول، كبيرها وصغيرها.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التعرض لها.
- احترام حق كل دولة في الدفاع عن نفسها، بطريقة فردية أو جماعية، وفقا لميثاق الأمم المتحدة.
- عدم استخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من الدول الكبرى. وعدم قيام أي دولة بممارسة ضغوط على دول أخرى.
- الامتناع عن القيام، أو التهديد بالقيام، بأي عدوان، والامتناع عن استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة.
- الحل السلمي لجميع الصراعات الدولية، وفقا لميثاق الأمم المتحدة.
- تعزيز المصالح المشتركة والتعاون المتبادل.
- احترام العدالة والالتزامات الدولية.
تأسيس حركة عدم الانحياز
بعد النتائج التي تحققت في باندونغ، حظيت مبادرة حركة عدم الانحياز بدفعة كبيرة خلال الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960، والتي شهدت انضمام 17 دولة أفريقية وآسيوية جديدة إلى الأمم المتحدة.
وبعد مؤتمر باندونغ بستة أعوام أعلن عن تأسيس حركة دول عدم الانحياز على أساس جغرافي أكثر اتساعا خلال مؤتمر القمة الأول الذي عقد في العاصمة اليوغسلافية بلغراد خلال الفترة من 1-6 سبتمبر / أيلول عام 1961، وحضرته 25 دولة هي: الهند، ومصر، وأفغانستان، والجزائر، واليمن، وميانمار، وكمبوديا، وسريلانكا، والكونغو، وكوبا، وقبرص، وإثيوبيا، وغانا، وغينيا، واندونيسيا، والعراق، ولبنان، ومالي، والمغرب، ونيبال، والمملكة العربية السعودية، والصومال، والسودان، وسوريا، وتونس، إلى جانب يوغوسلافيا.
بينما شاركت 3 دول، وهي بوليفيا، والبرازيل، والإكوادور بصفة مراقب.
وكان الاجتماع التحضيري للمؤتمر عقد في وقت سابق من ذلك العام في القاهرة في الفترة من 5 إلى 12 يونيو/حزيران.
وقد استضافت القاهرة المؤتمر الثاني للحركة الذي عقد في 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1964.
وفضل المؤسسون إطلاق اسم حركة عليها وليس منظمة، تفاديا للبيروقراطية التي قد تلحق بإدارة المنظمات.
أما رموز الحركة والآباء المؤسسون لها فهم رئيس وزراء الهند جواهرلال نهرو، والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، والمصري جمال عبد الناصر، والغاني كوامي نكروما، والأندونيسي أحمد سوكارنو، والجزائري هواري بو مدين.
على خلاف منظمات عالمية مثل منظمة الأمم المتحدة أو منظمة الدول الأمريكية، فإن حركة عدم الانحياز ليس لديها دستور رسمي أو سكرتارية دائمة.
ويتمتع جميع الأعضاء بنفس الوزن داخل حركة عدم الانحياز، ويتم التوصل إلى مواقف الحركة بالإجماع خلال مؤتمرات القمة التي تجمع رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات.
ويعقد مؤتمر القمة عادة كل ثلاث سنوات، وتتم إدارة الحركة بالتناوب بين الدول في كل قمة. وتتولى الدولة التي تعقد فيها القمة رئاسة الحركة حتى موعد القمة القادمة.
ويسبق كل قمة اجتماع لكبار المسؤولين، واجتماع وزاري.
ويجتمع وزراء خارجية الدول الأعضاء بشكل أكثر انتظاما لمناقشة التحديات المشتركة، ولا سيما قبل افتتاح الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
الدور والأهداف
لعبت حركة عدم الانحياز دورا رئيسيا في الصراعات الأيديولوجية المختلفة، بما في ذلك المعارضة الشديدة لحكومات الفصل العنصري، ودعم حركات التحرر في مواقع مختلفة، بما في ذلك روديسيا وجنوب أفريقيا، كما ناصرت القضية الفلسطينية وأعلنت دعمها سعي الفلسطينيين لنيل عضوية الأمم المتحدة.
وكشرط للعضوية، لا يجوز لدول الحركة أن تكون جزءا من تحالف عسكري متعدد الأطراف (مثل حلف الناتو مثلا) أو أن توقع اتفاقية عسكرية ثنائية مع إحدى “القوى الكبرى” إذا تم “إبرامها عمدا في سياق صراعات القوى العظمى”، ومع ذلك، فإن فكرة عدم الانحياز لا تعني أن على الدولة أن تكون سلبية أو محايدة في السياسة الدولية. وعلى عكس ذلك، فمنذ تأسيسها، كان الهدف المعلن لحركة عدم الانحياز هو إعطاء صوت للبلدان النامية وتشجيع عملها المتضافر في القضايا العالمية.
وهذا ما أكد عليه إعلان هافانا عام 1979، بأن هدف الحركة هو مساعدة الدول في الحفاظ على “استقلالها الوطني وسيادتها وسلامة أراضيها وأمنها” في “نضالها ضد الإمبريالية والاستعمار بشكليه القديم والجديد، والعنصرية وكافة أشكال العدوان الخارجي”.
تحديات وتراجع الفعالية
مع انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية حقبة الحرب الباردة عام 1991، واختلال موازين القوى في العالم، وقيام تكتلات إقليمية واقتصادية جديدة، واصلت الحركة الدعوة إلى التعاون الدولي، والتعددية، وحق تقرير المصير، والوقوف ضد عدم المساواة في النظام الاقتصادي العالمي، لكنها فقدت بعضا من أهميتها وفعاليتها.
وساهم في تراجع فعالياتها تفكك يوغسلافيا التي كانت من الأعضاء البارزين والمؤسسين في الحركة، وبروز صراعات عرقية وأهلية في عدة مناطق من العالم الثالث، وانشغال عدد من الدول الأعضاء بمشاكل مصيرية وحروب وانقسامات داخلية.
كما تأثرت حركة عدم الانحياز بتغير الخريطة السياسة والاقتصادية الدولية، وتحول بعض أعضائها مثل الهند والصين ودول شرق آسيا وماليزيا إلى دول صناعية متقدمة شكلت تكتلات اقتصادية إقليمية ما انعكس سلبا على الدور الاقتصادي للحركة.
ومن التحديات التي واجهت الحركة في القرن الحادي والعشرين، هو إعادة تقييم هويتها وهدفها، كما ساهم في تراجع دورها أيضا برأي مراقبين تشبثها برموز “بالية” وعقلية تكتل “عفا عليها الزمن”.
رهان على الشباب
ترأس حركة عدم الانحياز حاليا أذربيجان متمثلة برئيسها إلهام علييف، الذي تسلم المهمة من الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وقد انعقدت القمة الثامنة عشرة للحركة في باكو خلال الفترة من 25 إلى 26 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 وشاركت فيها وفود من 120 دولة عضوة.
وقد ركزت بشكل أساسي على القضايا المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين.
وتتولى أذربيجان رئاسة الحركة إلى حين انتهاء دورة الـ 3 سنوات حتى موعد القمة التاسعة عشرة عام 2022.
وأكدت الوثيقة الختامية للقمة على تعزيز التضامن في مكافحة الإرهاب مع التأكيد على ضرورة عدم ربط الإرهاب بأي دين أو جنسية أو حضارة أو جماعة عرقية، إلى جانب التأكيد على أهمية تعزيز المفاوضات التجارية وإدانة أي تدابير قسرية أحادية الجانب ضد الدول الأعضاء في الحركة.
وتميز الحدث بتنظيم أول قمة لشباب حركة عدم الانحياز أول مرة في تاريخ الحركة، وقد عقدت في 24 أكتوبر/تشرين الأول بمبادرة من أذربيجان، وشارك فيها ممثلون شباب من 40 دولة. وقدمت توصياتها لقمة رؤساء الدول والحكومات، كما تم البدء في إنشاء شبكة شباب حركة عدم الانحياز.
[ad_2]
Source link