مصر وصندوق النقد الدولي: هل تكرر القاهرة سيناريو عام 2016؟
[ad_1]
- سارة فياض
- بي بي سي نيوز عربي
لم تكد ثمان وأربعون ساعة تمضي على إعلان السلطات المصرية عن “إجراءات تصحيحية” في سياستها النقدية، حتى أعلن صندوق النقد الدولي في بيان أن مصر طلبت دعمه لتنفيذ “برنامجها الاقتصادي الشامل”.
بعدها بساعات أكد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الأمر، قائلا إنه سيقتصر في المرحلة الحالية على “الدعم الفني”، وإن كان قد يتطور لطلب قرض جديد إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
بيان صندوق النقد عزا “التحديات” التي يواجهها الاقتصاد المصري إلى “البيئة العالمية سريعة التغير، والتداعيات المرتبطة بالحرب في أوكرانيا”. كما رحب بالإجراءات الأخيرة التي اتخذتها السلطات “لتوسيع الحماية الاجتماعية المستهدفة، وتنفيذ مرونة سعر الصرف”.
جاء هذا الإعلان موافقا إلى حد بعيد للأسباب التي ساقتها السلطات المصرية لما اتخذته من إجراءات، حيث أشار محافظ البنك المركزي طارق عامر إلى “الظروف الدولية الصعبة” التي تفرض ضرورة “الحفاظ على المقدرات المالية لمصر، وسيولة النقد الأجنبي اللازم لتأمين احتياجات المجتمع المصري”.
ما الذي حدث؟
نهار الاثنين 21 مارس/آذار استيقظ المصريون على تراجع في قيمة عملتهم بلغ نحو 15 في المئة في يوم واحد. زاد هذا التراجع من وطأة أسعار كثير من السلع التي شهدت ارتفاعات تراوحت بين 20 – 50 في المئة.
لم يكن الانخفاض الكبير و”المفاجئ” في قيمة العملة المصرية يومها نتيجة لقرار صريح ومباشر من البنك المركزي، لكنه جاء بعد بيان للبنك تحدث عن “أهمية مرونة سعر الصرف” في امتصاص الأزمات، وهو ما شكل إشارة ضمنية إلى سماح البنك بتحريك قيمة الجنيه مقابل الدولار، بعد سنوات من الحفاظ عليها.
بيان البنك المركزي المصري الذي أشار إلى مرونة سعر الصرف، تضمن أيضا إعلانه رفع سعر الفائدة على الإيداع والإقراض بنسبة 1 في المئة بعد اجتماع “استثنائي” للجنته للسياسة النقدية.
ويرى الدكتور زياد داود كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في بلومبرغ للاقتصاد، أن رفع البنك المركزي لأسعار الفائدة يهدف إلى جعل مصر وجهة “جذابة للمستثمرين الأجانب الذين يسعون للحصول على أسعار فائدة مرتفعة عن طريق الاستثمار في السندات الحكومية”.
اقتصاد الدين
تتمثل طريقة الاستثمار هذه في شراء السندات وأذون الخزانة التي تصدرها الدولة المصرية، والتي تسعى عبرها إلى ضخ سيولة من النقد الأجنبي في اقتصادها بشكل مباشر وغير مباشر، في المقابل يستفيد المستثمر عبر جني عائد مادي مرتفع على أمواله (عن طريق الفائدة المرتفعة) خلال فترة زمنية وجيزة.
شكلت هذه الآلية واحدة من أبرز طرق سد عجز الموازنة التي اعتمدتها الدولة المصرية في السنوات الأخيرة.
إذ يقول زميل دراسة السياسات في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، تيموثي قلدس، إن مصر كانت خلال السنوات الماضية تقدم “واحدة من أعلى معدلات الفائدة الحقيقية (التي يتم حسابها عبر طرح معدل التضخم من قيمة الفائدة المعلنة) على الديون في العالم”. وقد انعكس هذا في الحجم الكبير من الاستثمار في سوق الدين المصري من قبل المستثمرين الأجانب الذين كانوا “يجنون ثروة” من هذا النوع من الاستثمار في مصر.
لكن حجم هذه الاستثمارات بدأ بالتراجع في الشهور القليلة الماضية، التي شهدت خروج كثير من المستثمرين من سوق الدين المصري.
ويرجع الدكتور زياد داود ذلك إلى مجموعة من العوامل كان آخرها الحرب في أوكرانيا، وإن كان يشير إلى توجه بدأ أواخر العام الماضي مع قرار الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي الأمريكي) وعدد من كبرى البنوك المركزية في العالم رفع أسعار الفائدة لديها.
شكلت هذه القرارات ضغطا على أسواق الدين في الاقتصادات الناشئة ومن بينها مصر، كما يقول داود.
إذ أن رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى، التي ينظر إليها على أنها أكثر استقرارا، يجعل الاستثمار في سوق الدين في هذه الاقتصادات أكثر جاذبية (فهو يمثل درجة خطورة أقل، في حين يضمن رفع سعر الفائدة عائدا ماليا أكبر لهذه الاستثمارات)، وهذا ما يدفع المستثمرين إلى سحب أموالهم من أسواق الدين في الاقتصادات الناشئة كمصر، وهو ما حصل بالفعل.
ويؤكد الدكتور داود أن هذه الديناميكية تشير إلى الخطورة الكبيرة للاعتماد على هذا النوع من الاستثمارات كمصدر للتدفقات المالية على المدى البعيد. يقول إن “مشكلة هذه التدفقات أنها قصيرة الأمد لهذا يطلق عليها اسم الأموال الساخنة، التي تخرج عند حصول أي هزة.”
ورغم عدم وجود بيانات دورية توضح حجم الاستثمار الأجنبي في سوق الدين المصري، يؤكد داود، أن البيانات المتاحة، تشير مثلا إلى أن قيمة هذا النوع من الاستثمارات “انخفض بمقدار النصف خلال شهر واحد”، مع إعلان كورونا وباء عالميا في مارس/أبريل 2020.
ولكن ما علاقة تخفيض سعر الجنيه المصري بكل هذا؟
عند الحديث عن تخفيض قيمة العملة المحلية، كثيرا ما تتم الإشارة إلى الأثر الإيجابي الذي يتركه هذا الأمر على “تنافسية الصادرات”. ويشير هذا المبدأ إلى أن انخفاض قيمة عملة بلد ما، يخفض من قيمة بضائعها المصدرة بالعملات الأجنبية، ما يجعلها أكثر جاذبية للمستهلكين لأنها أرخص ثمنا.
وبالفعل أشار محافظ البنك المركزي المصري في حديثه لوسائل الإعلام إلى أن “تصحيح أسعار صرف الجنيه”، سيسهم في زيادة “تنافسية المنتجات المصرية” ما قد ينعكس زيادة في حجم صادرات البلاد.
لكن المسؤول المصري تحدث أيضا عن ضرورة “الحفاظ على ثقة الاستثمار الأجنبي وأسواق المال الدولية” في العملة المصرية، بحيث يعكس “التصحيح” التطورات والأحداث في السوق العالمية. فماذا يعني ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى نهاية عام 2016، تحديدا إلى 3 نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام.
في ذلك اليوم أعلن البنك المركزي المصري قراره تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية بشكل كامل. وهو ما يعني أنه اعتبارا من ذلك التاريخ، تم، نظريا على الأقل، تحديد سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية اعتمادا على عوامل السوق والعرض والطلب دون أي تدخل من البنك المركزي.
قال البنك في ذلك الوقت، إن الخطوة جاءت ضمن قائمة من الإصلاحات تهدف إلى تعزيز الثقة بالاقتصاد المصري، كما أتت بغية منح البنوك مزيدا من المرونة وإنهاء تداول العملات خارج القنوات الشرعية (في السوق السوداء)، والذي كان قد شهد تصاعدا مضطردا في الفترة التي سبقت القرار.
سبب القرار صدمة في الأسواق المصرية وتراجعا في قيمة الجنيه المصري بلغت 50 في المئة، لكنه جاء استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، الذي منح مصر قرضا بقيمة 12 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات.
لكن الدكتور زياد داود يقول إن تحرير العملة في مصر تم “بشكل نظري وليس عملي”. وهو يعني بهذا أن البنك المركزي المصري وبينما كان يتبنى علنا سياسة تحرير (تعويم) الجنيه المصري بشكل كامل لسنوات، كان يتدخل بشكل أو بآخر للحفاظ على قيمة العملة المصرية مقابل الدولار في حدود 15 جنيها للدولار الواحد.
يدلل الدكتور داود على رأيه هذا بالإشارة إلى أن العالم، ومنذ الإعلان عن تحرير الجنيه المصري نهاية 2016، “شهد أحداثا كبرى، أثرت في قيمة العملات المحلية لكثير من دول العالم ذات الاقتصادات الناشئة، إلا أنها لم تنعكس على قيمة الجنيه المصري، وهو ما يؤشر إلى وجود إدارة للعملة في مصر، وأنها لم تكن محررة بشكل كامل”.
ويضرب الخبير الاقتصادي في بلومبرغ مثالا على تلك الأحداث، بالأزمة التي عصفت بالأسواق الناشئة عام 2018 ولكنها لم تؤثر بشكل كبير على قيمة الجنيه المصري، وكذلك بجائحة كورونا عام 2020، ضمن أحداث أخرى.
يؤيد ثيموثي قلدس هذا الرأي، ويقول إن إدارة العملة المصرية بشكل غير مباشر من قبل البنك المركزي المصري، كانت تحدث منذ عام 2018 على أقل تقدير. إذ يشير مثلا إلى تحقيق أجرته وكالة رويترز للأنباء ذلك العام بيّن “أن البنك المركزي المصري كان يدافع خلسة عن الجنيه المصري من خلال البنوك المملوكة للدولة، والتي كانت تشتري الدولارات وتبيعها ضمن نطاق معين للسيطرة على السعر، نظرا لأن هذه البنوك تمثل جزءا كبيرا من القطاع المصرفي ما يمنحها القدرة على التأثير على أسعار الصرف بشكل كبير.”
محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر، أشار في حديثه الذي بث على الهواء مباشرة قبل نحو أسبوع، إلى أن البنك المركزي والقطاع المصرفي تمكنوا من “الحفاظ على مستويات أسعار الصرف بالتدخل بالاحتياطات الدولية (من النقد الأجنبي) التي بناها البنك المركزي بعد برنامج الإصلاح (عام 2016)”، وهو الأمر الذي بخالف سياسة البنك المعلنة عام 2016، بتحرير الجنيه المصري بشكل كامل.
حافظ هذا الأمر بالفعل على استقرار سعر صرف الجنيه وبالتالي تفادي حدوث موجات كبيرة من التضخم وارتفاع الأسعار في الشارع المصري بالفعل، لكنه انعكس بشكل سلبي على الاقتصاد المصري في ناحيتين.
تتمثل الناحية الأولى في أن الحفاظ على سعر صرف العملة من خلال التدخل في آليات السوق عبر ضخ نقد أجنبي، هو “أمر مكلف”، وغير مستدام، إذ أنه ينعكس تآكلا في احتياطات النقد الأجنبي التي يتم استهلاكها للتحكم في سعر الصرف في السوق، كما يقول تيموثي قلدس.
ويؤكد الدكتور زياد داود أنه بالنظر إلى البيانات المالية المصرية، “نجد أن حجم احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي المصري لم يتغير بشكل كبير، بالمقارنة تظهر البيانات التي يصدرها البنك المركزي بشكل شهري أن صافي الأصول الأجنبية (النقد الأجنبي) في البنوك المصرية (حجم الأصول الأجنبية في هذه البنوك مطروحا منه التزامات هذه البنوك من النقد الأجنبي)، تراجع بحيث أصبح الفارق كبيرا بين ما تملكه البنوك من أصول وما عليها من التزامات”. وهذا يؤشر، بحسب داود، إلى أن البنوك المصرية كانت تضخ عملة أجنبية في السوق المصري.
بالفعل قال تقرير أصدرته وكالة فيتش للتصنيف الائتماني مطلع العام الجاري إنّ تصنيفاتها للبنوك المصرية، خصوصا المتعلقة بالتمويل والسيولة، قد تواجه ضغوطا إذا استمرت الأصول الأجنبية في التراجع.
وحسب تقرير الوكالة فإن الأصول بالعملات الأجنبية التي يمتلكها القطاع المصرفي المصرفي أصبحت أقل من التزاماته بهذه العملات، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن قدرة هذه البنوك على الوفاء بخدمة ديونها.
أما الناحية الثانية، فيشير إليها تيموثي قلدس، الذي يؤكد أنه بينما شكل استقرار سعر صرف الجنيه المصري في السنوات القليلة الماضية عامل جذب للمستثمرين، لكنه في الوقت ذاته خلق لديهم شعورا بالخطر دفعهم إلى وضع أموالهم في استثمارات قصيرة الأمد. يتعلق الأمر بفقدان الثقة، كما يوضح. ولكن كيف؟
يقول: “يعود ذلك إلى أنه كان هناك إدراك واسع أن استقرار سعر صرف الجنيه أمر مصطنع وليس طبيعيا، وهو ما طرح تساؤلات عن مدى استدامة هذا الاستقرار، لأنه لا يمكنك ربط عملتك بالدولار مجانا. إذا كنت تزيد من قيمة عملتك بشكل لا يعكس قيمتها السوقية الحقيقية، فعليك ضخ السيولة بالدولار بانتظام في السوق للحفاظ على هذا السعر. وبالتالي، إذا كان على مصر أن تستمر في اقتراض المزيد والمزيد من الأموال للحفاظ على استقرار عملتها، ولم يكن لديها تدفقات سخية من الدولار، فهناك خطر أنه في مرحلة ما ستجد السلطات نفسها مضطرة إلى إجراء تصحيح أكثر دراماتيكية لقيمة العملة دفعة واحدة”.
كان هذا ما حدث في 21 مارس/ آذار، خاصة مع زيادة الضغط على سيولة النقد الأجنبي في مصر بسبب ابتعاد المستثمرين عن الاستثمار في أسواق الديون في الاقتصادات الناشئة، وتداعيات الحرب في أوكرانيا على قطاع السياحة المصري بسبب تراجع أعداد السياح الروس والأوكرانيين، كما على أسعار مواد كالقمح والحبوب وحتى الأسمدة ومواد البناء وغيرها من المواد التي تعتمد مصر في تأمينها على الاستيراد من الأسواق الخارجية.
يضيف قلدس: “إذا كنت أشتري ديونا مصرية بالجنيه المصري وهناك احتمال أن يفقد الجنيه جزءا كبيرا من القيمة، فقد يؤدي ذلك إلى محو الفائدة التي سأجنيها على استثماري. على سبيل المثال، إذا استثمرت أموالي في سوق الدين المصري بفائدة 15 في المئة، لكن قيمة الجنيه انخفضت بنسبة 16 في المئة. إذن فأنا في الواقع أخسر المال من خلال الاستثمار في الدين المصري”.
لا ينكر قلدس أن كثيرا من دول العالم تتحكم صراحة بأسعار صرف عملتها، من بينها دول في المنطقة كالسعودية والإمارات مثلا. ويعتمد الاستثمار في هذه الدول على مدى ثقة المستثمرين بقدرتها على الحفاظ على سعر العملة الذي أعلنته، وقوة اقتصادها.
لكنه يؤكد أنه عندما لا يترك تحديد سعر العملة لاقتصاد السوق، تصبح القدرة على استشراف المسار الذي ستأخذه قيمة العملة مزيجا من دراسة العوامل الاقتصادية (تحركات السوق، قوة الاقتصاد، تدفقات النقد الأجنبي الخ)، فضلا عن العوامل السياسية (وجود قرار سياسي بالحفاظ على قيمة العملة ومدى القدرة على الالتزام بذلك على المدى البعيد).
في الحالة المصرية، طرح تبني الدولة المصرية لسياسة تحرير سعر الصرف علنا، مع قيامها بإدارة هذا السعر بشكل يتناقض مع السياسات المعلنة، تساؤلات حول مدى مصداقية السلطات والقدرة على الثقة فيما تقدمه من بيانات، يقول قلدس.
جاء قرار “تصحيح” قيمة الجنيه إذا لإرسال رسالة طمأنة إلى المستثمرين الأجانب مفادها أن الدولة المصرية مستعدة للسماح بتقييم أكثر واقعية لقيمة عملتها، وبالتالي، يبدد انخفاض قيمة العملة بحوالي 15 في المئة، كثيرا من المخاوف من أن الجنيه المصري سيشهد مزيدا من التراجعات الحادة في قيمته في المدى المنظور. لكن هذا ليس كل شيء
“نموذج مصغر لعام 2016”
قبل نحو أسبوعين من إعلان السلطات المصرية “إجراءات تصحيحية” في سياستها النقدية، أصدر بنك الاستثمار الأمريكي “بي. جي. مورغان” تقريرا، توقع فيه أن تكون هناك حاجة لتخفيض “حاد” في قيمة الجنيه المصري، وأن مصر قد تحتاج إلى مزيد من المساعدة من صندوق النقد الدولي، إذا استمرت ضغوط السوق المالية في التصاعد.
حصل تخفيض قيمة الجنيه بالفعل، بينما يدور الآن حديث عن احتمالية طلب مصر لقرض من صندوق النقد الدولي.
يصف كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في بلومبرغ، الدكتور زياد داود الإجراءات التي تم الإعلان عنها بأنها “نموذج مصغر مما جرى عام 2016″، حين حررت مصر عملتها، واتخذت مجموعة من الإجراءات الاقتصادية، فضلا عن حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي.
في الحالتين كان هناك ضغط على الاقتصاد المصري والعملة المصرية وقطاع الاستثمار الخارجي في مصر، يقول داود.
ويضيف، عام 2016، كان احتياطي النقد الأجنبي في مصر قد تراجع بشكل كبير، كما أدت التقلبات السياسية إلى التأثير على قطاعات مختلفة من الاقتصاد المصري، أما الآن فقد خلقت تداعيات الحرب الأوكرانية وتراجع الاستثمار في الأسواق الناشئة ضغطا على الاقتصاد المصري.
وبالتالي تحاول مصر بحسبه، جذب عملة أجنبية من الخارج، وهو ما رأيناه في الاتفاقات مع أبوظبي (ولاحقا مع الدوحة، كما في إعلان السعودية تقديم وديعة بقيمة 5 مليارات دولار في البنك المركزي المصري). كما تحاول التوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، وتكرار الخطوات التي اتخذت عام 2016، وإن على نطاق أضيق، يؤكد داود.
ويشير إلى أن خفض قيمة العملة سيؤثر بشكل واضح في أسعار جزء من حاجات المستهلك المصري في السوق، لأن جزءا من هذه الحاجات مستورد من الخارج. “هذا ما حصل في 2016 حيث كانت هناك زيادة تضخمية في الأسعار، ما سيحصل الآن سيكون بشكل أقل لكنه متوقع”.
تخفيف العبء
في المقابل أعلنت الحكومة المصرية عن حزمة من الإجراءات الهادفة إلى تخفيف وطأة ارتفاع الأسعار على المواطن المصري، واستيعاب التضخم.
شملت هذه الإجراءات زيادة في الرواتب والمعاشات وإضافة حوالي 450 ألف أسرة جديدة إلى برنامج الإعانة الاجتماعية، وغيرها من الإجراءات التي تهدف غلى زيادة عدد الجنيهات التي تدخل جيوب المصريين، أو قطاع منهم، علها تساعد في تعويض التراجع في قيمة دخولهم نتيجة تراجع قيمة الجنيه.
بالإضافة لذلك طرح بنكا الأهلي ومصر الحكوميين شهادات ادخار بعوائد مرتفعة وصلت إلى 18 في المئة وذلك لمدة عام. وهي خطوة تهدف الحكومة المصرية من ورائها إلى كبح جماح التوجه نحو الدولرة (أي توجه الناس نحو تحويل ما يملكونه من سيولة نقدية بالعملة المصرية إلى الدولار خوفا من مزيد من التراجع في قيمة الجنيه) عبر تشجيعهم على ادخار أموالهم، كما تساعد في سحب السيولة النقدية من الأسواق، وبالتالي تخفيف الطلب على شراء البضائع، ما يؤمل أن يكبح جماح أسعارها ويخفف التضخم.
هل كان هناك حل آخر؟
يتفق الدكتور زياد داود والباحث تيموثي قلدس على أنه في الوقت الراهن لم يكن هناك خيارات كثيرة أمام الحكومة المصرية للتعامل مع الضغوط على الاقتصاد المصري، على الرغم من الأثر السلبي الذي ستتركه إجراءات “التصحيح” الاقتصادي على حياة المواطن المصري ومعيشته. بل إن قلدس يرى أن ما تم اتخاذه من إجراءات كان أمرا “حتميا” في ظل الظروف الراهنة.
لكن الدكتور داود يؤكد أن على مصر أن “تحسم قرارها بشأن النظام النقدي الذي تريد اتباعه”، تثبيت للعملة، أو تحرير كامل أو جزئي لها.
إذ يشير إلى وجود عيوب ومزايا لمختلف السياسات النقدية، فمثلا “يعد تذبذب سعر العملة وما يسببه من ارتفاع وهبوط في الأسعار واحدا من عيوب سياسة تحرير العملة أو تعويمها بشكل كامل”، لكن التعويم، يساعد في رأيه “في استيعاب الضغوط على الاقتصاد بشكل تدريجي (عبر الانخفاض أو الارتفاع البسيط في قيمة العملة المحلية)، وهو بهذا يسهم في تفادي تراكم الضغوط على العملة، في حال تثبيتها، ما قد يقود إلى تغيير كبير في قيمتها بشكل مفاجئ، عندما يصبح استيعاب هذه الضغوط أمرا غير ممكن”.
بدوره يقر تيموثي بحساسية مسألة سعر صرف الجنيه في مصر، “لا يمكن إنكار وجود اعتبارات مختلفة تحكم قرار السلطات المصرية حماية الجنيه، إذ يرتبط جانب من حكم الناس على الأداء الحكومي بسعر الصرف هذا، وهو أمر يرتبط جزئيا بأن مصر تعتمد بشكل كبير على الواردات وبالتالي فإن تراجع سعر الصرف يؤثر بشكل كبير على التضخم”.
لكنه يعتبر أن بيت القصيد لا يرتبط فقط بقرار تحرير العملة أو تثبيتها، وإنما بالوضع العام للاقتصاد المصري.
يشير قلدس إلى الإيجاز الصحفي الذي قدمه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ومحافظ البنك المركزي طارق عامر بالقول إن “كل ما قالوه عن تأثير العوامل الخارجية على الاقتصاد المصري صحيح مئة في المئة، لكنهم أغفلوا أمرا هاما؛ ذكر دور سياساتهم فيما وصلت إليه الأمور”.
يضيف: “عام 2016، تم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتم “تعويم” الجنيه، وفرض الكثير من السياسات التقشفية وخفض المعونات الاجتماعية للناس، وقد قيل وقتها للمصريين: علينا اتخاذ هذه القرارات الصعبة، لأننا في وضع صعب، لكننا سنكون جميعا في حال أفضل بعد سنوات، هذا لم يحصل، وهو أمر تتحمل السياسات الحكومية جزءا كبيرا منه”.
نجحت الحكومة المصرية لبعض الوقت في “جذب استثمارات قصيرة الأمد في سوق ديونها، لأن هذه الاستثمارات تعتمد على سعر صرف العملة وحجم الفائدة على السندات”، “لكن إقدام المستثمرين على ضخ استثمارات طويلة الأمد، يحتاج منهم دراسة أعمق للسوق، للبنية التحتية القانونية والاستثمارية فيها، ولحجم المنافسة وطبيعتها، وهذا أمر يتطلب جذبه جهدا مضاعفا”، يقول الدكتور داود.
ويرى ثيموثي قلدس أن “الممارسات الحكومية” جعلت السوق المصرية طاردة للاستثمارات طويلة الأمد، تلك التي تستثمر في القطاعات الاقتصادية، كالقطاع الخدمي والإنتاجي، بشكل مباشر . يقول إن “النظام في مصر يستحوذ على الكثير من الثروة ويتحكم في توزيع ما لا يستحوذ عليه، والنتيجة هي رادع رئيسي للاستثمار”.
ويشير إلى “سوء في الإدارة، وفشل في إصلاح النظام الضريبي… كما إلى توسع الشركات المرتبطة بالجيش في مختلف القطاعات، ما يزيد من مخاطر دخول السوق المصرية في أعين المستثمرين، كما ينعكس سلبا على إيرادات الدولة كون هذه الشركات تحصل على إعفاءات ضريبية وامتيازات كبيرة”.
لذا فإن كثيرا من الأشخاص الذين يتطلعون إلى الاستثمار في السوق المصري “يخشون خوض المجازفة التي قد تترتب على التنافس مباشرة مع الجيش، والذي يمكنه، في نظرهم، أن يقوض استثمارهم في أي لحظة”.
وعند سؤاله عن تحقيق معدلات نمو في الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة، يؤكد: “نعم هناك نمو اقتصادي، لكن القطاع الخاص غير النفطي لم يشهد نموا، بالعكس كان يتقلص طوال هذا الوقت، بينما ارتفع معدل الفقر عما كان عليه قبل برنامج صندوق النقد الدولي”.
إصلاح هيكلي
يدرك قلدس أن اللجوء إلى الاقتراض أمر قد يصعب تجاوزه في الحالة المصرية، لكنه يؤكد أن ما تم اقتراضه من أموال “أنفق على مشاريع لا قيمة كبيرة لها من الناحية الاقتصادية، بدلا من إنفاقها على تحسين نوعية حياة الناس أو تقوية الاقتصاد”.
في رأيه، قد تساعد الإجراءات المتخذة مؤخرا في تخفيف حدة المشاكل التي تواجه الاقتصاد المصري بشكل مؤقت، لكن وضع الاقتصاد المصري على طريق التعافي، وتمكينه من الخروج من الدائرة المغلقة للاقتراض ثم اقتراض المزيد لخدمة الديون، لن يحدث دون “معالجة المشاكل الهيكلية الكامنة في طريقة إدارته”.
وهو في هذا الصدد، يرى أن صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية معنية بضمان الاستقرار السياسي في مصر، لكنها “تركز بشكل أكبر على الاحتفاظ ببعض التدفقات النقدية إلى مصر أكثر من تركيزها على الإصلاحات الصعبة للحوكمة”، جزءا من المسؤولية.
وبينما يقول إن المسار الذي سيتخذه الاقتصاد المصري في المدى المنظور مرتبط بالعوامل الخارجية والدولية، يؤكد أنه “لا بد من إجراء إصلاح هيكلي، بحيث يكون للبرامج الاقتصادية فرصة للنجاح بالفعل، لأن الخطة الاقتصادية دون إلقاء نظرة على سياق الحوكمة هي خطة محكوم عليها بالفشل!”
[ad_2]
Source link