تاريخ مصر: قصة الضابط الفرنسي المجهول الذي كان وراء اكتشاف حجر رشيد
[ad_1]
- وائل جمال
- بي بي سي
لم تكن الصدفة وحدها المحرك الرئيسي لأحداث ومفارقات تلاحقت بعد اكتشاف حجر تاريخي في رشيد عليه نقوش بثلاث كتابات مختلفة عام 1799، بل لعب حدس ضابط فرنسي في حملة بونابرت العسكرية على مصر دورا بارزا في قصة انتهت إلى معرفة تاريخ مصر القديم.
وإن كانت جهود العالم الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون قد أفضت إلى كشف أسرار الكتابة المصرية القديمة، “الهيروغليفية”، وتسليط الضوء طوال هذه الفترة على إنجازه العلمي المهم في تاريخ مصر، الذي أعلن عنه عام 1822، فالقصة تبدأ قبل هذا التاريخ بما يزيد على 23 عاما في مدينة رشيد الساحلية، شمالي مصر، وتحديدا في 19 يوليو/تموز عام 1799، أثناء أعمال تحصينات عسكرية لقلعة قايتباي، المعروفة في الدراسات الفرنسية باسم حصن جوليان، بقيادة الضابط الشاب بوشار الذي اكتشف حجر رشيد، وأغفل التاريخ ذكره طوال ما يزيد على 200 عام.
فرنسا تتذكر بوشار
ولد بيير-فرانسوا بوشار في مدينة أورجوليه، بمنطقة بوروغوني-فرانس كومتيه، جنوب شرقي فرنسا، عام 1771، في قرية تقع على مرتفعات إقليم جورا.
ويقول أحمد يوسف، عضو المجمع العلمي المصري ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في باريس، مؤلف أول دراسة تاريخية فرنسية ترصد حياة بوشار بعنوان “الضابط بوشار الذي لا نعرفه مكتشف حجر رشيد”، الصادرة حديثا في باريس عن دار نشر “لارماتان”، لبي بي سي إن صدور دراسة تاريخية متخصصة عن بوشار في هذا التوقيت تحديدا يحمل الكثير من الدلالات والأهمية لمصر وفرنسا.
ويضيف يوسف: “تقديم بوشار للمجتمع الفرنسي من جديد كان مفاجأة كبيرة تزامنت مع أكثر من مناسبة تاريخية احتفالية، منها احتفال فرنسا العام الماضي بالمئوية الثانية لوفاة نابليون بونابرت، واحتفال مصر وفرنسا معا هذا العام بالمئوية الثانية لاكتشاف شامبليون أسرار الكتابة المصرية القديمة، والمفارقة الأخرى أنها تتزامن مع المئوية الثانية لوفاة بوشار نفسه”.
وردا على سؤال يتعلق برد الفعل الفرنسي لإعادة بوشار إلى الساحة التاريخية من جديد، قال يوسف: “تنظم فرنسا مؤخرا عددا من الأنشطة الثقافية وحلقات النقاش، أحدثها محاضرة عن دراسة بوشار حضرها سفير مصر لدى فرنسا، علاء يوسف، برعاية جامعة السوربون، التي تبذل جهودا واضحة لإحياء ذكر بوشار، بالتعاون مع معهد نابليون ممثلا في رئيسه وأستاذ التاريخ في السوربون، جاك-أوليفييه بودون”.
ويضيف أن الجهود لا تنحصر في حلقات نقاش علمية عن بوشار فحسب، بل ثمة مفاجأة لمصر وفرنسا تتمثل في إطلاق مدينة أورجوليه، مسقط رأسه، برعاية وجهود عمدة المدينة، جان-بول دوتيون، مشروعا يهدف إلى وضع نصب تذكاري عملاق في مدخل المدينة يمثل حجر رشيد.
ويقول يوسف لبي بي سي: “تعتزم المدينة بناء مجسم لحجر رشيد بحجم أكبر 20 مرة من حجم الحجر الأصلي، ليستقبل القادم إلى المدينة، كرمز لها، فضلا عن إعداد فيلم وثائقي عن بوشار، بتعاون قنوات فرنسية مع مدينة أورجوليه، سوف يعرض نهاية العام الجاري”.
من هو بوشار؟
لا يذكر التاريخ الفرنسي الكثير عن بوشار، بل ظل مجهولا طوال هذه الفترة، إلا من بضعة أسطر متناثرة هنا وهناك تأتي في سياق الحديث عن اكتشاف حجر رشيد كمقدمة تمهد السبيل أمام الحديث تفصيلا عن جهود شامبليون ومشروعه.
ويقول يوسف في دراسته التاريخية إن بوشار الصغير عانى حياة البؤس، عانى “الجوع ومصاعب الحصول على التعليم، كان ابن نجار في بيئة ريفية متقشفة، لكنه لم يخش الغد، تحمل مشقة الحاضر من أجل تحقيق هدفه في المستقبل”.
ويضيف أن هدف بوشار الأسمى تمثل في “انضمامه إلى صفوف الجيش، تماما كاعتناق المرء لدينه”، وهو ما حدث بالفعل عندما أكمل دراسته للرياضيات في مدينة بيزانسون، شرقي فرنسا، وانضم للجيش في عام 1793، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت 22 عاما فقط، وجرى تعيينه في باريس برتبه رقيب في فرقة الرماية بالقنابل.
عاش بوشار في الجيش مع أهوال حروب عصره، ولم يكن يعلم أن حروبا أخرى تنتظره خارج حدود قارته في ذلك الشرق البعيد، الذي كُتب عنه في قصص ألف ليلة وليلة وأسهب عنه رحالة القرنين السابع عشر والثامن عشر بالقصص والأساطير.
وفي أغسطس/آب عام 1794 انضم بوشار إلى الفرقة الثانية للمناطيد، وبعد تدريب سريع استمر لمدة شهر واحد، جرى تعيينه في المدرسة الوطنية الجديدة للمناطيد في ضاحية مودون (جنوب غربي باريس)، وهناك لعب مدير المدرسة الشهير، نيكولا جاك كونتيه، دورا في حياته فضلا عن صداقة وطيدة قادتهما بعد ذلك إلى أرض مصر.
فكرت فرنسا في استخدام المناطيد في العمليات العسكرية، ويقول يوسف: “كان كونتيه مسؤلا عن تشكيل لجنة من العلماء المتخصصين، دمج في صفوفها بوشار”، وتوطدت العلاقة بين الاثنين لدرجة أنهما جُرحا معا خلال إحدى التجارب العلمية، وكاد بوشار أن يفقد إحدى عينيه لولا تدخل القدر “الذي أنقذه من سوء حظه ليكون على موعد مع مغامرته المصرية”.
وعندما كلف بونابرت، الذي كان يبلغ من العمر 28 عاما فقط، بعد عودته منتصرا من إيطاليا عام 1797، العلماء مونج وبيرتوليه وفورييه بتشكيل مجموعة من العلماء من أجل “حملة مصر”، استعانوا بالصديقين الحميمين من مدرسة مودون، ليبدأ الاثنان رحلتهما إلى مصر.
كان بوشار قد التحق بمدرسة العلوم والفنون المرموقة في 21 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1796، قبل عامين من رحلة مصر، وحصل بالفعل على تدريبات في تقنيات التحصينات.
ويقول يوسف في دراسته عن بوشار إن “امتيازه في هذا التخصص سيجعله الرائد بامتياز في مصر وغيرها بعد ذلك، فمن خلال التحصينات سيصنع مجده في مصر منذ اليوم الذي تولى فيه إدارة عمليات تحصين قلعة قايتباي في مدينة رشيد”.
جنرالات وعلماء في مصر
جاء بونابرت على رأس حملة عسكرية لاحتلال مصر، أطلق عليها “جيش الشرق” عام 1798، ومعه أكبر قوة محمولة بحرا في ذلك التاريخ، تضم نحو 167 عالما وفنانا من أبرز علماء فرنسا في العلوم والفنون والآداب، يسير على خطى مثله الأعلى، “الإسكندر الأكبر”، بحثا عن تكوين إمبراطورية في الشرق.
وأثمرت جهود علماء بونابرت عن تقديم مصر لأول مرة إلى العالم بطريقة علمية في موسوعة “وصف مصر أو مجموع الملاحظات والبحوث التي جرت خلال حملة الجيش الفرنسي”، المنشورة بأوامر “الإمبراطور نابليون بونابرت”، والتي أُنجزت طبعتها الأولى أيضا في عام 1822، فضلا عن كتاب “رحلة في مصر السفلى والعليا أثناء حملات الجنرال بونابرت” لفيفان دينون، وبالطبع حجر رشيد.
أصدر بونابرت في 22 أغسطس/آب عام 1798 مرسوما تاريخيا بتأسيس “المجمع العلمي المصري”، ليشكل هيئة علمية بحثية أسوة بالمجمع العلمي الفرنسي الذي تأسس في باريس عام 1795، والذي يهدف، وفقا لدراسة المؤرخ الفرنسي هنري لورانس بعنوان “الحملة الفرنسية على مصر”، إلى تطوير ونشر المعارف في مصر، وبحث ودراسة ونشر المعلومات الطبيعية والصناعية والتاريخية عن مصر، وإبداء الرأي بشأن مختلف القضايا التي تستشيرها فيها الحكومة.
أُختير بوشار عضوا في لجنة برئاسة كونتيه تضم قادة المناطيد، ويشير يوسف في دراسته إلى أن “بوشار بقي في الإسكندرية حتى السابع من سبتمبر/أيلول، قبل استدعائه إلى القاهرة من جانب لجنة العلوم والفنون … وقبل اكتشاف حجر رشيد (بعشرة أشهر من ذلك التاريخ) ليبدأ مهمته العلمية الأولى في بحيرة المنزلة، بأوامر من الجنرال أندريوسي”.
سيبقى بوشار 40 يوما في المنزلة، وسيضطر إلى العودة إلى القاهرة لحضور امتحان تخرجه في مدرسة الفنون التطبيقية في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عام 1798 أمام لجنة برئاسة العالم مونج، بعدها سيحصل على ترقية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام لرتبة ملازم مهندس من الدرجة الثانية، وبعد أشهر قليلة سيكون “على موعد مع التاريخ عندما يذهب إلى مدينة رشيد”.
حجر وسط رمال رشيد
عُيّن بوشار في يونيو/حزيران عام 1799 في كتيبة لسلاح المهندسين في مدينة رشيد، بأوامر من شارل ماري بنيامين دوتبول (1772-1853)، ومهندس الكباري والطرق ميشال أنغ لانكريه (1774-1807)، على أن يكون الثلاثة تحت قيادة الجنرال منو، الذي اعتنق الإسلام وتزوج سيدة تدعى زبيدة، ابنة محمد البواب أحد أعيان المدينة، ولجأ منو إلى استخدام ثروة المدينة لترسيخ شعبيته بين الأهالي وتوطيد سلطته في الجيش.
كانت مدينة رشيد على موعد مع بوشار، في مساء يوم 19 يوليو/تموز 1799، عندما كلُف بمهام تشييد تحصينات دفاعية على ضفة النيل الغربية، وأمر عماله بإزالة أنقاض أساسات إحدى القلاع المصرية القديمة، قلعة قايتباي، التي يرجع بناؤها إلى القرن الخامس عشر الميلادي، واكتشف رجاله كتلة حجرية من الجرانيت الأسود، يصل ارتفاعها إلى نحو متر، أما عرضها فهو 73 سنتيمترا، وسمكها 27 سنتيمترا.
كتلة حجرية لفتت انتباه بوشار للوهلة الأولى بنصوصها الثلاثة المتباينة، ربما استُخلصت من إحدى النصب المصرية القديمة لاتخاذها مادة للبناء، وأمر باستخراجها بعناية فائقة، وأُحيط علما بذلك لانكريه، الذي أسرع وكتب إلى المجمع العلمي في القاهرة يخبرهم بالكشف “الثمين”.
المثير في الأمر ليس صدفة اكتشاف الحجر ذاته، بل للأهمية العلمية التي أعزاها حدس بوشار إليه منذ اللحظة الأولى، فمنذ ذلك الوقت شعر الضابط الشاب أنه وضع يده على “كنز لا يقدر بثمن”.
يقول يوسف في دراسته: “كان الجنرال منو (قائد الفرنسيين في رشيد) مشغولا جدا بإقامة احتفالات زواجه، استمرت منذ بداية شهر يوليو/تموز، واندهش عندما رأي بوشار يُحضر إليه، مساء نفس اليوم، حجرا وجده عماله أثناء العمل في القلعة”.
اتخذ منو ثلاث قرارات رئيسية أولها نقل الحجر إلى المجمع العلمي المصري في القاهرة، ثانيها تكليف بوشار شخصيا بمرافقة الحجر مع جنوده عبر ضفاف النيل إلى القاهرة، ثالثا طلب من بوشار ولانكريه وآخرين أخذ “بصمة” النقوش على الحجر.
ويقول المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور، في دراسته “شامبليون حياة من نور”، أنه في التاسع عشر من يوليو/تموز 1799 “أعلن المواطن ميشال أنغ لانكريه في المجمع العلمي المصري عن اكتشاف نصوص في رشيد (قد تكون ذات نفع كبير)”.
ويضيف لاكوتور: “لم يمض شهران على هذا الإعلان، أي في 15 سبتمبر/أيلول، حتى نشرت صحيفة كورييه ديجيبت في عددها رقم 37 برقية مؤرخة في 19 أغسطس/آب بعثت الأمل في قلوب جميع المهتمين بحل لغز الكتابة الهيروغليفية، ومنهم على الأرجح الأخ الأكبر لشامبليون”.
يقول نص البرقية: “رشيد في 2 من شهر فركتيدور العام السابع (حسب التقويم الثوري الفرنسي) … عُثر وسط أعمال تدعيم قلعة رشيد القديمة على الضفة الغربية للنيل … على حجر من الجرانيت الأسود الرائع. حبيباته رفيعة للغاية وصلب جدا لدى طرقه … ارتفاعه 36 بوصة وعرضه 28 بوصة ويتراوح سمكه من 9 إلى 10 بوصات، توجد على أحد وجهيه فقط، المصقول صقلا ناعما، ثلاث نصوص مختلفة منحوتة في ثلاث مجموعات من الخطوط المتوازية”.
ويضيف يوسف ما يؤكد فطنة الفرنسيين منذ اللحظة الأولى لأهمية الحجر، مشيرا في دراسته إلى ما ورد في متن نفس النص: “يتيح هذا الحجر فرصة عظيمة لدراسة الحروف الهيروغليفية، بل لعلها ستتيح فرصة إيجاد مفتاح لغزها”، وهكذا أصبح العالم على علم الآن بهذا الكنز الثمين الذي بحوزة علماء الجيش الفرنسي في مصر.
ويقول لاكتور تعليقا على النص في دراسته: “أهمية الاكتشاف وقد تأكدت بهذه الطريقة لم تكن لتخفى على أحد وعلى وجه الخصوص الإنجليز. فبعد أن أجبروا الجنرال منو الذي تولى (قيادة الجيش) بعد بونابرت وكليبير على نصف استسلام في أغسطس/آب عام 1801، سيصرون على ضم حجر رشيد إلى غنائمهم الحربية، ورغم عناد منو وإصرار أعضاء المجمع المعلمي المصري، أخذ الإنجليز الحجر إلى المتحف البريطاني”.
اضطر الباحثون الفرنسيون الذين لم يستطيعوا السفر إلى لندن إلى الاعتماد في أعمالهم على نسخ من الحجر، ويقول يوسف: “على الفور بدأ جومار (1777-1862)، مهندس الجغرافيا الذي سيتولى إدارة مشروع إصدار موسوعة وصف مصر… بأمانة رسم نقوش الحجر، بينما قام العالم جوزيف مارسيل، مدير المطبعة الفرنسية، بتطبيق أسلوب في أخذ البصمة لعمل نسخة من النص”.
ويضيف: “في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، سيعود الجنرال دوغوا إلى فرنسا، وينقل هذا النص بالذات إلى المجمع العلمي الفرنسي، ومن خلال هذه النسخة التي صنعها المجمع العلمي المصري، سيخترق شامبليون فيما بعد لغز الكتابة الهيروغليفية”.
ويعود حجر رشيد إلى عام 196 قبل الميلاد، وهو مرسوم ملكى صدر فى مدينة منف تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه الكهنة ليقرأه العامة والخاصة من المصريين والطبقة الحاكمة، فجاء نصه بلغتين وثلاثة خطوط: “الهيروغليفي”، اللغة الرسمية فى مصر القديمة، و”الديموطيقي”، الكتابة الشعبية فى مصر القديمة، واليوناني القديم، لغة الطبقة الحاكمة في ذلك الوقت.
بوشار “الأسير” نجم الصحافة الباريسية
كانت صحيفة “لو ريداكتور” أول صحيفة تتحدث عن بوشار في عددها الصادر في 24 سبتمبر/أيلول 1799، كمكتشف للحجر، لكنها “استشهدت أيضا بالجنرال منو والملازم دوتبول، وتناولت الصحيفة الاكتشاف كعمل جماعي نتج عن فطنة بطل واحد هو الملازم بوشار”، بحسب دراسة يوسف.
كما كرست صحيفة “لو جورنال دو باري” اليومية الباريسية في 17 يناير/كانون الثاني عام 1800، تقريرا عن حجر رشيد، “أثار فضولا كبيرا لدى الرأي العام، وأسهب في تفاصيل اكتشاف بوشار”، وخرجت منافستها الباريسية “غازييت ناسيونال” مبرزة بوشار واكتشافه هي الأخرى.
في خضم كل هذه الأحداث والشهرة التي نالها في باريس، كان بوشار في حصن العريش، شمال شرقي مصر، يعانى حصار العثمانيين، في 29 ديسمبر/كانون الأول 1799، في مسعى منهم لاستعادة السيطرة على البلاد من قبضة الفرنسيين في ظل حالة الارتباك الفرنسي في ذلك الوقت، ورغبة الجنرال كليبير، الذي تولى مهام القيادة بعد عودة بونابرت إلى فرنسا في 23 أغسطس/آب، في وضع حد للخسائر الفرنسية والعودة بالجيش إلى بلاده.
اعتُقل بوشار وأرسله العثمانيون إلى سجن في دمشق، قضى هناك 40 يوما، ويتساءل يوسف في دراسته: “ما الذي كان يدور بخلده في هذا السجن الكئيب؟ هل كان يعلم أنه في الوقت الذي كان يئن فيه من البرد القارس في السجون العثمانية بدمشق في شتاء ديسمبر/كانون الأول، كانت كل باريس تتحدث عنه؟ هل كان يدرك أنه في الصالونات والمعاهد العلمية، الكل ينتظر عودته؟”
سيُفرج عن بوشار ويلقى ترحيبا من الجنرال كليبير وكونتيه ومنو بعد ذلك، مع ترقيته إلى رتبة نقيب وإرساله إلى رشيد، التي عثر فيها على الحجر قبل بضعة أشهر، لكنه سيقع أسيرا مرة أخرى ولكن في يد الإنجليز عندما استسلمت الحامية الفرنسية في معركة 9 أبريل/نيسان عام 1801 أمام هجوم للقوات الإنجليزية، بقيادة الجنرال هاتشينسون، وسوف يعاد إلى فرنسا، ويصل مارسيليا في 30 يوليو/تموز 1801.
استسلام جيش وضياع حجر
تولى منو مهام قيادة الجيش بحكم الأقدمية العسكرية، خلفا للجنرال كليبير الذي اغتيل في 14 يونيو/حزيران 1800 على يد شاب سوري يدعى سليمان الحلبي، كان منو مخلصا لمشروع بونابرت وإرساء دعائم إمبراطورية فرنسية في الشرق، على نقيض كليبير الذي اعتبر الحملة مغامرة عسكرية لا تهدف إلا لتحقيق مجد بونابرت الشخصي.
لم يجد علماء الحملة في شخص منو الحماية الحقيقية في تلك الأوقات العصيبة، وانتظر الإنجليز الفرصة للانقضاض على ثمار عملهم العلمي في مصر.
ويقول يوسف: “كان واضحا أن إرسال الحجر إلى المجمع العلمي المصري، والضجة الإعلامية التي حدثت لإبراز قيمته العلمية، من الأسباب الأولى لضياع الحجر من الفرنسيين، لأن الإنجليز جعلوه شرطا لا نقاش فيه للسماح للجيش الفرنسي بقيادة منو بالعودة إلى فرنسا”.
ويقول المؤرخ الفرنسي ريشار ليبو، في مقدمة دراسة “رسائل ويوميات رحلة مصر” لشامبليون، التي جمعتها وعلقت عليها المؤرخة هرمين هارتلبن، إن العلماء الفرنسيين رفضوا عند الاستسلام في عام 1801 إعطاء الانجليز ثمرة أعمالهم، بل هددوا بحرق كل شيء.
ويورد ليبو نص ما أعلنه عالم الطبيعة، جوفروا سان-هيلير: “لولانا نحن الفرنسيين لاستعصى عليكم أنتم وذويكم فهم هذا الحجر. ولكي لا نسمح بوقوع هذا الظلم والاغتصاب، سندمر كل ما في حوزتنا من وثائق، وسنذروها في رمال الصحراء الليبية، ونلقي بها في أعماق البحار”.
ويضيف النص: “سنحرق كافة هذه الثروات بدلا من أن نسلمها لكم كما تشتهون. حسنا، ولكن لتعلموا أن التاريخ لن ينسى ولن يغفر لكم هذه الجريمة الشنعاء التي تضاهي حرق مكتبة الإسكندرية”.
وأمام هذه العبارات الحادة أصر الإنجليز على الاحتفاظ بحجر رشيد وجميع الآثار المصرية التي كانت بحوزة الفرنسيين، وهو ما نصت عليه المادة 16 من معاهدة الإسكندرية لجلاء الجيش الفرنسي في 30 أغسطس/آب عام 1801، ووُضع الحجر منذ ذلك التاريخ في مكانه بالمتحف البريطاني.
ويقول يوسف في دراسته: “واصل بوشار حمل السلاح في حروب نابليون الأخرى، دون أن يحصل على مكافأة سخية على الإطلاق … سيموت في الخدمة العسكرية في جيفيه في إقليم آردين، في 5 أغسطس/آب 1822 فقيرا”.
بعد شهر واحد وفي 27 سبتمبر/أيلول من نفس العام يعلن شامبليون للعالم في نص رسالة شهيرة تحمل اسم “خطاب إلى السيد داسييه”، اكتشاف منظومة الكتابة المصرية القديمة، بعد أن استعان بـ “نسخة مطابقة” لحجر رشيد الأصلي، الذي لم يره على الإطلاق طيلة حياته القصيرة.
[ad_2]
Source link