كيف استفادت هذه المدينة الأوروبية من تراثها الشيوعي لتجدد نفسها؟
[ad_1]
- لوكا يوكيتش
- بي بي سي
بعد حوالي خمسة عقود من بنائها، كان يُنظر إلى “نوا هوتا” كنموذج للفشل في تحقيق يوتوبيا اشتراكية. لكن المدينة، التي بنيت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وجدت فرصة جديدة للحياة وبدأت تتحول ببطء إلى وجهة سياحية رائعة.
برزت بولندا كواحدة من أكثر الدول معاناة وتدميرا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ فقدت حوالي خمس سكانها ودُمرت عاصمتها وارسو بالكامل تقريبا من قبل النازيين، مع نهب أو تدمير الكثير من تراثها الثقافي.
وحتى حدود البلاد نُقلت عدة مئات من الكيلومترات إلى الغرب، وهو ما أجبر الملايين على الانتقال إلى ما يسمى بـ “الأراضي المستعادة” التي كانت جزءا من ألمانيا، والتي تُركت أيضا إلى حد كبير في حالة خراب.
عالم جديد
لكن من بين هذا الركام، ظهر الأمل في عالم جديد؛ عالم يخلو من أعباء الماضي ويعيد فخر الأمة المنهارة ويحل المشاكل الاجتماعية التي ابتليت بها البلاد لفترة طويلة. كان هذا ما وعد به الشيوعيون، الذين استولوا على السلطة في عام 1948 سكان البلاد. وتحت أعين جوزيف ستالين الساهرة، شرع هؤلاء في إعادة بناء البلاد، مسلحين بقناعة أيديولوجية بضرورة ظهور مجتمع جديد من رحم المجتمع القديم.
وكان مدينة “نوا هوتا” التي تأسست عام 1949 كمدينة اشتراكية واقعية شرق مدينة كراكوف وشُيدت على مدى العقود اللاحقة، رمز هذا المجتمع الجديد. وكان في قلبها شركة فلاديمير لينين العملاقة للصلب، والتي تهدف إلى إنتاج حديد بكميات تفوق ما كانت الدولة بأكملها قادرة على تصنيعه قبل الحرب.
وشكلت نوا هوتا، التي تعني حرفياً باللغة البولندية “أعمال الصُلب الجديدة” وبُنيت لاستيعاب عمال الصلب، المشروع الأكثر طموحا للتخطيط الحضري في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية: مدينة اشتراكية فاضلة يمكن لبقية الأمة أن تحاكيها وتسير على منوالها بعد ذلك. وتفرعت خمسة شوارع كبيرة من الساحة المركزية، وهو ما أعطى “نوا هوتا” شكلا خماسيا مميزا يعكس طابعها الضخم.
لكن أسلوب الواقعية الاشتراكية لم يعد مفضلا بعد وفاة ستالين في عام 1953 وما تلاها من تفكيك الستالينية. ولم يُستكمل بناء قاعة المدينة والمسرح الضخم في “نوا هوتا” أبدا، وجرى الانتهاء من الجزء المتبقي من المدينة بشكل أكثر تواضعا مما كان مخططا له.
وبحلول عام 1973، وكجائزة ترضية، نُصب تمثال لينين الأيقوني – الأكبر في بولندا – في شارع الورد، شمالي الميدان الرئيسي في المدينة.
“المدينة الفاضلة”
تقول كاثرين ليبو، التي قدم كتابها “المدينة الفاضلة غير المكتملة” لعام 2013 نظرة تفصيلية حول كيفية بناء المدينة وتطويرها: “لقد كانت مدينة مُخططا لها بعناية، لكنها فشلت بشكل لم يتوقعه أي شخص”.
وتذكر ليبو في كتابها أنه على الرغم من الزخم الأيديولوجي، فإن المخططين أنفسهم – بعض المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين البارزين في بولندا في ذلك الوقت – لم يتلقوا أي تعليمات مباشرة حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه المدينة. ومع ذلك، ومع الوضع في الاعتبار أن المدينة كان من المفترض أن تكون نموذجا حضريا مثاليا، فقد ركز تصميم المدينة على الحدائق والشقق الفسيحة، والتأكد من أن كل مبنى يحتوي على جميع الخدمات التي يحتاجها.
وشددت الواقعية الاشتراكية على استخدام الأساليب المحلية والمحتوى الاشتراكي، ورؤية جميع أشكال الفن كأدوات للدعاية، بما في ذلك الهندسة المعمارية. ولم يكن المقصود من المدن أن تكون جذابة من الناحية البصرية فحسب، بل كان من المفترض أن تصور الموضوعات الاشتراكية وتكون بمثابة خلفية للطقوس السياسية.
وبالنسبة لمعظم السكان الأصليين لـ “نوا هوتا” الذين هاجروا من الريف البولندي، كان الأمر أشبه بدخول عالم جديد – عالم كانوا هم أنفسهم يساعدون في بنائه.
وهناك أسطورة شائعة تقول إن اختيار موقع “نوا هوتا” قد جرى خصيصا بهدف ازدراء مدينة كراكوف المحافظة والبرجوازية، على أن تقف حداثة المدينة الوليدة وتمسكها بالقيم الاشتراكية في تناقض صارخ مع عاصمة بولندا في العصور الوسطى.
ومع ذلك، فإنه لا يمكن تجاهل التأثير المعماري لمدينة كراكوف القديمة في مدينة “نوا هوتا”، إذ جرى تكرار وتقليد أروقتها وساحاتها الداخلية وتصميماتها الأخرى على نطاق واسع. وفي النهاية، كانت كراكوف هي التي انتصرت عندما ضمت “نوا هوتا” إليها في عام 1951.
وبينما نجحت “نوا هوتا” في العديد من النواحي، لا يمكن فصل مصيرها عن مصير الشيوعية ككل. فبحلول التسعينيات من القرن الماضي، أصبحت “نوا هوتا”، التي يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، مرادفا للمخدرات والجريمة والفقر وأعمال الشغب، واشتهرت في جميع أنحاء بولندا باعتبارها واحدة من أكثر أجزاء البلاد كسادا.
لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم. وتعد بولندا واحدة من أعظم قصص النجاح الاقتصادي الحديث في أوروبا، وهو الأمر الذي يمكن الشعور به في كل من مراكزها الحضرية الكبرى وفي الأماكن التي كانت هامشية ذات يوم مثل “نوا هوتا”.
يقول ماتيوز مارشوكي، مرشد سياحي باللغة الإنجليزية في “مؤسسة الترويج لنوا هوتا”: “أصبحت نوا هوتا مكانا جذابا للعيش بشكل متزايد”، مشيرا إلى الزيادة الهائلة في أسعار إيجارات المنازل في السنوات الأخيرة.
ويضيف: “في السابق، كانت كل الحياة الليلية في كراكوف”. أما الآن، فتضم “نوا هوتا” عددا كبيرا من المطاعم والمقاهي والمحلات وشاحنات الطعام، للترفيه عن سكان المدينة. ويشير مارشوكي إلى التغييرات الهائلة التي شهدتها المدينة، فحتى حلبة التزلج على الجليد، التي افتتحت منذ فترة، أمر لم يكن من الممكن تصوره عندما كان صغيرا.
وقبل عشر سنوات، لم يكن لدى الزائر الكثير ليفعله في هذه المدينة، لكن “نوا هوتا” تعلمت الاستفادة من تراثها الشيوعي. إذ تقدم المدينة للأجانب والبولنديين على حد سواء لمحة سريعة عن الشيوعية كما كانت من قبل.
يقول مارشوكي: “الشباب البولنديون في الوقت الحاضر ليس لديهم فكرة عما كانت عليه الشيوعية”.
إن الدخول إلى أجزاء معينة من “نوا هوتا” يشبه الدخول إلى عوالم آبائهم وأجدادهم: من “مسرح الشعب” الذي جرى تجديده بالكامل بأسلوبه الواقعي الاشتراكي المستوحى من الطراز المصري ولافتة النيون الساطعة، إلى المعالم الأثرية لـ “حركة التضامن”، التي أسقطت الشيوعية عبر بولندا في عام 1989، وحوالي 250 مخبأً نوويا تحت المدينة، وهي آثار من وقت كان الناس فيه قلقين بشأن نهاية العالم نتيجة استخدام الأسلحة النووية.
وإلى جانب تاريخها، الذي يمكن استكشافه في متحف نوا هوتا، الذي افتتح في عام 2019 في موقع المسرح السينمائي القديم، فإن المقصد الرئيسي للسياح اليوم هو العمارة الواقعية الاشتراكية المتبقية في “نوا هوتا”. وباعتبارها واحدة من اثنتين فقط من المستوطنات الواقعية الاشتراكية المخططة والمبنية في العالم، إلى جانب مدينة ماغنيتوغورسك الروسية، فإن “نوا هوتا” مختلفة تماما عن الحداثة والوحشية المرتبطة عادةً باشتراكية أوروبا الشرقية.
وتتمثل جوهرة العمارة الواقعية الاشتراكية في “نوا هوتا” في المبنى الإداري السابق لشركة أعمال الصلب، التي لا يزال مظهرها الخارجي الفخم والداخلي الرائع من عصر النهضة يعكسان الطراز المعماري لتلك الفترة. وعلى الرغم من أن “مؤسسة الترويج لنوا هوتا” مغلقة من الناحية الفنية أمام الجمهور، إلا أنها تقدم جولات داخل هذا المبنى، الذي يصفه مارشوكي بأنه “المبنى الأكثر شهرة في نوا هوتا”.
لا تزال المدينة رمزا حيا، لكنها ليست الرمز الذي كان من المفترض أن تكون عليه. ومن عظمة إعادة الإعمار الستالينية إلى تمرد التدين المناهض للشيوعية إلى فساد ما بعد الاشتراكية، وفي النهاية، الانتعاش في بولندا الجديدة، فإن مصير “نوا هوتا” يعكس مصير بولندا منذ الحرب العالمية الثانية. لقد وجدت “نوا هوتا” حياة جديدة، ليس كمدينة اشتراكية مثالية، بل كنموذج جديد في بولندا ديمقراطية ورأسمالية وأوروبية.
[ad_2]
Source link