بعد “قرافة المماليك”، مخاوف من هدم مقابر في “مدينة الموتى” بالقاهرة التاريخية لإنشاء طريق جديد
[ad_1]
- عبدالرحمن أبو طالب
- بي بي سي عربي – القاهرة
“لا أتخيل أن أدفن في مكان آخر، أو أن نحرم من الشيء الوحيد الذي تمناه أهلي، وهو أن يتم دفن رفاتهم في هذا المكان”، هكذا تحكى مها سليم، الباحثة في التاريخ، وصاحبة مدفن في “مدينة الموتى” بالقاهرة التاريخية.
علمت مها مؤخرا بنية السلطات المصرية إزالة مدافن الأسرة ونقل الجثامين المدفونة فيها لمكان آخر، في إطار خطة حكومية لاستغلال المنطقة في تطوير شبكة الطرق، وإنشاء محاور تربط العاصمة الإدارية الجديدة بالقاهرة.
أعلنت محافظة القاهرة عن نيتها إزالة نحو 2700 مقبرة بالمنطقة، وهو ما يفزع أهالي الموتى المدفونين هناك، ويثير اعتراضات مهتمين بالتراث.
مدافن تاريخية
تمتلك عائلة مها مقبرتين في المنطقة القريبة من مسجد وضريح الإمام الشافعي المدفون على أطراف القاهرة التاريخية، وهي المنطقة التي تكونت منها القاهرة منذ إنشائها، وحتى بداية القرن الماضي.
في إحداهما، ترقد جثامين محمد عبدالسميع بك وخمسة من أفراد أسرته، وهو أول مدير مصري لقصر العيني، أقدم مدرسة نظامية للطب في مصر أنشئت قبل نحو مئتي عام.
وفي المقبرة الأخرى، دُفن مصطفى منير بك أدهم، أحد كبار المسؤولين الحكوميين في مصر في حقبة الملكية، وصاحب التسمية التاريخية لشوارع مصر.
خلال زيارات مها التي تكثفت مؤخرا للمدافن، تحكى لبي بي سي: “نحن شافعيو المذهب، وقد اختار أهلي أن يدفنوا جوار الإمام الشافعي، حبا فيه وتقديرا لعلمه. منذ أن كبرنا ونحن نستعد للرحيل، وفي وجداننا أن ندفن هنا، وقد أوصينا بهذا. لو هدم هذا المدفن فلن أهتم بعدها أين سأدفن”.
وتؤكد: “هذه ليست مجرد مقابر، هذا تاريخ. هذا المكان بمثابة البقيع في مصر .. هل ينقل أحد البقيع -مقابر تاريخية في المدينة المنورة بالسعودية- أو مقابر الكومنولث -مقابر ضحايا الحرب العالمية الثانية-؟ لا، بالعكس يهتمون بها لأنها تذكر بما حدث في العصور السابقة”.
وتضيف في سياق حديثها عن فرادة المكان: “هناك أناس بسطاء يدفنون موتاهم هنا أيضا منذ عشرات السنين. هذه المنطقة تمثل تلاحم الناس ببعضها على مدار التاريخ”.
ويعبر مهتمون بالتراث عن مخاوفهم من أن مقابر أمراء في العصر الملكي السابق، بالإضافة لمدافن وزراء ومسؤولين كبار، وبعض مشاهير الكتاب والشعراء ومقرئي القرآن، معرضة للهدم.
كما يتخوفون من أن تكون الإجراءات مقدمة لنقل كل المدافن من قلب القاهرة إلى مناطق صحراوية.
وتحتل المقابر قداسة خاصة في وجدان المصريين، فهم يزورونها في الأعياد والمواسم الدينية، لقراءة القرآن وتوزيع النذور
طراز معماري مميز
يمكن للسائر في مدينة الموتى أن يلاحظ القباب التي تعلو كثيرا من المقابر، والزخارف الإسلامية التي نقشت على أسوارها، والعبارات التي كتبها خطاطو العصور السابقة على أبوابها.
تملك عائلة يكن التي ينتمي لها رئيس وزراء مصر السابق عدلي يكن، ووزير خارجيتها أحمد مدحت يكن، ثلاثة مدافن في المنطقة، بُني كل منها على مساحات واسعة، يبلغ أحدها 2500 متر مربع.
وتضم المدافن الثلاثة عشرات الشواهد الرخامية، المنقوشة بعبارات نعي وعزاء، كتب بعضها بماء الذهب.
يتجاوز عدد المدفونين في المقابر الثلاثة نحو 120 جثمان. لا يدرى محمد يكن، وهو أحد أفراد الأسرة، كيف سينقل كل هذا العدد قائلا: “تكلفة النقل ستبلغ مئات آلاف الجنيهات، وهذا فوق قدرة أي شخص على الاحتمال”، كما يتساءل عن مصير محتويات المدفن بعد نقل أصحابه.
“تعويضات غير مناسبة”
تعوض الحكومة أصحاب المدافن التي يتم هدمها، بقبر مساحته 30 مترا في منطقة 15 مايو، الواقعة على الأطراف الجنوبية للقاهرة.
بديل يراه أصحاب المدافن غير مناسب، فسعة مدافنهم تفوقه بعدة أضعاف، كما أن بعضهم يجد صعوبة في دفن عشرات الجثامين في هذه المساحة.
يضم مدفن عائلة ذو الفقار رفات نحو 60 شخصا، من بينهم الملكة فريدة، ملكة مصر السابقة في حقبة الأربعينيات.
يقول سيف الله ذو الفقار أحد أفراد الأسرة: “مصر نظمت قبل أشهر موكبا لنقل المومياوات الملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى متحف الحضارات. والملكة فريدة أيضا كانت ملكة مصر في وقت من الأوقات، وأفراد الأسرة كلهم كان لهم دور في تاريخ مصر في فترة قريبة، ولا بد من نقلهم بطريقة تليق بهم. كيف تنقل 60 جثمانا لدفنهم في 30 مترا!”.
موجات هدم سابقة
خلال العام الماضي أزالت السلطات المصرية عشرات المدافن، من بينها مقابر شخصيات تاريخية، في منطقة “قرافة المماليك”، التي أنشئت قبل مئات السنين.
نفت الحكومة مرارا أن يكون أي من المدافن التي يجري هدمها مسجلا في عداد المباني الأثرية.
لكن ذلك ليس مبررا وجيها لهدم المدافن في عيون كثير من المهتمين بالتراث. فمدينة الموتى، هي جزء من القاهرة التاريخية، التي تصنف منطقة تراثية ذات طابع مميز، تسري عليها اشتراطات خاصة للهدم والبناء.
وتوجب القوانين الحصول على موافقة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وهو جهاز حكومي يتكون من مختصين في التراث والتخطيط العمراني، قبل إجراء أي تعديل.
لكن سهير حواس عضوة الجهاز تقول إنه لم تعرض عليهم أي من هذه الخطط، وأنها تشعر بالقلق من تكرار هدم المدافن خلال الشهور الماضية، وهو ما قد يشير بحسبها إلى “وجود انفصال بين ما يتم من مشروعات وبين المتلقي”.
وتضيف “دورنا كجيل أن نوصل التراث للمستقبل، لأن له قيمة تستحق الاستمرار، لو وقع خلل ولم يحافظ أحد الأجيال على هذا التراث، سينقطع التواصل بين الماضي والمستقبل. لو أراد شخص إزالة مكان تراثي، عليه أولا أن يقيم الدليل على أن هذا المكان لا يستحق الاستمرار”.
اليونيسكو قلقة بشأن عمليات الهدم
قبل نحو 40 عاما، سجلت اليونسكو القاهرة التاريخية، وفي قلبها مدينة الموتى، على قائمة التراث العالمي.
لكن في السنوات الأخيرة، كررت اليونيسكو شكواها من الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، وهددت بشطبها من قائمة التراث العالمي، ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر.
في تقريرها الأخير، أعربت المنظمة عن قلقها من إنشاء طريق يمر بمدينة الموتى، واشتكت من عدم تلقيها أي معلومات من مصر عن الأمر.
في بيان نصي، قالت اليونسكو لبي بي سي، إنها تواصل الحوار مع الحكومة المصرية، وتعمل معها لضمان تماشي المشاريع العمرانية مع حماية مواقع التراث العالمي.
مخاوف لدى سكان المقابر
لكن المخاوف بشأن المكان تتجاوز القلق بشأن الأموات إلى الأحياء، حيث تختلط هناك البيوت بالأضرحة وشواهد القبور، وورش العمال بالمساجد والمدافن الأثرية.
يسكن محمد عبد الحميد في غرفة ملحقة بمدفن الشيخ حسونة النواوي، شيخ الجامع الأزهر، الذي توفي عام 1926.
محمد، الذي يعيش هناك منذ ولد قبل 55 عاما، خلفا لجده وأبيه، الذين عاشوا في نفس المكان، أُبلغ من موظف حكومي باحتمال هدم المدفن، لكنه لا يعلم شيئا بشأن مصيره هو.
“نعيش هنا أنا وأمي وأخي، وفي المقابر المحيطة يعيش باقي إخوتي مع أسرهم. عندما نسمع ما يدور بشأن إزالة المدافن، كأن أرواحنا تنحسب. نشعر أننا سنفترق ولن نرى بعضنا مرة أخرى إلا بصعوبة”، بحسب قول محمد.
ويضيف: “حياتنا كلها هنا، وأصدقاؤنا وأحبابنا. ونعيش في بركة أصحاب المقابر الصالحين المدفونين هنا. حتى لو نقلنا لمكان راقٍ، لن نعيش بنفس الروح الطيبة التي نعيش بها هنا”.
مشاريع تطوير
تقول الحكومة إنها تعمل على تطوير القاهرة التاريخية وإعادة المنطقة لرونقها الحضاري، كما تسعى لنقل سكان العشوائيات وسكان المقابر لـ “أماكن آدمية”.
خلال الأشهر الماضية، أولت الحكومة اهتماما خاصا بالمنطقة القريبة من مدينة الموتى، فأزالت التعديات على سور مجرى العيون الأثري، وعملت على تطوير أحياء القاهرة التاريخية كمنطقة باب زويلة وسوق السلاح وغيرها، ونقلت سكان المناطق العشوائية لمساكن جديدة.
كما افتتحت متحف الحضارات الذي يقع في مواجهة المقابر، ونقلت إليه بعضا من أهم الآثار الفرعونية والمومياوات الملكية، في حفل مهيب نقلته وسائل إعلام عالمية.
ويرى خبراء أن هذه الخطوات أدت إلى زيادة الإقبال على زيارة الآثار الإسلامية.
إذ يقول جمال عبدالرحيم، أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بجامعة القاهرة إن “ما يهدم هو العشوائيات والمقابر العشوائية، وهذا يخدم المنطقة من الناحية السياحية”.
ويضيف: “في السنوات السابقة كان السائح يأتي لرؤية الآثار الفرعونية فقط، لكن أعداد القادمين لمشاهدة الآثار الإسلامية أصبح أكبر”.
بينما تقول مها سليم، صاحبة مدفن بمنطقة الإمام الشافعي “لسنا ضد التطوير، لكننا نتمنى أن يتم بالتوازي مع الحفاظ على المدافن.”
ويتفق مع مها كل من تحدثوا إلينا من أصحاب المدافن، مؤكدين على ضرورة إجراء مزيد من الحوار المجتمعي حول الأمر.
[ad_2]
Source link