كوستا برافا لبنان: كيف يقترن التلوث البيئي بالسياسي؟
[ad_1]
- صفاء الصالح
- بي بي سي
مع تواصل فعاليات قمة المناخ 26 في غلاسكو، ينشغل العالم بمناقشة مصير كوكبنا والمخاطر التي تفرضها الانبعاثات الكربونية وتأثيراتها المدمرة على بيئتنا وعلى مستقبلنا جميعا، بحسب تحليل برنامج الأمم المتحدة للبيئة الذي وصفه أمينها العام إنطونيو غوتيرش بأنه “صرخة أيقاظ مدوية” للإنسانية جمعاء.
وفي وقت قدمت السينما العالمية مساهمات مهمة وثرة في تناول قضية البيئة وآثار التغير المناخي، ليس في سياق السينما الوثائقية فحسب، بل في مختلف الأنواع والجنرات الفنية الأخرى؛ وكانت وسيلة للناشطين في مجال الدفاع عن البيئة لتقديم أفكارهم والوصول إلى بها إلى أكبر جمهور (نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر فيلم نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور المتوج بجائزة نوبل عن جهوده في مجال الدفاع عن البيئة “حقيقة مزعجة” الذي منح جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي عام 2007)، ظلت الأفلام العربية التي تناولت هذا الموضوع شحيحة ونادرة، لا سيما في إطار السينما الروائية.
وأحد هذه الأفلام الروائية النادرة، هو فيلم “كوستا برافا، لبنان” للمخرجة اللبنانية مونيا (مُنية) عقل، الذي عرض مؤخرا في مهرجاني لندن والجونة السينمائيين، وتوج بجائزة الجمهور في مهرجان لندن، وبجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين “فيبريسي” وجائزة نجمة الجونة الخضراء في مهرجان الجونة السينمائي، التي استحدثت في الدورة الخامسة للمهرجان هذا العام، في إطار مبادرة تهدف إلى رفع الوعي بقضايا البيئة تتنافس فيها الأفلام المعنية بقضايا البيئة والتغير المناخي والتنمية البيئية المستدامة.
وقد رشح الفيلم أيضا لتمثيل لبنان في التنافس على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار التي ستعلن نتائجها في مارس/ آذار 2022.
تلوث بيئي وسياسي
وتنطلق عقل في فيلمها من أزمة واقعية شهدها لبنان، وهي أزمة القمامة والنفايات التي تراكمت في البلاد في عام 2015. وتحاول أن تجعل منها خلفية لأحداث فيلمها الذي تختار فيه عينة لعائلة لبنانية محاصرة بالتلوث البيئي والسياسي الذي تختنق به البلاد. وهي عائلة بدري المؤلفة من زوجة وزوج وابنتيهما فضلا عن والدة الزوج، تختار العيش في منزل ريفي تملكه العائلة في الجبل بعيدا عن تلوث العاصمة واختناقها، لكنها سرعان ما تحاصر من جديد ببناء مكب للنفايات قرب منزلها.
وبدءا من عنوان الفيلم “كوستا برافا، لبنان” نواجه بمفارقة مقصودة، فاسم الساحل الإسباني الشهير، (يترجم حرفيا: الشاطئ البري) الذي يمثل مقصدا أثيرا للسياح في كاتالونيا في شمال شرق إسبانيا، بات يطلق في لبنان على مكب للنفايات افتتح في عام 2016 كمطمر جديد لحل أزمة النفايات في البلاد، وواجه حملة نشطة من السكان المحليين والناشطين البيئيين طالبت بإغلاقه.
وسبق لعقل، التي جاءت إلى السينما من العمارة التي درستها في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة قبل أن تنتقل إلى دراسة السينما في جامعة كولومبيا في نيويورك، أن أخرجت فيلما قصيرا حمل معالجة مختلفة للموضوع ذاته، حمل عنوان “سَبمارين” وعرض في مسابقة سيني فواندسيون في مهرجان كان السينمائي 2016 وفاز بجائزة خاصة من لجنة التحكيم في مهرجان دبي في العام نفسه.
ويمكن وصف هذا الفيلم القصير بأنه كان تمرينا لإنجاز فيلمها الطويل الأول. وعند المقارنة بين المعالجة السينمائية بين الفيلمين نتلمس درجة عالية من النضج حققتها عقل في فيلمها الأخير مقارنة بتلك المعالجة التي يطغي عليها نزوع رومانتيكي في رسم صورة بطلتها التي ترفض ترك مدينتها المختنقة بالقمامة في وقت قرر الجميع مغادرتها. يضاف إلى ذلك ضعف واضح في خلق حبكة درامية متصاعدة، إذ يستحيل الفيلم إلى مجموعة من اللوحات المنفصلة عن البطلة وموقفها. (الفيلم متوفر للمشاهدة على موقع فيمو).
بيد أن عقل تتخلص من كل تلك الهنات في فيلمها الجديد، لتقدم حبكة سردية أكثر إقناعا واقترابا من الواقع، تتوفر على بناء درامي متصاعد ووحدة زمان ومكان تجري فيها أحداث الفيلم، فضلا عن معالجة ذكية للتحولات في واقع العائلة التي اختارتها نموذجا، والاستجابات النفسية المختلفة التي يقدمها أفرادها في مواجهة ضغط الواقع المحيط.
عزلة ريفية
وفي الفيلمين معا، اشتركت عقل في كتابة السيناريو مع زميلتها في الدراسة في جامعة كولومبيا كاتبة السيناريو الإسبانية كلارا روكيت (وهي مخرجة أيضا أخرجت فيلم ليبرتا أو حرية عام 2021 وعرض في أسبوع النقاد في مهرجان كان هذا العام فضلا عن مسلسلين تلفزيونيين وفيلمين قصيرين)، وكانت قد لفتت الانتباه إليها منذ كتابتها سيناريو فيلم “10.000 كيلومتر” الذي حصل على جائزة غاودي التي تمنحها أكاديمية الفيلم الكاتالانية في العام 2014، كما توج بجائزة غويا الإسبانية لأفضل مخرج واعد لمخرجه كارلوس ماركيز مارثيت في العام نفسه.
وتفتتح عقل فيلمها بمشهد تمثال ضخم منفذ بطريقة بشعة يوضع على شاحنة تبدأ رحلتها وسط مشهد خراب ميناء بيروت بعد الانفجار الذي وقع فيه ليقطع شوارع المدينة المنكوبة وصولا إلى مكان نصبه في موقع افتتاح مكب النفايات الجديد خارج المدينة، المجاور للمنزل الريفي الذي اختارت عائلة وليد بدري العيش فيه منعزلة.
وعلى الرغم من التنفيذ الجيد لمشهد حركة التمثال وسط المدينة المخربة بعدسة المصور اللبناني جو سعادة (عمل مع عقل في بقية أفلامها أيضا، فضلا عن فيلم المخرج جيمي كيروز “مفاتيح مكسورة” وفيلم “كأس العمال” للمخرج آدم سوبِل)، إلا أنه يستحيل إلى استعارة ذات طابع سياسي مبالغ بها، إذا علمنا أن التمثال الضخم المذكور كان لرئيس الجمهورية وقد نقل ليوضع في مدخل مكب النفايات عند افتتاحه!!
ويمكننا هنا أن نستذكر عددا من المشاهد التي قدمت حركة نقل تمثال ضخم في السينما؛ لعل أجملها مشهد نقل تمثال لينين الذي ترافقه موسيقى اليونانية أيليني كاريندرو الساحرة في فيلم “تحديقة يولسيس” للمخرج اليوناني الشهير ثيو أنجلو بولوس. وهذا الاستذكار ليس للمقارنة هنا التي يمكن أن تظلم فيلم عقل كثيرا عند إجرائها.
ويستعيد السرد واقعيته لاحقا عندما ندخل إلى أجواء العائلة الحميمة في منزلها الريفي، الأب وليد (يؤدي دوره الممثل صالح بكري) الذي اختار أن يهرب بعائلته من بيروت ليعيش باكتفاء ذاتي في هذا المنزل الريفي الذي ورثه عن عائلته، ونعرف أن اخته المهاجرة قد باعت حصتها من الأرض الموروثة وهي التي بُني فيها مكب النفايات الجديد.
ويعيش وليد في أجواء من البساطة والحميمية مع زوجته ثريا (الممثلة نادين لبكي)، وابنتيه: المراهقة عُليا (يُمنى مروان) والطفلة الصغيرة ريم (أدت دورها الطفلتان التوأم سينا وجينا رُستم) فضلا عن والدته زينة (ليليان جاسر خوري)، ويصور الفيلم في مشاهده الأولى تلك الأجواء السعيدة والصحية التي كانت تعيش فيها العائلة في فضائها الريفي المعزل.
بيد أن هذه السعادة والعزلة الهادئة سرعان ما تتهدد بوصول فرق العمل في مكب النفايات الجديد، الذي يستجيب له أفراد العائلة بطرق مختلفة تكسر طمأنينتهم الريفية السابقة وتثير الحنين لدى البعض في العودة إلى المدينة وأجوائها. فالأم زينة تبدأ في الاستمتاع بالحوار مع العمال وتعود للتدخين مع السجائر الممنوعة منها لأسباب صحية والتي يهروبونها لها، حتى تتدهور صحتها وتموت لاحقا، والبنت المراهقة يستيقظ جسدها على محاولة حب مهندس شاب مقيم في المشروع. وتعود الزوجة ثريا إلى تذكر أيامها الخوالي عندما كانت موسيقية معروفة عندما يُذّكرها بعض العاملين بأغانيها. ويظل الأب وليد هو الأكثر صلابة في مقاومة مشروع إقامة المكب في الأرض المجاورة.
ويذكرنا مسار الفيلم هنا بفيلم “منزل” (هوم)عام 2008 للمخرجة الفرنسية السويسرية أورسولا ماير وبطولة الممثلة الفرنسية إيزابيل هوبير والممثل البلجيكي أوليفييه غورميه، لا سيما في تلك الانتقالة في تأثير حدث خارجي (افتتاح شارع خط سريع أوتوستراد قرب منزل عائلة تعيش في عزلة ريفية محببة في فيلم ماير، أو مكب النفايات في فيلم عقل) في وقوع تأثيرات سايكولوجية على شخصيات العائلة وتفجير صراعات بينها تحيل حياتها التي كانت مطمئنة في عزلتها الريفية إلى جحيم).
بيد أن ما يحسب لعقل هنا أنها ظلت متمسكة بسياق سرد واقعي، في تحولات شخصياتها، ولم تذهب مع إغراء أخذ هذه التحولات الى أقصاها كما في فيلم “منزل”، الذي أوشك أن يتحول إلى فيلم رعب في نهايته عندما يسد الأب كل شبابيك المنزل وأبوابه على عائلته. فقد قدمت عقل حلولا أكثر واقعية وتناسبا مع الواقع الشرقي الذي تتحدث عنه؛ فالفتاة المراهقة تفشل في قصة حبها للمهندس وتظل علاقتهما بريئة مع تردده في خوض علاقة معها، بينما تهرب الشابة المراهقة في فيلم ماير من البيت وتذهب مع أحد الشباب المارين على الطريق. والأم ثريا تستعيد ماضيها الموسيقي وذكرياتها عن كفاحها في حركات الاحتجاج في بيروت حيث تعرفت على زوجها في أحدها وتقرر العودة مع ابنتها الكبيرة إلى هناك، بينما يظل الأب مع ابنته الصغيرة، التي تحسم الموقف في النهاية بالخروج من البيت منفردة للحاق بأمها واختها فيلحق بها الأب في طريق العودة.
فضاء حميم
لقد انطلقت عقل من قضية تلوث البيئة وأزمة النفايات في لبنان لتنتهي في دراما عائلية حافلة بالكثير من التفاصيل الصغيرة التي تكشف عن سايكولوجية شخصياتها واستجاباتها لشدة خارجية تقع في محيطها.
وهذه التفاصيل الصغيرة هي ما منحت فيلم “كوستا برافا لبنان” حيويته وأعطت لممثليه فرصة تقديم شخصيات نابضة بالحياة، كشفت عن بعض أمكانياتهم الأدائية. فوجدنا أداء نادين لبكي مميزا في هذا الفيلم، وفيه لمسة اختلاف عن تجاربها الأدائية السابقة، في حركتها وتعابيرها في فضاء تلك العلاقة العائلية الحميمة، والانسجام العالي في الإداء بينها وبين بكري، وكأن كيمياءً خاصة تتوهج بينهما.
لقد نجحت عقل في خلق هذا الفضاء العائلي الحميم في تلك العزلة الريفية وإدارة أداء ممثليها وسطها بتميز، سواء في العلاقة بين الزوجين، أو علاقة الزوجة من ابنتيها لا سيما الطفلة الصغيرة (التي تناوبتا على أداء مشاهدها طفلتان).
وترافق ذلك مع نزوع شاعري، بل قل رومانتيكي إحيانا، لا سيما في المشاهد التي تتعامل فيها مع فكرة البيت – الوطن المضمخة بالحنين (النوستالجيا)، وفكرة مثالية عن المكان الأول المكون، وضرورة التمسك به وبروحه (لقد قدمت في نموذج الأخت المهاجرة صورة بطل مضاد في هذا الصدد عزز تلك الصورة المثالية التي رسمت فيها علاقة شخصياتها بالوطن-البيت، سواء في شخصية ثريا التي تحن لحراك الاحتجاج والنضال أو الزوج الذي بات يُفضل العزلة لكنهما في النهاية يتفقان على تقديس صورة الوطن- البيت، بالمقارنة مع شخصية الأخت.
وتعززت تلك المعالجة الشاعرية مع حركات كاميرا جو سعادة؛ سواء في المشاهد الداخلية المصورة عبر إضاءة منخفضة تجعلها تبدو وكأنها حلمية (على سبيل المثال حديث ثريا مع ابنتيها عن تعرفها على أبوهما وقصة حبهما خلال الاحتجاجات، أو تلك المشاهد المصورة في ضوء النهار لتفاصيل الحياة الحميمة في المنزل والفضاء الريفي المحيط به وحركة الاطفال فيه. ومع تلك الموتيفات الموسيقية الهادئة والتي تتخلها أحيانا أمواج من موسيقى آلات النفخ الهوائية التي تبث وسطها موجة مرح خفيفة، في الموسيقى التي كتبها نَيثَن لارسن.
وقد تجنح أحيانا نحو السريالية كما في مشهد الحلم الذي يرى فيه وليد أكياس القمامة ترتفع إلى السماء وتستحيل أشبه بقناديل، أو تحول مياه المسبح إلى لون أحمر دموي جراء عطل جهاز التصفية وتلوث المياه الجوفية بسبب مطمر القمامة الغريب.
وأخيرا، لا بد من التنويه هنا على أن حرص الفيلم في تناول قضية البيئة لم يقتصر على طرحها كموضوع أساسي في الفيلم، بل امتد إلى طريقة تنفيذه؛ إذ تشدد المخرجة على أنها وفريقها لم يتسببا بأي ضرر في البيئة والمشاهد الطبيعية التي صوروا فيها ولم يمسوا أي شجرة فيها، حتى مكب النفايات الذي ظهر في الفيلم لم يكن حقيقيا بل كان نتاج استخدام مؤثرات سينمائية تعاون فريق إنتاج الفيلم مع فريق مؤثرات “من الأردن والدنمارك وفرنسا على مستوى عال من المهنية، ساعدنا أن ننفذ المكب بدون أن يكون وجوده حقيقيا”، حسب تعبير المخرجة في أكثر من لقاء صحفي.
لقد خلصت عقل في فيلمها إلى استحالة خيار العزلة وخلق مساحة صغيرة نقية ونظيفة وسط فضاء يختنق بالتلوث البيئي وصنوه السياسي، ففي عودة شخصياتها في النهاية إلى المدينة التي كان لديها فيها ماضٍ نضالي دعوة واضحة للعودة إلى فضاء التضامن والحراك الاحتجاجي، ولكن هذه المرة مطعما بصوت المستقبل (الأجيال الجديدة) كما في قيام الطفلة الصغيرة بأخذ زمام المبادرة ليلتحق بها والدها في خيار العودة إلى بيروت.
وبعيدا عن هذا الصوت الاحتجاجي المُنافح، يظل أجمل ما في فيلم “كوستا برافا لبنان” إتقان فن التفاصيل الصغيرة، ولمسة الحنين الطاغية في التعامل مع مكان الإنسان المُكوِّن الأول: البيت- الوطن.
[ad_2]
Source link