النوبة: قصة المرأة التي تعيد إحياء التراث النوبي في مصر
[ad_1]
- بهيرة أمين
- بي بي سي
المخرجة النوبية حفصة أمبركاب تربط الأجيال الشابة بلغتها وثقافتها المفقودة في أرض أجدادهم الغارقة.
في السطور الافتتاحية لأغنية منسية تسمى “مشكومسي”، تعود حسيبة البالغة من العمر 70 عامًا إلى طفولتها على ضفاف نهر النيل في جنوبي مصر. وعلى بُعد 200 كيلومتر شمال أرض أجدادها الغارقة، طلبت حفصة، ابنة حسيبة، من أمها أن تغني شيئًا بلغة كنزي (المعروفة أيضًا باسم ماتوكي) – واحدة من لغتين نوبيتين يجري التحدث بهما في مصر إلى جانب لغة فاديكا – ومن مكان عميق في ذاكرتها، غنت حسيبة جزءا من الأغنية التي كانت تحبها عندما كانت صغيرة.
“أشاهد القارب يأتي من بعيد، والأشرعة والأعلام تتطاير في الهواء. أين يمكنني أن أجد آخر؟ أفتقد النوبة، أفتقد جبال النوبة”. كانت هذه هي ترجمة الأسطر الوحيدة التي ما زالت السيدة السبعينية تتذكرها من أغنية غير مسجلة للفنان النوبي عبده الصغير وتغنيها لابنتها المخرجة حفصة أمبركاب، التي اختارت لقبها تكريما لمهد أجدادها: قرية أمبركاب.
وفي عام 2019، أخرجت أمبركاب أول فيلم وثائقي لها يستكشف تراثها النوبي. وعلى الرغم من أنها كانت تعتقد أنها تتحدث لغة كنزي بطلاقة، فإنها لم تكن تعلم أن لغتها الأم بها كلمة “مشكومسي”، والتي تعني “أفتقد”.
وعندما كانت حسيبة فتاة صغيرة في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت قرية أمبركاب لا تزال على بُعد بضع سنوات من الغمر نتيجة بناء السد العالي في أسوان في عام 1964، وهو ما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من الأشخاص، وغرق 44 قرية نوبية خلف هذا المشروع الضخم.
وارتبط نوبيو الصحراء الشرقية، وهم السكان الأصليين في جنوبي مصر وشمالي السودان، ارتباطًا وثيقًا بمصر منذ آلاف السنين. فالأسرة الخامسة والعشرون، على سبيل المثال، تألفت من الفراعنة النوبيين من مملكة كوش الذين حكموا مصر القديمة في القرن السابع قبل الميلاد.
وعلى الرغم من أن تأسيس مصر الحديثة شمل المنطقة المعروفة باسم النوبة السفلى، إلا أن المجموعة العرقية واللغوية التي تعيش الآن بشكل رئيسي شمال بحيرة ناصر (تسمى بحيرة النوبة جنوب الحدود السودانية)، تختلف تاريخيًا وثقافيًا عن المجتمعات الأخرى في مصر.
وعلى مدار آلاف السنين، كان الارتباط بالنيل أمرا محوريا للحضارة والثقافة النوبية حتى عام 1964، عندما أعيد توطين معظم القرى، بما في ذلك أمبركاب، في المشروع الحكومي “نصر النوبة” بالقرب من كوم أمبو، على بُعد 70 كم شمال شرق السد العالي.
كما أدى هذا الانتقال الأولي إلى رحيل الآلاف إلى المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية والسويس بحثًا عن فرص عمل. وهاجر آخرون خارج البلاد، وأقاموا مجتمعات شتات في دول الخليج وأمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا.
وتعرَّضت اللغتان كنزي/ماتوكي وفاديكا – التي يجري التحدث بهما أيضا في شمالي السودان – إلى الإهمال النسبي، بعدما تشتت الناس واختلطوا مع المجتمعات غير النوبية.
وفي نصر النوبة، يعتز الجيل الكبير في السن بقصص أراضي الأجداد مثل القصص التي ترويها حسيبة، ويمتلك هذا الجيل فهمًا أقوى للغة، على الرغم من انفصاله تمامًا عن النيل.
وعلى العكس من ذلك، فإن أولئك الذين يعيشون بالقرب من مدينة أسوان، على بُعد 50 كم إلى الجنوب، والذين ما زالوا يعيشون على ضفاف النهر ويعملون في مجال السياحة، قد حافظوا على بعض العادات النوبية على قيد الحياة من خلال تسويقها كتجارب سياحية. (يمكن رؤية تمساح النيل، وهو رمز مهم ثقافيًا للقوة، في حفر ضحلة في العديد من دور الضيافة النوبية).
إن كلمة “مشكومسي”، وجهل أمبركاب بها، يرمزان إلى حالة اللغات النوبية اليوم: فحتى أولئك الذين يتحدثون بهذه اللغات غالبًا ما يعانون من فجوات واضحة في معرفتهم بها.
تقول أمبركاب: “كلما غنت أمي المزيد من الأغاني، اكتشفنا المزيد من المفردات وأدركنا أننا لا نعرف الكثير”.
وانطلقت هذه المخرجة الشابة في رحلة ملحمية والكاميرا في يدها لتكتشف كل ما لم تكن تعرفه عن وطنها وتراثها وتشاركه مع الجيل القادم من الشباب النوبي من خلال “كوما وايدي”، وهي مبادرة تعليمية تتخذ من أسوان مقرا لها وتركز على ورش العمل وتوثيق التراث، والتي تعني “حكايات الماضي” بلغة كنزي.
قابلت أمبركاب على سقف دار ضيافة في جزيرة إلفنتين، على بُعد دقيقتين بالقارب من أسوان. وحصلنا على فترة راحة من حرارة الشمس، وشاهدنا القوارب وهي تمر فوق النهر المتلألئ، وانتابنا شعور بالخوف والعجب من فكرة تحنيط التماسيح – التي كانت متناثرة حول مجموعة من التحف في دار الضيافة، وكانت هناك تماسيح محشوة ومركبة بطول ثلاثة أمتار. وفوقها، كانت أرفف العرض تحتوي على منحوتات خشبية دقيقة للمنازل النوبية التقليدية، وخزانة بها كاميرات عتيقة بطول 16 ملم وساعات جيب بريطانية، وحائط مكدس بأواني فخارية تقليدية وحاويات خشبية قديمة وعدد قليل من الهدايا التذكارية المنتجة بكميات كبيرة.
ودخلت أمبركاب في حوار عميق مع مشاركتين في مبادرة “كوما وايدي”، وهما سما ميرغني وضحى طارق البالغتين من العمر 13 عامًا، واللتين انضمتا إلينا للحديث عن تجربتهما في تعلم صناعة أفلام وثائقية عن تراثهما.
وبينما كانت أمبركاب تتفحص الأشياء المعروضة خلفها على أرفف دار الضيافة، كانت تُحدث هاتين الفتاتين عن اقتصاد المقايضة القديم وطقوس الزواج وكيفية صنع الكحل التقليدي، السائد في مختلف الثقافات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأجزاء من أفريقيا.
جرت المحادثة باللغة العربية، وليس بلغة كنزي، التي لا تتكلم بها أي من الفتيات – سما أو ضحى أو المتطوعة بمبادرة “كوما وايدي” شهد الراوي البالغة من العمر 18 عامًا، والتي قالت: “هنا في هذه الجزيرة، لأننا قريبون جدًا من المدينة فنحن مندمجون جدًا. يتكلم آباؤنا وأجدادنا هذه اللغة، لكن الجيل الجديد في الغالب يفهمها فقط ولا يتحدثها”.
وترجع هذه الفجوة اللغوية إلى النزوح والتهميش الثقافي، ووفقًا لأمبركاب والطالبات الثلاث، فإن هناك ارتباطًا ملموسًا بين الاستيعاب والنجاح الوظيفي. وأوضحت أمبركاب أيضًا أن الآباء لا يريدون أن يتعرض أطفالهم للسخرية والاستهزاء في المدرسة لكونهم مختلفين، خاصة إذا كان لديهم بالفعل سمات نوبية مختلفة، كأن تكون بشرتهم أغمق من بشرة المواطن المصري العادي، وهو ما يجعلهم يصنفون بالفعل على أنهم “آخرون” في مجتمع مناهض لأصحاب البشرة السمراء.
وبصفتها العائلة النوبية الوحيدة في الحي والمدرسة الناطقين باللغة العربية، لم يرغب والد سما في أن تكون ابنته منبوذة، لكن الفتاة الآن مصممة على احتضان هويتها والفخر بها.
تقول سما بنبرة خجولة لكنها حازمة: “هذا من أنا، كيف لا أعرف شيئًا كهذا؟ إنها لغتي، ويجب أن تكون لغتي الأم. إذا كان بإمكاني العودة بالزمن، ومعرفة سبب عدم رغبته في تعليمي ، فسأدافع عن حقي في التعلم. ولن أترك أي شخص يسخر مني أبدًا”.
وأثناء تجولنا في جزيرة الفنتين، وبينما كنا نتحدث عن الأراضي الزراعية التي اختفت منذ فترة طويلة والجبال النوبية التي لا يمكن رؤيتها إلا من خلال قممها، لم نبتعد أبدًا عن النيل. لكن اليوم، وفقًا لأمبركاب، بقيت تسع قرى نوبية فقط على ضفاف النهر، وتوجد أقوى تجربة للثقافة النوبية حول أسوان.
وفي قرية غرب سهيل النوبية الشهيرة، على بُعد 30 دقيقة بالقارب جنوب غرب أسوان، تعكس المنازل ذات الألوان الزاهية أماكن الإقامة الأصلية، ويعلن أصحابها عن زيارات التماسيح وتفيض الأسواق الصاخبة بأكوام من التوابل في مقابل الفنادق والنزل التي تحمل أسماء نوبية.
وخلال موسم الذروة في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول إلى مارس/آذار، ستستضيف المطاعم ودور الضيافة عروض الموسيقى الحية والرقص، حيث تقدم الفرق المحلية الموسيقى الشعبية النوبية. لكن الكثير مما هو معروض لا يمثل حقًا الثقافة النوبية، بل يقدم ما يتوقع السائحون رؤيته، بما في ذلك الصور النمطية المصرية القديمة للنوبة المبتسمة والغنائية والطيبة، وهو الأمر الذي سئم منه جيل الشباب، على حد قول شهد الراوي.
وتهدف أمبركاب إلى تغيير هذا الأمر، سواء عن طريق استعادة قوة السرد من خلال صناعة الأفلام أو من خلال تزويد الأجيال الشابة بنقاط اتصال بثقافتهم النوبية.
[ad_2]
Source link