لبنان – شبكة الفساد: تحقيق جديد عن قطاع الكهرباء في لبنان
[ad_1]
سفينتان التقتا قبالة سواحل جزيرة صقلية وهما ناقلتا النفط “البلطيق” و”وايت تريدر”. وأظهرت الإشارات المنبعثة من أجهزة الإرسال والاستقبال من الناقلتين أنهما، لمدة 26 ساعة، كانتا تبحران جنباً الى جنب ببطء قبل أن تنفصلا وتذهبا في اتجاهين مختلفين.
فما هي الجريمة التي اشتُبه بارتكابها؟
إنها عملية تدليس على نطاق واسع ترتكب ضد شعب لبنان.
عندما التقت السفينتان في عرض البحر المتوسط لم يكن أحد يراقب الموقف. ولكن فيما بعد، وبعد تلقي بلاغ يتعلق بالناقلة “البلطيق”، تتبع المحققون تحركاتها وتعقبوا حمولتها وتيقنوا أن هذا هو الاختراق الذي يحتاجون اليه لوضع مسؤولين كبار وراء القضبان، ومن شأنه أيضاً المساعدة في إماطة اللثام عن الغموض الذي يلف قطاع الكهرباء اللبناني المتهاوي، وانتشار مواد كيمياوية غريبة في أجواء لبنان، فضلا عن كشف النقاب عن السبب الكامن وراء ابتلاع مدفوعات الطاقة معظم ثروة البلاد.
قضية “البلطيق”
وفي شهر تموز / يوليو من عام 2020، بدأ المحققون والمدّعون في إصدار لوائح اتهام في قضية الناقلة “البلطيق”.
ولكن بعد ذلك بشهر واحد، وفي الرابع من آب / أغسطس، وقع انفجار ضخم في مرفأ بيروت أسفر عن مقتل 200 شخصا وجرح 6000 وتشريد 300000. وبات لبنان في حالة حداد، ومع مرور الأيام ومع تكشُّف الحقيقة خرج اللبنانيون الى الشوارع مطالبين بالتغيير. وقد وقع الانفجار بسبب ترك مواد كيمياوية شديدة الاشتعال لقرابة سبعة أعوام في أحد مستودعات الميناء. كشفت تلك الواقعة ضعف وفساد مؤسسات الدولة مع تقاسم الثروة والنفوذ بين حفنة من الأحزاب السياسية ولعل هناك قطاعاً بعينه تجلت فيه مظاهر الفساد أكثر من غيره ألا وهو قطاع الكهرباء.
في لبنان ليس انقطاع التيار الكهربائي مجرد عارض من أعراض المشاكل التي تعاني منها البلاد بل هوأحد أسبابها؛ وطبقاً للبنك الدولي مايقرب من نصف الدين العام أي حوالي 40 مليار دولار يعود إلى قطاع الكهرباء، وشركة كهرباء لبنان قد أنضبت لسنوات خزينة الدولة ولكن رغم المبالغ الضخمة التي تنفق فإن الشعب اللبناني مايزال يعاني من انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة.
في السنوات التي سبقت انفجار المرفأ، كان اللبنانيون يعيشون دون كهرباء لمدد قد تصل إلى 22 ساعة في اليوم، ولكن في عام 2017 بدت ملامح تقدم، إذ أنشأ لبنان محطتين جديدتين للطاقة بمساعدة ألمانية في منطقتي ذوق والجيّة، بيد أنه في غضون عامين أخذتا في الانهيار كليهما. إنه سر غامض ربما أدى في نهاية المطاف إلى كشف لقاء البلطيق في مياه صقلية بل وإلى فضيحة أدت لتعرية قطاع الكهرباء غير الكفء.
يحيى مولود كان أول من شك في الأمر، ومولود، هو رئيس عمليات التشغيل في شركة ميدل إيست باور، وهي الشركة التي تدير معملي الطاقة الجديدين وقد استعاد ما حدث في الجية في ذلك اليوم من شهر يوليو /تموز 2019.
وقال، “اكتشفنا أن حرارة أحد المحركات مرتفعة جداً وهناك درجات حرارة متفاوتة بين الأسطوانات، ولذلك طلبت فحص الأسطوانة الأولى واكتشفنا ما يقال له، من الناحية التقنية، تآكلا حراريا، وعندها قررت إغلاق المنشأة”.
وكإجراء احترازي، أجرى مولود أيضاً اختبارات في محطة الطاقة الأخرى في ذوق، التي كان يبدو عليها مؤشرات مبكرة للمشكلة نفسها. وقرر كذلك إغلاقها خشية تدهور حالة محركاتها بسرعة. وأصبحت المحطتان خارج نطاق الخدمة وهي خطوة اضطرارية في بلد يسعى جاهداً لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء.
وبدا الأمر مخالفاً للمنطق فمحطتا الطاقة لا يتجاوز عمرهما السنتين ولكن شيئاً ما يتسبب في ازدياد حرارتهما .
أستقدم مولود فنيين من شركة “مان” الألمانية وهي الشركة التي أنتجت المحركات.
وقد أكّد هؤلاء ما كان يشك فيه، وهو أن زيت الوقود المستخدم في المحطتين ملوث.
وقد أظهرت الاختبارات التي أجريت على مخلفات الرماد والوقود أنه يحتوي على مواد كيمياوية ممنوعة وأنه لايتفق مع معايير الزيوت العالمية أو مع المواصفات التقنية التي حددتها شركة “مان”.
هذا الوقود جلبته الحكومة اللبنانية لحساب مؤسسة كهرباء لبنان، واشتكى مولود مراراً لدى وزارة الطاقة من تردي جودة زيت الوقود لكنها أصرت على أنه جيّد وأمرت بمواصلة استخدامه.
قال مولود، “توسلنا الى الوزارة وقلنا لها إن هناك مشكلة في الوقود ولكن الرد كان يأتي دوماً “لا نستطيع تغيير الوقود”.
خشي مولود من احتمال وجود تخريب من نوع ما، ويقول “شككتُ في أن شخصاً ما من خارج البلاد أياً كان الشخص الذي يجلب الوقود ، يخلط عدة أنواع من زيت الوقود معاً”.
لكنه لم يتوفر على دليل ملموس، وكان بحاجة إلى أن يعرف ما الذي يحدث مع زيت الوقود. فما اكتشفه المحققون الألمان عنما أجروا اختبارات على عينة منه كان مثيرا إذ عُثِر على مخلفات كيمياوية في الوقود علاوة على كميات من المواد السامة.
لماذا اذاً تم العبث بزيت الوقود؟ ليس بوسع مولود إلا أن يخمن.
هذا الوقود بالتحديد وصل إلى لبنان عبر جبل طارق على متن ناقلة تسمى “سيلو دي نيويورك”، والشحنة كانت جزءاً من عقد وقع بين الدولة اللبنانية وشركة سوناطراك الجزائرية الحكومية.
وأصرت سوناطراك على أن زيت الوقود المذكور يتبع المقاييس الصحيحة ويطابق المواصفات. إذن ما الذي يفسر ظهور المخلفات الكيمياوية في الوقود المستخدم في محطة الطاقة؟
نظريا، من الممكن أن يباع بعض الوقود وهو في الطريق وتحل محله مخلفات أو شوائب كيمياوية.
والمواد الكيمياوية المعروفة بالمثبطات يمكن استخدامها لجعل زيت الوقود الملوث يبدو طبيعياً على الأقل لفترة قصيرة من الوقت. وبالفعل عثر على هذه المثبطات في الوقود الذي وصل على متن الناقلة “سيلو دي نيويورك”.
لكن مولود بحاجة إلى مزيد من الأدلة لذلك واصل البحث بعمق.
وفي صيف عام 2019 واجه لبنان انقطاعاً منتظما وحادّاً للتيار الكهربائي، فقد تعطلت المبردات وأجهزة الإنارة في المنازل لساعات وساعات ولم تتمكن المستشفيات من إجراء العمليات الجراحية.
وعندما تنهار الشبكة العامة يعتمد معظم اللبنانيين على مولدات “الاشتراك” الخاصة المنتشرة في الأحياء، لكن هناك كثيرين لا يستطيعون تحمل تكلفة ذلك.
تلوّث الجو
بالنسبة لوالدي سيدرا البالغة من العمر ستة أعوام وتعاني من الربو كانت تلك الفترة مروعة لأنها غالباً ما تحتاج إلى جهاز التنفس الذي يتطلب بدوره وجود تيار كهربائي بصورة منتظمة وهو مالم يكن متوفرا.
وفي إحدى المرات أنقذ صاحب محل مجاور حياتها.
“يتذكر صاحب المحل هذه الحادثة ويقول” أتت الى هنا وكانت على وشك الاختناق وكان والدها مرعوباً وأخبرني بضرورة أن نضع لها جهاز التنفس بل إنه كان خجلاناً من الطلب، فأوصلتُ الجهاز هنا وأجلستها وأعطيتها جهاز التنفس”.
لولا مساعدته لما كانت سيدرا بيننا اليوم، وتقول أمها “بصراحة كنت سأخسر ابنتي”.
سيدرا كانت محظوظة، لكن كثيرين غيرها لم يحالفهم الحظ.
زيت الوقود
تعمل محطات توليد الطاقة اللبنانية بزيت الوقود، والزيت المحترق من أكثر وسائل توليد الكهرباء تلويثا للبيئة وإذا أضيفت إليه مخلفات كيمياوية يصبح أكثر سمية.
حصلت بي بي سي عربي على نتائج الاختبارات التي أجراها الخبراء الألمان على زيت الوقود من الناقلة “سيلو دي نيويورك”. وقد أرعبت هذه النتائج الدكتورة نجاة صليبة، الخبيرة في المواد الملوثة بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتساءلت، “ما معنى “مخلفات كيمياوية”؟ يمكن أن يكون مصدرا للديوكسينات والديوكسينات واحدة من أخطر الكيمياويات السامة والمسرطنة”.
وازدادت مخاوفها وهي تواصل القراءة “ما يقولونه هنا هي أن هناك أيضا معادن ثقيلة جداً مثل الفاناديوم والكروميوم. وعندما أرى ذلك في الغلاف الجوي مع الغبار الأسود يتناثر في الجو أقلق كثيراً”، والناس الذين يعيشون بالقرب من منشآت الطاقة من المؤكد أنهم يستنشقون هذه الأبخرة الضارة.
يعيش جورج مهنا وأسرته على مسافة تقل عن كيلومترين من منشأة ذوق للطاقة، وقد مرضت ماري ابنة جورج وأصيبت بالحمى وكان اختبار الدم الذي أجري لها غير عادي وهنا يتذكر جورج “الدكتور بيتر أخبرنا أنها في المراحل الأولى لمرض السرطان”.
كان تشخيص إصابتها بالسرطان مدمراً، وقال والدها “إنه واحد من أصعب المشاعر التي تنتاب أي انسان”.
أجرت الجامعة الأمريكية في بيروت دراسة معمقة مدة عامين، واكتشفت أن الغلاف الجوي في المناطق السكنية المجاورة لمحطة الطاقة يحتوي على مواد مسرطنة بمعدل يزيد عشر مرات عن مدينة بيروت. ويقول الدكتور بيتر نون المعالج لماري إنه لا يستطيع أن ينحي باللائمة مباشرة على الزيت الملوث في حالتها لكن ينتابه القلق بشأن تلوث الهواء، ويمضي للقول “نحن نعرف أن البيئة هي المصدر الرئيسي للسرطان ونعرف تماما أن هذه المناطق وهذه المصانع تنبعث منها مواد مسرطنة وليس بوسعي أن انحي باللائمة مباشرة على شخص بعينه ولكن معايير السلامة الدولية قد تم تجاوزها بكل تأكيد”.
طلبت بي بي سي نيوز عربي من وزارة الطاقة اللبنانية أن تعلّق على ما توصلت إليه، لكنها لم تتلق أي رد.
أعلنت الحكومة اللبنانية في عام 2010 عن خطة طموحة تتعلق بطاقة الرياح والطاقة الشمسية وكذلك الغاز الطبيعي، ولو كانت هذه الخطط نفذت لوصلت البلاد الى مصاف الأفكار الحديثة المتعلقة بتغيّر المناخ وجودة الهواء بيد أن هذه الخطط منيت بالفشل ولم تسفر عن شيء.
وعوضاً عن ذلك تصل إلى لبنان كل عام عشرات من شحنات زيت الوقود لتزويد محطات الطاقة.
كان الدكتور منير يحيى من العناصر الفاعلة في وضع خطة 2010، ويحاجج بالقول إنه لكي تجيب عن السؤال الذي يقول لماذا لا يزال لبنان يستخدم زيت الوقود لتوليد الكهرباء عليك أن تسأل لمصلحة من الإبقاء على الوضع الراهن.
ويقول الدكتور يحيى “لأن هذا القطاع غني، فالقوى السياسية بحاجة الى الإبقاء عليه تحت سيطرتها”.
ينفق مبلغ يناهز المليار دولار كل عام على الإطار التشغيلي المرتبط بالكهرباء مع انفاق مليار دولار أخرى على الوقود وهذا يصل الى 4 في المائة من اجمالي الناتج القومي للبلاد.
لكن من الصعوبة بمكان معرفة الوجهة الحقيقية لهذه الأموال.
يرد كل زيت الوقود تقريباً من شركة واحدة هي شركة سوناطراك. وقد أبقي على شروط العقد الذي وقعته الشركة مع الحكومة اللبنانية عام 2005 في طي الكتمان الى أن سربت تفاصيله أثناء فضيحة البلطيق في العام الماضي مما أثار ضجّة كبيرة. فقد تبين أن الصفقة لم تُبرم مع سوناطراك ذاتها بل مع شركة فرعية اسمها سوناطراك بي في آي الموجودة في الجزر العذراء البريطانية وهي ملاذ ضريبي. وبصفتها شركة تجارية تستطيع اس بي سي بي في آي أن تشتري النفط من أي مكان وهذا يمكن أن يعني أن جودة الوقود تكون أقل.
وقد صدم العاملون في قطاع الكهرباء بما كشف عنه النقاب فيما يتعلق بشروط العقد.
يقول مولود “بدا لنا هذا العقد كارثياً عندما قرأناه، وكان مروعا إذ كان هزيلا وضعيفاً من الناحية القانونية. إنه عقد لايحمي مصالحنا ولا مصلحة وزارة الطاقة أو مصلحة الشعب اللبناني”.
ينص العقد فيما يتعلق باختبارات الجودة على أن الاختبار الوحيد الذي تترتب عليه نتائج هو الاختبار الذي يجرى في بلد المنشأ، ولا تقع أي مسؤولية على الشركة المصدّرة فيما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وعليه فإن سوناطراك غير مسؤولة حالما يتم شحن الوقود على متن الناقلات حتى لو فقد في البحر أو تم التلاعب به.
ومنذ إبرام العقد في عام 2005 جدد أربع مرات وقد أشرف سبعة وزراء طاقة مختلفين على استمراره عوضا عن إعادة التفاوض عليه.
حاول الوزراء الذين كانوا يشغلون المنصب في حينه تفسير ذلك على أنه حل وسط لكن السؤال الذي ليس منه بد لم يحصل على جواب، ألا وهو: لماذا تجدّد عقداً يضع بلدك في مثل هذا الموقف الضعيف؟
ذكرت سوناطراك بي في آي في تصريح لبي بي سي عربي أن الحكومة اللبنانية “لابد وانها كانت راضية … وإلا لما جدّدت الاتفاق أربع مرّات مختلفة”. وأضافت الشركة “أنه ليس هناك أي شيء في العقد غير عادي أو مخالفاً لمعايير الصناعة المعمول بها”.
في آذار / مارس 2020 حدث تطور مثير يتمثل في ذيوع خبر الناقلة البلطيق والوقود دون المستوى الذي تحمله.
علم المحامي المتخصص بقضايا محاربة الفساد وديع عقل، وهو أيضا عضو متنفذ في التيار الوطني الحر، أن شحنة قادمة من جنوب إيطاليا على متن الناقلة “البلطيق” وهي ناقلة يمكن أن تحمل على متنها 40000 طن من الوقود. والمعلومة التي وصلته أفادت بأن الشحنة عبارة عن “وقود رديء”.
الوقود الذي كانت تحمله “البلطيق” وفرته سفينة تدعى “وايت تريدر”، ويقول مالكو “وايت تريدر” إن دور سفينتهم يتمثل في أخذ مختلف أنواع الوقود وخلطها معاً للوفاء بالمواصفات المطلوبة وذلك قبل نقل الخليط الى سفينة أخرى.
وباستخدام تقنيات الأقمار الاصطناعية الملاحية، أمكن تعقب تحركات السفينتين. وقد كشفت المعلومات أن الناقلة “البلطيق” قد التقت بـ”وايت تريدر” في عرض البحر بالقرب من اوغستا قبالة الساحل الشرقي لصقلية. وبعد أن أبحرتا جنباً الى جنب لمدة 26 ساعة افترقت الناقلتان. وقد توجهت “البلطيق” عبر شرقي البحر الأبيض المتوسط مروراً بجزيرتي كريت وقبرص ووصلت إلى لبنان.
ولدى وصولها أشارت الاختبارات التي أجريت في مختبرات المنشئات النفطية التابعة للحكومة اللبنانية الى أن الوقود “مطابق للمواصفات”، وبمعنى آخر أنه على مستوى مقبول . ولكن شكوك مولود تزايدت وطلب اختبار الوقود من قبل مختبر مستقل في دبي وتبين لهم ان العينة تحتوى على رواسب أعلى 42 مرة من المستوى المسموح به.
هبوب عاصفة
حصل مولود على الدليل، ورفض استلام الشحنة وبعدها هبت العواصف في كل اتجاه.
فقد سرّبت الحملات المناهضة للفساد القصة للإعلام وكان الادعاء بأن مسؤولين كبار في الدولة اللبنانية يتواطؤون مع آخرين لاستيراد وقود دون المستوى لمحطات الطاقة في البلاد.
وأُجبرت الحكومة اللبنانية، التي طالما كانت متهمة بالعجز في مواجهة الفساد، على الرد.
القاضي علي إبراهيم وهو عضو في لجنة التحقيق الخاصة المسؤولة عن الفساد أظهر في البداية أنه يأخذ القضية مأخذ الجد وعمل على هذا الملف لمدة أسبوع. لكنه لم يشرع في اجراء تحقيق كامل وسلم الملف الى المدعي العام التنفيذي للبلاد. والتقى القاضي إبراهيم بإثنين من المسؤولين في قطاع النفط كما التقى بوكيل شحن يعمل لحساب سوناطراك. وقرروا قبول عرض من سوناطراك بإرسال شحنة جديدة على حساب الشركة.
وقالت سوناطراك إن القاضي قرر تعليق تحقيقه لأنه يعتبر المسألة “فنية”. لكن القاضي إبراهيم ينفي ذلك ويقول إن التحقيق إنما “جرى تعليقه”.
في الوقت ذاته كانت قاضية أخرى، هي غادة عون، تنظر بعمق في فضيحة “البلطيق”، وكان تحقيقها يتعلق بغسل الأموال الأمر الذي فجر أكبر تحقيق في الفساد في قطاع الكهرباء في لبنان.
وفي تموز / يوليو 2020، أصدر نيقولا منصور، قاضي التحقيقات الأول، لائحة اتهام أو قراراً ظنيا ًوجه الاتهام لعشرين شخصاً بالتآمر لتزوير نتائج الاختبار الوقود رديء الجودة.
ذكرت لائحة الاتهام أن شبكة من مختبرات فحص الوقود، ووكالات الشحن، وشركات النفط، ومسؤولي وزارة الطاقة كلهم ضالعون في مخطط ابتزاز أموال تقدر بملايين الدولارات.
شبكة من الشركات
حدث هذا عندما سربت تفاصيل عقد سوناطراك بي في آي المبرم مع الحكومة اللبنانية. وقد تبين أيضاً أن شركة سوناطراك رتبت عملية شراء وتسليم الوقود عن طريق شركتين تجاريتين : أولا بي بي انرجي ثم لاحقا زد آر انرجي وكل واحدة منهما ترتبط بأسر لبنانية متنفذة.
والشركة التي وردت شحنة البلطيق هي زد ار انرجي دي ام سي سي وتشير الحروف الأخيرة الى مركز دبي للسلع المتعددة وهي منطقة تجارة حرة حيث سجلت الشركة. وأخبرت الشركة بي بي سي أنها لم تكن على علم بأي عيب في شحنة البلطيق واعتمدت على الإفادات التي قدمها مفتشون من طرف ثالث مستقلون ومعترف بهم دولياً والذين شهدوا بأن الشحنة مطابقة للمواصفات وتقول أيضا إنها تساعد السلطات وكذلك شركة سوناطراك في التحقق من مصدر الخلل. وقد اتهم القرار الظني الصادر في يوليو تموز 2020 شركة زد ار انيرجي دي ام سي سي بالرشوة والتدليس وغسل الأموال وهي تهم تنفيها الشركة وقد قدمت استئنافاً تطلب فيه رفض القضية لعدم توفر الأدلة.
وواجهت شركة أخرى وثيقة الصلة تسمى مجموعة زد ار القابضة ومركزها بيروت تهماً مماثلة لكن نفتها هي الأخرى. وهذه الشركة يمتلكها أخوان لبنانيان هما تيدي وريمون زينه رحمة ويشار اليهما برمزي زد ار.
ويقول الإخوان رحمة أن شركة دبي ليست مملوكة لهما بل يمتلكها إبراهيم محمد ذوق الذي يستخدم اسم شركة زد ار ومكاتبها والتسهيلات المصرفية بها.
وقد نقل عن السكرتيرة التنفيذية لشركة دبي قولها في لائحة الاتهام أن الملاك الحقيقيين هم الإخوان رحمة اللذين مولاها منذ البداية، وتقول أيضاً إنها رتبت عملية تقديم هدايا من قبل الشركة لموظفين في وزارة الطاقة اللبنانية.
وفي غضون ذلك، أخبر كبير المسؤولين الماليين في مجموعة زد ار المحققين أن هناك سبعة موظفين يعملون مع الشركة اللبنانية وشركة دبي في آن واحد. وقد دفعت هذه الروابط الواضحة القاضية غادة عون المدعية العامة الى الدفع بأن الأخوين رحمة هما ملاك شركة دبي التي ضمتها الى لائحة الاتهام.
ضلوع الأحزاب؟
وأخبر الأخوان رحمة بي بي سي أنهما نفيا هذه الاتهامات التي قالوا إنها ذات دوافع سياسية في اطار استراتيجية لإبعاد اللوم عن التيار الوطني الحر واخفاق حزب الله في توفير الوقود للشعب اللبناني.
وبعد أربعة أيام من صدور لائحة الاتهام في 14 تموز / يوليو 2020، استأنف الأخوان رحمه القرار وقرر قضاة جدد أن شركة دبي منفصلة قانونياً عن الشركة اللبنانية واسقطت معظم التهم عن شركة دبي.
وكانت لائحة الاتهام الأصلية قد اتهمت شركة زد ار انيرجي دي ام سي سي باتباع نهج من الخداع يقضي بإمكانية وقوع تلاعب بعينات الوقود التي تؤخذ لإجراء الاختبارات عليها وقدّمت أدلة تتعلق بشحنة كانت على متن ناقلة تدعى “نورديك روث”.
وفي رسالة صوتية على تطبيق واتساب في شهر آذار / مارس سمع صوت إبراهيم ذوق (مالك الشركة حسبما أفاد الأخوان رحمة) وهو يطلب أخذ عينات من الوقود من “نورديك روث” لإجراء الاختبارات عليها وذلك بطريقة لايمكن الكشف فيها عن الوقود الرديء عند الاختبار.
واكتشفت بي بي سي نيوز عربي أن لمالكي مجموعة زد ار وبي بي انرجي علاقات تجارية واسعة وارتباطات شخصية مع ساسة لبنانيين، إذ يمتلك الأخوان رحمة خمس شركات بالمشاركة مع أيمن جمعة وهو صهر نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني.
وذكر أيضاً أن تيدي رحمه مقرب من الزعيم المسيحي لحزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، بينما يرتبط سليمان فرنجية زعيم حزب المردة بعلاقة صداقة مع ريمون رحمة.
عندما كشفت قصة “البلطيق”، تحدث فرنجية علنا مؤيدا صديقه، بل إنه دافع عن أي رشى تكون قد دفعت لاستيراد الوقود، وقال: “من منكم جميعاً يستطيع الحصول حتى على شهادة ميلاد دون أن يدفع إكرامية مقابل ذلك؟ ومن منكم هنا يستطيع أن يحصل على مستحقاته من الدولة أو يدفع فاتورة الكهرباء دون أن يعطي المزيد من الأموال لشخص ما”؟
لأفراد عائلة البساتنة الذين يمتلكون بي بي انرجي حصة كبيرة في شركة للإسمنت والوقود تدعى كوجيكو وشريكهم الآخر هو زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
واكتشفت بي بي سي نيوز عربي أيضاً أن شركة توأم لبي بي انرجي قد قدمت خدمات لجبران باسيل وزير الطاقة السابق الذي دشن الخطة الخاصة بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي لم تسفر عن شيء. وهو الآن يقود التيار الوطني الحر وهو كذلك صهر رئيس الجمهورية ومؤسس التيار ميشال عون.
لا يمت الرئيس عون بصلة قرابة بالقاضية غادة عون لكنها، وفي إشارة واضحة لمدى تشابك السياسة مع القضاء، اتهمت هي نفسها بأنها مقربة من الرئيس والتيار الوطني الحر.
وتظهر مستندات من وزارة العدل الأمريكية أن ماريو لاسالا، وهو مستشار لشركة بي بي انرجي، قد دفع لعضو في إحدى جماعات الضغط مبلغ 20000 دولار لترتيب اجتماعات لباسيل مع كبار أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء في مجلس النواب الأمريكيين.
عندما سجل لاسالا نفسه مع الحكومة الأمريكية ذكر في النموذج أنه مستشار لبي بي انرجي. وقد استأجر خدمات عضو جماعة الضغط وطلب عقد الاجتماعات ولكن شركة بي بي انرجي تقول إنها لم تضطلع بأي انشطة تتعلق بالترويج لجبران باسيل.
إلا أن باسيل أنكر من خلال محاميه أن يكون لاسالا قدم له أي خدمات، وفي البداية قال إنه لم يلتق به أبداً. ولكن عندما حصلت بي بي سي نيوز عربي على صورة تظهر الرجلين وهما يتناولان العشاء في عام 2019 غيّر باسيل كلامه، ويقول الآن إنه يعرف لاسالا وحضر العشاء معه. وقال إن لاسالا فاتحه لأنه كان مهتما ببناء علاقات بين الولايات المتحدة وشركاء في الشرق الأوسط وقال إنه لم تكن هناك أي أموال في هذه الترتيبات.
ولكن من وجهة نظر الحكومة الأمريكية يعد باسيل فاسداً. وفي شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2020 فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على باسيل بمقتضى قانون ماجنتسكى المناهض للفساد.
وينص القرار الصادر عن الخزانة الأمريكية على التالي: “من خلال أنشطة الفساد التي يمارسها ، قوّض باسيل الحوكمة الرشيدة وأسهم في نظام الفساد والمحسوبية السياسية السائد الذي ابتلي به لبنان”.
“رائحة الفساد”
ويبدو أن قطاع الكهرباء في لبنان لا ينفصل عن رائحة الفساد. وبالنسبة ليحيى مولود بات من الواضح ما يجري ويقول: “من الواضح أن السلطة السياسية في لبنان فاسدة وتتعامل مع بعضها البعض من هذا المنطلق وتعرف من الناحية العملية على من سترسو المناقصات ومن يعمل مع من ومن يستفيد أكثر من الآخر”.
وتكشف قضية “البلطيق” النقاب عن مدى صعوبة مواصلة تحقيقات الفساد. فعندما حققت القاضية عون، طلبت من لجنة مناهضة الفساد التي يرأسها القاضي إبراهيم تقديم معلومات مصرفية عن زد ار انيرجي وبي بي انرجي ولم ترد اللجنة أبداً على طلبها.
وقد اتهمت القاضية عون، في حديثها مع محطة تليفزيون محلية، القاضي إبراهيم بأنه يعطل سير العدالة وقالت “هذه اللجنة لاتقوم بواجبها ولاتريد أن تقوم بواجبها والمسألة ليست أنها غير قادرة بل إنها لا تريد أن تقوم به”.
وتبيّن فضيحة الوقود وصعوبة التحقيق فيها البنية السياسية والقضائية المتفردة في لبنان. فكما أن كل مذهب ديني رئيسي يمثله حزب سياسي فكل مذهب له الحق في تعيين حصة من القضاة والبعض منهم قد لايتصرف باستقلالية لأنهم يدينون بمناصبهم للساسة الذين عينوهم.
وكما يقول وديع عقل ، الرجل الذي كان أول من تلقى البلاغ الخاص بالناقلة “البلطيق”، “القضاء اللبناني لايحقق في قضايا الفساد، وحتى عندما نقدم لهم تقريراً عن الفساد يتجاهل عدد كبير منهم (أي القضاة) هذه الحالات”.
يقف لبنان اليوم على شفا الانهيار الاقتصادي. فالتضخم المرتفع يتسبب في فقر واسع النطاق ونقص حاد في كثير من المنتجات خاصة الأدوية وحليب الأطفال. ولم يعد بمقدور الحكومة شراء الوقود لمحطات توليد الكهرباء كما أن نقصا حاداً في إمدادات الطاقة يلوح في الأفق.
وحتى الآن لم يقدم أحد إلى العدالة في قضية انفجار مرفأ بيروت.
وكان كثيرون يأملون في أن تؤدي قضية الناقلة “البلطيق” الى توجيه ضربة قاصمة للفساد، ولكن ذلك لم يحدث.
فقد أسقطت المحكمة العليا التهم الموجهة لرد ار انيرجي دي ام سي سي بغسيل الأموال والتدليس على الدولة. أما التهم المتبقية التي ينكرونها فهي مرتبطة بادعاءات الرشوة والتزوير.
وتقول مجموعة زد آر إن الادعاءات الموجهة ضد المجموعة ومالكيها جزء من حملة شريرة لصرف الأنظار عن الإخفاقات المؤسساتية في لبنان. وتقول بي بي انرجي انها هي وموظفيها لم تُتهم بارتكاب أي مخالفة وتنفي كل الادعاءات بأنها دفعت رشى للموظفين في مختبرات الوقود وتقول إنها تفرض معايير صارمة ضد الرشوة والفساد.
وتقول زد آر إنرجي دي إم سي سي أنها قطعت علاقتها التعاقدية مع موردها.
وأخبرت سوناطراك البي بي سي بأن أي تلميح بأن الشركة ضالعة في أي ممارسات خاطئة، أو أن منتجاتها ليست على المستوى المطلوب، هي اتهامات زائفة ومغرضة. وقالت إن كل تعاملاتها التجارية قانونية تماما وتوافق دوما المواصفات والالتزامات التعاقدية وإنها لم تكن يوما موضع مساءلة قضائية او قانونية، خلال العلاقة الممتدة الى خمسة عشر عاما، من جانب الطرف المقابل في لبنان.
“كلهم لصوص”
ويقول أحد اللبنانيين في كلام يتردد كثيراً “الطبقة السياسية، كلهم، من النواب الى الوزراء، كلهم لصوص”.
ولكن ثمة شيء واحد قد تغير، إذ قررت شركة سوناطراك بي في آي ووزارة الطاقة عدم تجديد العقد المبرم بينهما. ويشتري لبنان الآن زيت الوقود من السوق العالمية.
أول هذه العقود كان مع إحدى الشركات التي حددتها لائحة الاتهام في يوليو تموز 2020 بأنها مملوكة للأخوين رحمة.
ويخلص منير يحيى – الرجل الذي حاول إبعاد محطات الطاقة في البلاد عن استخدام الوقود الأحفوري – “ليس بوسعي أن أرى أي شيء سوى جريمة منظمة وقعت في قطاع الكهرباء وهذه الجريمة المنظمة هي المسؤولة عن خمسين في المائة من الانهيار الاقتصادي في لبنان وتظل تزداد سوءاً”.
أما يحيى مولود الذي يدير محطات الطاقة التي اكتشف فيها زيت الوقود غير المطابق للمواصفات فلم يخامره أي شك، إذ يقول “تسألني إن كنت اثق ثقة كاملة في القضاء وهل سيتوصل الى الحقيقة ؟ ليس لدي أي ثقة أو إيمان بأي مؤسسة في الدولة اللبنانية من قضائية أو عسكرية. لدي مشكلة مع كل مؤسسة في لبنان اليوم”.
إنها بيئة مخيفة بالنسبة لأي انسان يسعى لتحقيق العدالة، ولكن مولود يردف قائلاً “يجب عليٌ أن اؤدي واجبي وأن أقول الحقيقة…وأقدم للمحكمة المستندات التي بحوزتي وأخبر وسائل الاعلام … على أمل أن يتمكن الشعب اللبناني ذات يوم أن يغير هذه الطبقة السياسية الفاسدة”.
[ad_2]
Source link