مذبحة سربرنيتسا: كيف استعادت السينما الجريمة التي راح ضحيتها آلاف البوسنيين؟
[ad_1]
- صفاء الصالح
- بي بي سي
جاء إقرار المحكمة الجنائية الدولية للحكم الصادر بحق الجنرال الصربي راتكو ملاديتش بالسجن مدى الحياة لدوره في مذبحة سربرنيتسا في 1995، ليعيد تسليط الضوء على هذه المذبحة التي راح ضحيتها نحو ثمانية آلاف من مسلمي البوسنة.
لقد وصفت الأمم المتحدة ما حدث في بلدة سربرنيتسا بأنها أسوأ جريمة حرب تحدث في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وكانت قوات الأمم المتحدة قد أعلنت أن الجيب المحاصر في سربرنيتسا شرقي البوسنة “منطقة آمنة” تحت رعاية الأمم المتحدة، لكنها لم تتمكن من نزع سلاح كل من القوات الصربية والبوسنية المتقاتلة في المنطقة.
ولم تستطع القوة الهولندية ذات التسليح الخفيف التي كانت موجودة في المنطقة الحيلولة لاحقا دون وقوع المذبحة التي اتهمت بارتكابها وحدات من جيش صرب البوسنة تحت قيادة الجنرال ملاديتش ووحدات صربية شبه عسكرية تعرف باسم “العقارب” في الفترة بين 11 الى 13 يوليو/تموز 1995.
وقد حظي هذا الحدث المروع باهتمام في السينما العالمية، التي حاولت تقديمه في عدد من أفلامها والبحث في ملابساته وتعقيداته والأحداث التي مهدت له أو نتائجه التي أثرت في الأجيال اللاحقة.
ونسلط الضوء هنا على عدد من أبرز المحاولات الإخراجية لتقديم هذا الحدث سينمائيا في سياق درامي في السينما الروائية، أو في سياق تسجيلي ضمن أفلام وثائقية تناولته.
“أين تذهبين يا عائدة؟“
يقف فيلم ” أين تذهبين يا عائدة” للمخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتش في مقدمة الأفلام التي نجحت في تقديم مذبحة سربرنيتسا في السينما، وإعادة التذكير بمأساتها بعد مرور نحو ربع قرن عليها. وقد حظي الفيلم باحتفاء نقدي ورشح ضمن القائمة القصيرة لنيل جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار الأمريكية وجوائز البافتا البريطانية مطلع هذا العام.
كما قطف العديد من الجوائز في المحافل والمهرجانات العالمية؛ ومن بينها جائزة أفضل فيلم عالمي في جوائز الروح المستقلة وأفضل فيلم في مهرجان الجونة السينمائي الأخير في مصر، وفي مهرجان روتردام السينمائي الدولي.
لقد انفرد هذا الفيلم بين الأفلام الدرامية التي تناولت الحرب التي دارت في البوسنة والهرسك ضمن الحرب التي اندلعت في البلقان في أعقاب تفكك يوغسلافيا السابقة، بتقديم نوع من “الديكودراما” التي أعادت تجسيد ما جرى في سربرنيتسا من وجهة نظر الضحايا البوسنيين، فمعظم الأفلام الأخرى التقطت قصص وحكايات من هذه الحرب ولم تكرس فيلما كاملا لتناول هذه المذبحة المروعة، ومن بينها الأفلام السابقة للمخرجة زبانيتش نفسها التي ركزت معظمها على أثار الحرب البوسنية على الأجيال التي عاشت هناك بعدها.
نذكر منها هنا: فيلم “غرابافيتشا: أرض أحلامي” في عام 2006، الذي سلط الضوء على عمليات الاغتصاب الممنهجة التي تعرضت لها النساء البوسنيات على أيدي الجنود الصرب، عبر حكاية أم تعيش منفردة مع ابنتها التي كانت نتاج اغتصابها على يد جندي صربي. وقد قطف هذا الفيلم جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي، وفيلم “على الطريق” الذي يصور تأثيرات الحرب على حياة رجل وامرأة من مسلمي البوسنة فقدت المرأة والدها في الحرب وفقد الرجل شقيقه، وكيف تلقي هذه الحرب بظلالها على مجمل حياتهما القادمة.
وفي مقاربتها الدرامية لواقعة مذبحة سربرنيتسا، زاوجت زبانيتش بين وقائع حقيقية وأخرى متخيلة يتطلبها البناء الدرامي، لا سيما ما تعلق بحياة بطلتها عايدة التي تجاهد للحفاظ على عائلتها وسط وقائع الحرب والقتال والموت المتواترة. فالمخرجة تصف بطلتها بأنها استلهمتها من مزيج من شخصيات متعددة على الرغم من أنها استلهمت مجمل فيلمها من كتاب غير روائي توثيقي يحمل عنوان: “علم الأمم المتحدة: المجتمع الدولي والإبادة في سربرنيتسا” لمواطنها حسن نوهانوفيتش، الذي كان يعمل مترجما وروى فيه ما عاشه في معسكر القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة في سربرنيتسا وتجربة استبعاد عائلته منه.
لقد اختارت زبانيتش أن تنقل حكاية حسن إلى منطقة أثيرة خبرتها جيدا في بحثها وعملها وهي النساء في الحرب، بكل ما توفره من شحنة عاطفية وكثافة درامية، فهكذا كانت شخصيتها الرئيسية عايدة بدلا من حسن، والتي جعلتها نموذجا ممثلا للعديد من النساء اللواتي فقدن أبناءهن وأسرهن في الحرب البوسنية وفي مذبحة سربرنيتسا تحديدا.
وعايدة في الفيلم (أدت دورها ببراعة الممثلة الصربية جاسانا غورزيتش) هي مدرسة لغة انجليزية تتحول إلى العمل مترجمة مع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أثناء الحرب في البوسنة، وبحكم عملها كمترجمة تطلع على تطورات الحرب ودخول الجيش الصربي إلى المنطقة؛ الذي يعقبه تدفق الأهالي على معسكر القوة الهولندية العاملة ضمن قوات حفظ السلام في سربرنيتسا، والذي يقع في معمل بطاريات قديم في المنطقة.
ومع تسارع الاحداث ودخول القوات الصربية تسعى عايدة إلى إنقاذ عائلتها الصغيرة المكونة من زوجها وابنيها من بين جموع النازحين وتنجح في ادخالهم إلى المعسكر، لكنها تفشل لاحقا من إبقائهم فيه مع دخول القوات الصربية التي تطالب بأخراج جميع الرجال من المعسكر بحجة وجود مقاتلين مسلحين بينهم.
وتنجح زبانيتش في تقديم مزواجة مميزة بين العام والخاص، ويتمثل العام في الصورة الملحمية لمصير الجموع وسط تلك الحرب ومجزرة القتال، بينما يمثل الخاص قصة عايدة وعائلتها بوصفها نموذجا مجسما وذا كثافة عاطفية لمأساة العوائل البوسنية في سربرنيتسا.
فعايدة على الرغم مع تمتعها بامتياز عملها مع الأمم المتحدة تفشل في النهاية، كما النساء البوسنيات الأخريات، في حماية زوجها وابنيها الذين تنقلهم القوات الصربية مع كل الرجال والشباب الآخرين.
وتكرس المخرجة مقاطع للجنرال ملاديتش ودوره في قيادة هذه القوات وحرصه على تصوير مشاهد دعائية يظهر فيها على سبيل المثال.وهو يداعب طفلة بوسنية أو يرسل رسائل تطمينية للمدنيين البوسنيين في وقت تواصل فيه قواته فعالياتها القتالية.
وعلى الرغم من أن أحداث الفيلم تدور حول مذبحة مروعة إلا أننا لم نر فيه أي قطرة دم أو فعل عنف شديد، بل تلجأ المخرجة في تقديمها للمذبحة إلى حلول استعارية وتراهن على خلق إيقاع مشوق يجذب المشاهد إلى فيلمها ويشركه في مشاعر الخوف والتوقع وبالتالي التعاطف مع مجريات أحداثها المقدمة من منظور الضحايا.
وفي مشهد الذروة وهو مشهد مذبحة قتل الرجال والشباب بعد نقلهم، تكتفي بإظهار نقلهم تحت تهديد السلاحفي شاحنات إلى مبنى يضم ما يشبه الصالة الفارغة، ثم تقطع إلى النوافذ التي تنطلق منها زخات الرصاص؛ لكنها تنتقل لتصوير الشاحنات الفارغة التي نقلتهم، ثم تقوم بقطع إلى شارع يمر بمنطقة مغطاة كليا بالثلج، نرى فيه سيارة عايدة متجهة إلى بلدتها بعد سنوات من الحادث حيث تزور بيتها الذي تسكنه الآن عائلة صربية، ثم نراها تدور مع عشرات النساء للبحث وسط رفات الضحايا المستخرجة من مقبرة جماعية.
وتنهي زبانيتش فيلمها بعودة عايدة المكلومة لعملها القديم في تعليم الأطفال في البلدة، لتودع جمهور الفيلم مع ابتسامة خفيفة على وجهها المتعب، بينما يؤدي الأطفال الذين دربتهم، وبينهم ابن العائلة التي تسكن منزلها، رقصة تعبيرية أمام ذويهم في مسرح المدرسة.
ويتناول الفيلم التلفزيوني “الجيب” 2002 للمخرج الهولندي فيليم فان دي ساندي باكوزه (باكوزين)، الذي عرض في نسختين الأولى مختصرة كفيلم والثانية مطولة في مسلسل من ثلاث حلقات، سقوط سربرنيتسا بأيدي المقاتلين الصرب وفشل قوة حفظ السلام الهولندية في حماية المدنيين هناك، ولكن لا يروي الحدث بشكل مباشر بل عبر آثاره وتبعاته على بطل فيلمه.
ومثل فيلم “أين تذهبين يا عايدة” يختار مترجما بوسنيا يدعى إيبرو كان يعمل مع قوات حفظ السلام الهولندية، لكنه متزوج من مجندة في هذه القوات وينتظران طفلهما الأول. ولاحقا، أثناء عمله مترجما في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة يلتقى بضابط صربي يعتقد أنه كان مسؤولا عن قتل عائلته عند سقوط سربرنيتسا. وعندما تطلق المحكمة سراح الضابط الصربي لعدم كفاية الأدلة، يلجأ إيبرو إلى محاولة تنفيذ العدالة بيده واختطاف الضابط لإجباره على الاعتراف بما يراه مسؤوليته عن قتل عائلته.
لقد تناولت أفلام روائية أخرى الحرب في البوسنة والهرسك أو آثارها اللاحقة، لكنها لم تكن مكرسة لتناول المذبحة نفسها، كما هي الحال مع فيلم “أين تذهين يا عائدة”، بل مرت عليها في سياق تناولها لأحداث العنف الدموية في الحرب البوسنية.
ومن الأفلام الأخرى التي تناولت هذه الحرب نذكر بشكل موجز على سبيل المثال لا الحصر، فيلم المخرج البوسني دانيس تانوفيتش “الأرض الحرام” 2001 الذي قطف جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار والغولدن غلوب، فضلا عن جائزة السيناريو في مهرجان كان السينمائي. ويحكي قصة جنديين جريحين: بوسني وصربي، يعلقان معا في الأرض الحرام ويكافحان من أجل البقاء بين الجانبين المتقاتلين.
وفيلم ” أرض الدم والعسل” الذي يمثل أول محاولة إخراجية للممثلة أنجلينا جولي، ويروي قصة حب بين فنانة بوسنية مسلمة ورجل أمن وابن جنرال صربي تخربها الحرب بفظائعها. فالفتاة البوسنية تتعرض للأسر في معسكر صربي ويحاول حبيبها مساعدتها في الهرب في المعسكر الذي يكون هو أحد المسؤولين عنه؛ لكنها تفضل البقاء تحت حمايته، ولكن بعد تطور مسار الحرب والانتقال إلى سراييفو تحاول الهرب والعودة إلى جانب أهلها، بيد أنها تعود إليه ثانية ولكن بهدف آخر هذه المرة وهو استثمار علاقتها معه للتجسس على القوات الصربية لحساب المقاومين البوسنيين. وبعد اكتشافه لهذه الحقيقة اثر تفجير كنيسة كان يختبئ فيها يقوم بقتلها وتسليم نفسه لقوات حفظ السلام.
أفلام وثائقية
بيد أن ذلك لا ينطبق على الأفلام الوثائقية التي تناول العديد منها هذه المذبحة بكثير من البحث والتقصي والتنقيب والكشف عن وثائق عنها، حتى أن بعضها قدم في سياق محاكمة ملاديتش الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية بجريمة الإبادة الجماعية عن دوره في هذه المذبحة.
ومن أبرز هذه الأفلام فيلم المخرج البريطاني ليزلي وودهيد “صرخة من القبر” الذي عرض في قناة بي بي سي 2 عام 1999، ووثق فيه ما وقع في مذبحة سربرنيتسا عبر شهادات ناجين وأقارب الضحايا فيها.
وفي الاتجاه ذاته سار فيلم “ضباب سربرنيتسا” للمخرج البريطاني البوسني سمير مَهانوفيتش (هرب من الحرب في عام 1994 ولجأ إلى بريطانيا ليقيم في مدينة أدنبرة) ، إذ اعتمد على مقابلات مع عدد من الرجال والنساء الناجين من المذبحة، متسائلا عن تأثير تلك الأيام الصعبة على حياتهم اللاحقة ومعنى مفاهيم مثل الوجود والحرب والغفران بالنسبة لهم.
وفي فيلمه “ملاذ أمن: الأمم المتحدة وخيانة سربرنيتسا” 1996، يحقق المخرج إيلان زيف بمساعدة الصحفيين روي غاتمان الحائز على جائزة بوليتزر وكابل بروس، في دور قوات الأمم المتحدة في المنطقة وهل أن قادة هذه القوات كانوا على معرفة بالمذبحة أم لا.
ويغوص الفيلم في كم كبير من المعلومات الاستخبارية والوثائق والتقارير السرية للأمم المتحدة بشأن اتهامات جدية طالت قادة القوات الأممية واتهمتهم بأنهم أخطأوا في تقدير حجم النوايا العدوانية لقادة الصرب وتجاهلوا معلومات استخبارية ولم يطلبوا استخدام قدرات القوات الجوية لمنع ما حدث.
وركز الصحفيان والمخرجان النرويجيان أولا فليوم وديفيد أيديتش في فيلمهما الوثائقي “خيانة بلدة ” 2010 على ملابسات الأحداث التي قادت إلى حدوث مذبحة سربرنيتسا، التي تمثلت بمحاولة الجنرال ملاديتش السيطرة على البلدة وجلاء نحو 15 ألف نسمة من البلدة في وضع يصفه المخرج فليوم بأنه فوضى شاملة.
وقد تعرض الفيلم لانتقادات عديدة وشكاوى لدى لجنة الاخلاقيات المهنية في الصحافة النرويجية، التي رأت في الفيلم خرقا لبعض قواعدها في عدم إشارته الى خلاصات المحكمة الجنائية الدولية في هذا الصدد، إذ ينفي المخرج في أحدى تصريحاته أن ماحدث هناك كان “جزءا من فوضى عارمة وليس عملية تطهير عرقي منظمة”.
ولم يتعامل المخرج البرتغالي جواكيم سابينيو في فيلمه “يوميات بوسنية” بشكل مباشر مع مذبحة سربرنيتسا بل اعتمد على تجربته الشخصية في رحلتين قام بهما إلى البوسنة أولهما في عام 1996 والثانية في عام 1998 متنقلا بين الجانبين: صرب البوسنة ومسلميها، وموثقا ذكريات الحرب والدمار وآلام النازحين الذين لا يعرفون كيف يعودون إلى ديارهم بعد تهجيرهم منها.
وكذلك فعلت المخرجتان الشقيقتان جورجيا وصوفيا سكوت في فيلمهما ” في ظلال الحرب” 2014، عندما تعاملتا مع آثار الحرب على الجيل الجديد عبر توثيق حكايات أربعة مراهقين من أيتام الحرب في البوسنة والهرسك، وكيف ما زالت تلك الحرب المدمرة تلقي بظلالها على حيواتهم بعد نحو 20 عاما على نهايتها.
[ad_2]