حكايات شخصية عن الماضي الاستعماري لهولندا
[ad_1]
- كيث باوند
- بي بي سي
يشهد متحف ريكز في العاصمة الهولندية أمستردام معرضا رائدا وجديدا من نوعه، يستعرض إفادات تتناول تجارب شخصية عن العبودية، في حقبة فنية تُعرف باسم “العصر الهولندي الذهبي”. في السطور المقبلة، تلقي كيث باوند نظرة على المعرض ومحتوياته.
يعرف كثير من زوار متحف ريكز المرموق للفنون والتاريخ في العاصمة الهولندية أمستردام، أن من بين أبرز مقتنياته لوحتيْن رائعتيْن للرسام الشهير رامبرانت، تُصوِّران – وبالحجم الطبيعي – الزوجيْن مارتن سولمانز وأوبيان كوبيتس. وتظهر اللوحتان، الزوجيْن وهما يرتديان ثيابا فاخرة عامرة بالزخارف والنقوش المتقنة. وقد رُسِمَتا على شاكلة لا يستطيع سوى الأثرياء تحمل نفقاتها، خاصة أن بطليْها يجسدان حقبة من الرخاء الاقتصادي والازدهار الفني، تُعرف عادة باسم “العصر الهولندي الذهبي”.
لكن تأمل اللوحتيْن بعمق، يجعل بوسعك إدراك أنهما ترويان كذلك، قصة أكثر تعقيدا وإثارة للقلق والانزعاج أيضا، فسولمانز جنى ثروته من تكرير السكر، الذي كانت تزرعه قوى عاملة كلها من العبيد، في مزارع بالبرازيل.
فلأكثر من 250 عاما، بسطت هولندا سيطرتها على مستعمرات شاسعة المساحة، في المناطق المعروفة الآن، بإندونيسيا وجنوب أفريقيا وغينيا الجديدة وجزيرة كوراساو، وما وراء ذلك أيضا. هناك كان العبيد من الرجال والنساء وحتى الأطفال، لا يُعاملون كبشر سوى بالكاد.
ورغم ما يسود هولندا في كثير من الأحيان من اعتقاد مفاده بأن العبودية أمر مُورِسَ من جانب عدد محدود من أبناء هذا البلد ولكن في ما وراء البحار، يستضيف متحف ريكز معرضا رائدا وجديدا من نوعه، يكشف النقاب عن الكيفية التي كانت بها هذه الممارسات، متغلغلة في المجتمع الهولندي بمختلف مستوياته، سواء بين من يعيشون في المستعمرات أو حتى في أرض الوطن، وأن ذلك خلّف إرثا لا تزال آثاره قائمة في الوقت الحاضر، في شتى أنحاء هولندا.
وفي تصريحات لبي بي سي، تقول إيفيلينه سينت نيكولاس، أمينة قسم التاريخ في المتحف، إن ممارسة الاسترقاق، لم تقتصر على “الصفوة أو النخبة، بل شمل كذلك الحرفيين الذين كانوا يكسبون قوت يومهم عبر العمل مقاولين من الباطن أو موردين”. ولذا تضمنت قائمة أصحاب المهن التي انخرطت في هذه الممارسات “الحدادين، أو النجارين الذين كانوا يعملون على أرصفة الشحن الخاصة بالسفن، أو الكَتَبة المسؤولين عن إبرام العقود. إذا نظرت إلى السلسلة بأكملها (التي كانت ضالعة في الاسترقاق)، ستجد أنها كانت متشابكة مع نسيج المجتمع الهولندي، على نحو أكبر بكثير مما اعتدنا قوله”.
وتضيف سينت نيكولاس بالقول: “أعتقد أنه من المهم، أن نخبر زوارنا أن الأمر لا يتعلق بتاريخ حدث بعيدا عنّا في المستعمرات، لكنه تاريخنا الوطني، وأننا جميعا مشاركون فيه”.
وبالعودة إلى وقائع التاريخ، سنجد أن الهولنديين البروتستانت، كانوا في بادئ الأمر مترددين في توريط أنفسهم في تجارة العبيد، تلك التي كان أحد قساوستهم يصفها بأنها “انحراف كاثوليكي”، يقترفه الإسبان والبرتغاليون. لكن هذه التوجهات بدأت في التغير، مع توسيع الهولنديين نطاق أنشطتهم خارج وطنهم.
وتقول سينت نيكولاس في هذا الشأن: “أصبح من الواضح وقتذاك أنه يتعين على الهولنديين المشاركة في تجارة العبيد، وذلك إذا أردنا التنافس مع البرتغاليين وانتزاع زمام الأمور منهم، وهو ما أدى إلى تغير في الرسالة التي تروج لها الكنيسة. لقد بحثوا عن قصص في الكتاب المقدس، تضفي المشروعية على العبودية، وذهبوا إلى القول إن العهد القديم قال إن الاسترقاق أمر مقبول، نظرا لوجود القصة التي تتضمن صب (النبي) نوح اللعنة على ابنه حام ونسله، بأن يصبحوا عبيدا”.
وقد تم تداول هذه الرؤية، رغم أن الكتاب المقدس لم يتضمن أي إشارة صريحة، تفيد بأن حام كان أسود اللون. وتصف سينت نيكولاس تلك الحجة التي لجأ لها رجال الدين البروتستانت في هولندا لإسباغ المشروعية على تجارة العبيد، بأنها “معقدة إلى حد أنني أجد دائما من الصعب عليّ، فهم أنه كان يمكن (استخدامها) من الأصل. لكن قليلا من رجال الدين هم من شككوا فيها، وعندئذ بات من الممكن، تجريد `الآخرين` من طابعهم البشري الإنساني”.
وتقول فاليكا سمولدرز، المسؤولة عن قسم التاريخ في متحف ريكز: “أرى أنه من المهم الإشارة إلى أن العنصرية ليست شيئا كان موجودا طوال الوقت. فرغم أن التمييز أمر شائع في مختلف بقاع الأرض، فإن إسباغ المشروعية على منظومة يتم في إطارها استهداف مجموعة بعينها من الناس، وجعلهم خدما للنصف الآخر من العالم، هو أمر رُسِخَ من جانب الاستعمار، ومع وصول النزعة الاستعمارية إلى منتهاها، تم تعزيز ذلك التوجه، عبر الأفكار `العلمية` العنصرية. لذا فالعنصرية هي نتاج للاستعمار، وليس العكس”.
ومن شأن التصالح مع مثل هذا التاريخ، مواجهة بعض الحقائق غير المريحة، من جانب أمة طالما اعتبرت نفسها متسامحة. ويدرك المسؤولون عن متحف ريكز أنفسهم، بأنه كان هناك تباطؤ في سرد مثل هذه القصص، وهو ما تعبر عنه سينت نيكولاس بالقول: “اعتقدنا أنه لا توجد مقتنيات أو أشياء، يمكن أن تُروى من خلالها هذه القصة، وهو ما شَكَّل عائقا كبيرا أمام الشروع في ذلك”.
تاريخ ذو طابع شخصي
وقد امتدت عملية التخطيط لإقامة هذا المعرض عدة سنوات، وشملت توظيف عدد من الموظفين الجدد، الذين تتلاءم خبراتهم المهنية وكذلك خلفياتهم الشخصية مع موضوعه. وكانت فاليكا سمولدرز من بين هؤلاء، فقد وُلِدَت في جزيرة كوراساو، وهاجرت من هولندا إلى سورينام في عام 1976، بُعيد نيل هذا البلد استقلاله. وتشرح سمولدرز الطبيعة المعقدة لجذورها العائلية بالقول: “أسلافي أوروبيون وأفارقة وآسيويون. وكانوا عبيدا ومُستعبِدين وعمالا مهاجرين. وقد تم تقبل هذا التاريخ الاستعماري المعقد في منطقة الكاريبي، بوتيرة أسرع مما حدث في أوروبا، لكننا الآن نمضي على الدرب نفسه”.
ولتحقيق هذا الهدف، قرر المتحف التركيز على قصص أشخاص، كانوا جزءا من منظومة الاسترقاق، سواء استفادوا من ذلك أو عانوا منه وتمردوا عليه في نهاية المطاف. وقد كان التركيز على الجانب الاجتماعي لا الاقتصادي من ذلك الملف، أمرا مهما على نحو خاص، وذلك من أجل سرد قصص أولئك الذين تم استرقاقهم، ليصبح لدينا – كما تقول سينت نيكولاس – أناس “لديهم أسماء وقصص تخصهم، بدلا من أن يصبح الأمر متعلقا بـ `أرقاء` مجهولي الهوية، يُشار إليهم على أنهم `بضاعة` أو `شحنة` في السجلات”.
ولأنه من النادر العثور على شهادات مباشرة، لمن كانوا عبيدا في تلك الحقبة، نظرا لأن تعلم القراءة والكتابة، كان محظورا في غالبية المستعمرات، فقد كان على فريق العمل الذي كُلِف بالتحضير لإقامة المعرض، مواجهة هذه المشكلة، عبر عدة طرق. من بينها أن يعيد أفراده – وبدقة – فحص ما هو متاح لهم من مقتنيات، وأن يتوخوا الحرص في تفسير المصادر المكتوبة المعاصرة التي تتعلق بالفترة التي يتناولونها، فضلا عن استعانتهم بالتاريخ الشفهي، لإيضاح ملامح الحقبة التي انخرط فيها الهولنديون، في ممارسات الاسترقاق.
وقد جعل القائمون على المعرض، تجارب العبيد التي تُسرد من خلاله ملموسة بشكل أكبر، من خلال حصولهم على أشياء كانت شائعة في الحقبة التي تتناولها الفعاليات، مثل الـ “ترونكوس”، وهي أداة تُستخدم لتقييد القدم لمنع المرء من الفرار، وكذلك الـ “كابا”، وهي عبارة عن غلاية مصنوعة من الحديد الزهر، استُخْدِمَت في مزارع السكر.
وترتبط الـ “كابا” مثلا بقصة عبد يُدعى واللي، أُجْبِرَ على العمل في مزرعة للسكر في سورينام، شهدت تصاعدا للتوتر بين العاملين فيها، عندما قرر مالكها الجديد حرمانهم من فرصتهم لنيل يوم السبت من كل أسبوع عطلة، يستطيعون اغتنامها للتواصل اجتماعيا مع من حولهم، وزراعة المحاصيل التي تخصهم. واستعاض مالك المزرعة عن هذا النظام، بمنظومة أخرى تُلزم العبيد العاملين لديه، بالحصول على تصريح لمغادرة المكان. وقد أدى ذلك في نهاية المطاف، إلى فرار كل العاملين في المزرعة، بشكل جماعي إلى غابة مجاورة. وعندما أُلقي القبض عليهم، تم العفو عن 19 ممن شاركوا في هذه العملية، لكن قادتها – ومن بينهم واللي – نالوا أحكاما قاسية، قضت بتعذيبهم على نحو مروع وقتلهم بشكل بطيء.
وقد أصبح الطابع المرعب الذي تصطبغ به هذه القصة أكثر تأثيرا، بفعل الطابع الشخصي الذي تكتسي به. وقد أدرك من طالعوها أن واللي ورفاقه، عوملوا على هذا النحو البربري الفج، استنادا إلى حجة دينية زائفة، تم اختلاقها بشكل واهٍ، لتحقيق مكاسب اقتصادية.
وهنا يثور السؤال: هل كان مارتن سولمانز، يعلم وهو يشتري السكر الخام من وسطاء، بالبشاعة التي تكتنف المنظومة التي يجري زراعة هذا المحصول في ظلها؟ في سياق الإجابة على هذا السؤال؛ تقول فاليكا سمولدرز، إن ثمة حاجة لإجراء مزيد من الأبحاث والدراسات، لتحديد حجم ما كان يعلمه الهولنديون في تلك الفترة، بشأن الانتهاكات التي كانت تُرتكب في ما وراء البحار.
ولكنها تضيف بالقول، إنه كان بوسع هؤلاء “معرفة بعض الأشياء من خلال أفراد أسرهم. كما أنه كان بمقدور أبناء الطبقات العليا ممن ذهبوا إلى المستعمرات، أن يروا ممارسات الاسترقاق بأم أعينهم. فضلا عن ذلك وذاك، كان بوسع أطقم السفن رؤية هذه الممارسات عن كثب، لذا لم يكن الناس غير عالمين بما يحدث”.
وحتى إذا لم يكن سولمانز وقرينته أوبيان، على دراية بالواقع الوحشي للاسترقاق، فإنهم كانا على علم بالقطع بالأشخاص الذين فروا من هذا المصير. فقد كان بمقدور الزوجيْن أن يريا أولئك الناس، خلال توجههما إلى المرسم الخاص بـ “رامبرانت”، والذي كان يقع في منطقة تتركز فيها غالبية الأشخاص سود البشرة، الذين كانوا يقطنون أمستردام في القرن السابع عشر. وربما يشكل وجود مثل هذه الفئة من السكان، مفاجأة في حد ذاته بالنسبة للكثيرين.
على أي حال، كان الاسترقاق – من الوجهة الرسمية، محظورا بل وغير موجود في هولندا وقتذاك. لكن ذلك لم يمنع الهولنديين من شراء أشخاص تم استرقاقهم في المستعمرات، وجلبهم إلى الوطن معهم. فقد كان وجود خادم داكن البشرة في منزل ما، مؤشرا ذا طابع عالمي، يفيد بانتماء صاحب هذا المنزل للنخبة أو الصفوة في المجتمع.
ومن المحتمل أن يكون أحد هؤلاء الخدم هو باولوس ماوروس، الذي تكشفت أبعاد قصته من خلال طوق نحاسي، يمكن أن يكون مصدره المنزل الذي كان يعمل فيه. وعندما تم ضم هذا الطوق للمرة الأولى لمقتنيات المتحف في عام 1881، أُدْرِجَ في السجلات على أنه طوق لكلب. ولم يشكك أحد قط في هذا التوصيف، رغم أن بعض اللوحات كانت تُظهر خدما من أصول أفريقية، يضعون أطواقا مماثلة حول أعناقهم.
إذا، كيف كانت الحياة تبدو بالنسبة لرجل حر أسود البشرة يعيش في المجتمع الهولندي في الحقبة التي يتناولها المعرض؟ تجيب سمولدرز على هذا السؤال بالقول: “الأمر يبدو أكثر تعقيدا مما قد نحسب. فقد كان هؤلاء يحظون بالقبول، وكانت لديهم أسر وأطفال. لكن في الوقت نفسه، من المؤكد أن الوضع لن يصبح مريحا للغاية بالنسبة لك، إذا كنت تنتمي إلى أقلية، وترى صورا نمطية (تُحقِر منها) حولك في مكان”.
وقد كان ماوروس نفسه متزوجا ولديه أطفال، وربما يكون هناك من بين أحفاد أحفاده من يعيشون الآن في أمستردام، ولا يعلمون أصولهم هذه على الأرجح. وتقول سمولدرز في هذا السياق: “أصبح من الصعب بعد مرور بضعة أجيال، أن تبقى هناك سمات مرئية، تميز من لديهم حمض نووي أفريقي عن غيرهم”.
فمن بين الحقائق الأخرى، التي قد تبدو مفاجئة لك في هذا الشأن، أن الرجال سود البشرة، كانوا يقترنون عادة بنساء ذوات بشرة بيضاء، إذ لم تكن هناك أي قيود تحد من الزواج، بين أشخاص من أعراق مختلفة. وبوسعنا هنا افتراض، أن التمييز كان أقل شيوعا بين الطبقات الأقل ثراءً في هولندا في تلك الحقبة.
وفي هذا السياق، تتساءل سمولدرز عن النتائج، التي ستتمخض عن إجراء تجربة تشهد – مثلا – أخذ عينة من الحمض النووي لعدد كبير من الهولنديين لتحديد أصولهم، قائلة إن أكثر ما يثير فضولها على هذا الصعيد، هو ما الذي سيحدث للمجتمع “عندما يدرك أبناؤه أن كلا منهم يرتبط بشكل شخصي، بطرفيْ القصة” الخاصة بالاسترقاق.
“النظرة المأخوذة من على متن سفينة”
ويمكن القول إنه كان من المحتمل أن تتغير التوجهات المجتمعية في هولندا، إذا ما كانت جوانب مختلفة من تاريخ هذا البلد، قد دُرِسَت من قبل، بشكل أكثر تفصيلا. فالشهادات المتعلقة بفترة انتهاء العبودية، غالبا ما تعطي أدوارا بارزة في هذا الصدد، إلى مناوئي الاسترقاق من الأوروبيين ودعاة إلغائه، دون إبداء اهتمام مماثل، لمن قاوموا هذه المنظومة من داخلها. ويبدو هذا الأمر وثيق الصلة بتاريخ هولندا، بالنظر إلى تردد هذا البلد، في أن يحذو حذو جيرانه الأوروبيين في إلغاء العبودية. فبينما أُلغي هذا النظام في بريطانيا في عام 1833، وفي فرنسا عام 1848، لم تُتّخَذ هذه الخطوة في هولندا سوى عام 1863.
وفي هذا الشأن، يُسلّط المعرض الضوء على قصة تولا، وهو مقاتل من أجل الحرية من جزيرة كوراساو، استلهم أفكاره في هذا الصدد من مبادئ الثورة الفرنسية. فعندما سقطت الجمهورية الهولندية تحت الحكم الفرنسي عام 1795، وتحولت إلى ما عُرِفَ بـ “جمهورية باتافيا”، رأى هذا الرجل أن القواعد المطبقة في فرنسا باتت تنطبق كذلك على المستعمرات الهولندية، وأن ذلك يعني أنه سيتم – بموجب القانون – منح من كانوا أرقاء حريتهم.
ورغم ذلك، لا يعرف أحد في هولندا تقريبا، قصة هذا الرجل، نظرا إلى أن فترة “جمهورية باتافيا” لم تحظ بكثير من الدراسة، كجزء من التاريخ الهولندي. فهذه الحقبة تشكل بالنسبة للهولنديين، حسبما تقول سمولدرز، “فترة من الحكم الفرنسي. ولم تصبح جزءا مما نحن عليه في خيالنا. كما لم يصبح الدور الذي لعبه أبناء منطقة الكاريبي ذوو الأصول الأفريقية في تلك الحقبة الثورية، جزءا من السردية الخاصة بنا، لذا اختفى أشخاص مثل تولا تماما” من بين صفحات التاريخ.
ويصف المؤرخ المتخصص في الحقبة الاستعمارية أليكس فان شتيبريان هذا التوجه ضيق الأفق في النظر إلى الوقائع التاريخية، بأنه التاريخ الذي يُدوّن وفقا لـ “نظرة مأخوذة من على متن سفينة”، وهو النمط الذي ساد الأوساط الأكاديمية، حتى ثمانينيات القرن الماضي.
ويشرح فان شتيبريان ذلك بالقول، إن الأمر هنا يبدو كما لو كان “التاريخ يقف على متن سفينة، ناظرا إلى أسفل – بالمعنى الحرفي – صوب الدول المُسْتَعمَرَة وشعوبها الخاضعة للاستعمار بدورها، دون أن تُذكر مفردة واحدة قادمة من أفواه هؤلاء البشر الذين جرى استعمارهم”.
ورغم أن الأوساط الأكاديمية، مضت الآن بعيدا للغاية عن وجهة النظر هذه، فإن تلك الرؤية لا تزال قائمة بشكل كبير في الوعي العام، في ضوء الحب الذي تُكِنّه وسائل الإعلام للمؤرخين القليلين الذين لا يزالون يتبنونها. فآراؤهم “يُستشهد بها طوال الوقت”، كما يقول فان شتيبريان باستهجان. ويعتبر هذا المؤرخ ذلك، جزءا من النزعة القومية الشعبوية، التي تبدو واضحة الآن في مختلف أنحاء أوروبا.
بجانب ذلك، خلّفت المتاحف بدورها تأثيرا مفرطا، على ما يُطلق عليه فان شتيبريان “تراثنا العقلي.. فكل هذه المجموعات (من المقتنيات) تشكل نموذجا مُمَثِلا لرؤية تتمحور بشكل مفرط حول أوروبا، وهي رؤية للتاريخ متحيزة بشدة أيضا: تاريخ لـ `تفوق` البيض، و`دونية` السود”.
ولفهم التأثير الخبيث لمثل هذه السرديات، ربما يكفيك النظر إلى المسيرات السنوية التي يشهدها يوم القديس نيكولاس، الذي يُحتفل به في الدول الغربية المسيحية، في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول من كل عام. فالرجال والنساء بيض البشرة ممن يشاركون في هذه المسيرات، يصبغون وجوههم باللون الأسود، ليجسدوا شخصية “جيفارتيا بيت” أو “بيتر الأسود”. ويُعقّب فان شتيبريان على ذلك التقليد بالقول، إن الهولنديين ظلوا لعقود طويلة يقنعون أنفسهم بـ “أنه لا يمكن أن نكون عنصريين، لأننا متسامحون. الأمر كله مزحة، وتقليد خاص بنا”.
لكن توجهات المجتمع حيال هذا التقليد بدأت في التغير. ففي عام 2011، شهدت هولندا من أقصاها إلى أقصاها، نقاشا واسع النطاق حول شخصية “جيفارتيا بيت”، وذلك بعدما ارتدى فنانان وناشطان هولنديان شابان من أصل أفريقي قميصيْن قصيريْ الأكمام؛ كُتِبَ عليهما “استخدام شخصية `جيفارتيا بيت` يمثل عنصرية”، خلال مسيرة خرجت في مدينة دوردريخت. وفي العام الماضي، أظهرت دراسة مسحية أن 50 في المئة من المستطلعة آراؤهم، يؤيدون تغيير هذه الشخصية، والاستعاضة عنها بشخصية مغايرة لها تماما. وفي تعقيبه على هذه النتائج، يقول فان شتيبريان إن “تغير نظرة نصف السكان في 10 سنوات.. في ظل الظروف الهولندية، يشكل تطورا حدث بسرعة”.
ويرى هذا المؤرخ أن إحداث تغيير حقيقي على هذا الصعيد، يستلزم أن يصبح تاريخ العبودية والحقبة الاستعمارية جزءا من “التاريخ الوطني” لهولندا. وفي الوقت الراهن، يشكل فان شتيبريان أحد أعضاء فريق العمل المشارك في مشروع لإنشاء متحف وطني هولندي يتناول العبودية عبر الأطلسي. ويرى هذا الرجل، أن ذلك المشروع سيشكل “معلما رئيسيا في هولندا”، رغم أنه لن يفتح أبوابه على الأرجح قبل عام 2030. ويحرص فان شتيبريان، على التأكيد على أن هناك “الكثير من الحراك، وأن الأمور تتغير، ربما ليس بسرعة كبيرة، ولكنها تتغير”. ويعتبر أن تعيين سمولدرز – التي أشرف على رسالتها لنيل الدكتوراه – مسؤولة عن قسم التاريخ في متحف ريكز، يمثل جزءا من هذا التغير.
فلاشك أن خلفية هذه السيدة، تجعلها منسجمة على نحو فريد، مع التحديات المتعلقة بالحديث عن التاريخ الاستعماري لهولندا. وتقول هي نفسها في هذا الشأن: “إن تقبل ما كان، وإطلاق حوار مفتوح بشأنه، يشكلان السبيل الوحيد للمضي قدما إلى الأمام. لا يمكن أن نُبدل الأحداث التي وقعت بالفعل في الماضي، لكننا مسؤولون عما يحدث هنا والآن. الأمر منوط بنا، لنقوم بما هو أفضل، عبر الإقرار بأن ذلك يشكل تاريخا للوطن، ما يجعله بالتبعية أمرا يهمنا جميعا”.
وتستطرد بالقول: “لدى المتاحف دور شديد الأهمية بوجه عام، على صعيد توفير المعرفة للناس على نحو يمسهم، وجعل هذا الأمر ذا طابع شخصي، بما يجعل الناس تستطيع وضع نفسها، في محل أولئك الذين عاشوا في الماضي”. وتضيف سمولدرز قائلة: “ما آمل بصدق أن نتمكن من إنجازه عبر هذا المعرض، ومن خلال عملنا بشكل عام، أن نُظهر أن لأي تاريخ كل هذه الجوانب المختلفة. ونحن بحاجة، كمتحف، لأن نقدم قصة أكثر تعقيدا، تجمع بين جنباتها كل هذه الأصوات معا”.
[ad_2]
Source link