جين أوستن: لماذا يعد الوقت الحالي مثاليا لقراءة أعمال الروائية الإنجليزية؟
[ad_1]
- هيلويز وود
- بي بي سي
لا تعد روايات جين أوستن، خلافا للاعتقاد الشائع، وسيلة للهروب من الواقع، بل تحمل في طياتها دروسا في الإصرار والمثابرة، ولهذا قد يكون الوقت الحالي مثاليا لقراءتها.
في عام حافل بالاضطرابات والتحديات، بحث كل منا عن طرق خاصة للتأقلم مع الضغوط النفسية. وقد وجدت ضالتي في روايات جين أوستن. فعلى الرغم من أن أعمال الروائية الإنجليزية لم تكن تروق لي في الماضي وكنت أعتقد أنها مصطنعة وأحداثها متداخلة إلى حد الإرباك ولم تثر أي من بطلاتها تعاطفي قط، إلا أنني في العام الماضي وجدت نفسي منجذبة إلى أعمالها إلى حد غير مسبوق.
وتظهر بيانات مبيعات قصص جين أوستن أن خفة ظلها وعذوبة أسلوبها ساعدتا الكثيرين غيري على اجتياز هذه الفترة العصيبة. ونوهت كييرا أوبراين، محررة البيانات والمخططات بمجلة “بوك سيلر” إلى ارتفاع مبيعات روايات جين أوستن بنسبة 20 في المئة في المملكة المتحدة في الفترة من 15 يونيو/حزيران إلى 7 نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، مقارنة بنفس الفترة من عام 2019.
وقد حلت في ديسمبر/كانون الأول الماضي الذكرى 245 لميلاد أوستن، في وقت لا تزال فيه شعبيتها تزداد عاما بعد عام.
لكن لماذا تناسب روايات أوستن عصر الوباء؟ ربما قد توحي صورة بطلاتها التي رسختها في الأذهان الأفلام التليفزيونية والسينمائية الأخاذة، أن هذه الروايات الرومانسية تعد وسيلة للهروب من الواقع المؤلم. والدليل على ذلك أن مسلسل “بريدجتون” على منصة نتفلكس، الذي تدور أحداثه في الفترة التي عايشنها أوستن في أوائل القرن التاسع عشر في إنجلترا، قد حقق نجاحا مدويا.
لكن عندما تمعن النظر في روايات أوستن، ستجد بين سطورها مواساة في أوقات الشدة. فتلك العواطف الجياشة تخفي بين ثناياها صلابة وإصرارا قد يبعث في نفسك الأمل عندما تقرأها في هذه الأوقات المحفوفة بعدم التيقن والمخاوف.
نموذج للإصرار
كانت حياة أوستن درسا في التحمل والإصرار، فقد نشرت ستة روائع أدبية في سبع سنوات وقضت نحبها في عمر 41 عاما.
وتقول دكتورة هيلينا كيلي، مؤلفة كتاب “جين أوستن: الثائرة الخفية”: “قد تكشف قصص أوستن عن حياة كاتبة تعيش حياة مستقرة وآمنة، لكنها في الحقيقة طردت من المدرسة الداخلية مرتين وكادت أن تموت. ففي المرة الأولى، أصيبت المدرسة بأكملها بمرض التيفوس، وتوفيت عمتها التي كانت تتعهدها بالرعاية. وقد تتخيل حجم المعاناة النفسية التي قد تسببها كل هذه الأحداث”.
وجسدت الكثيرات من بطلات روايات أوستن الاضطرابات التي كانت تعكر صفو حياتها. ففي عام 1800، تقاعد والدها القس، وترك الأبرشية لابنه الأكبر. وتقول كيلي إن أوستن ووالديها واختها كاسندرا أمضوا السنوات الثمانية اللاحقة متنقلين بين منازل صغيرة في مدينة باث بإنجلترا وبين منازل الأقارب وفي منتجعات على الشواطئ.
ثم استقر بهم المقام في منزل ببلدة تشاوتون في هامبشاير في عام 1809، وعندها فقط استعادت أوستن الاستقرار النفسي وشرعت في نشر رواياتها. لكن تأثير تنقل أسرتها وترحالها، يبدو واضحا في أعمالها، كما في رواية “العقل والعاطفة”، حين أُرغمت بنات السيد داشوود الثلاثة وأمهن على مغادرة منزل العائلة، ثم حرمهن أخوهن غير الشقيق وزوجته المتسلطة من ميراث أبيهن.
ويقول جون مولر، أستاذ اللغة الإنجليزية بكلية لندن: “تحدثت أوستن بدقة شديدة عن الأموال في رواياتها، لأنها جربت بنفسها غياب الأمن المالي”.
وثمة عنصر مهيمن على روايات أوستن وهو الشعور بالرغبة في التحرر من الخلافات الأسرية المقيدة أو المحيطة بالأبطال من كل جانب، وقد يدرك الكثير منا هذه المشاعر الآن. ففي رواية “كبرياء وهوى”، كانت إليزابيث بينيت تبحث عن الحرية بالسير وسط الأشجار في المزارع والطرق الموحلة، لتنعم بالهدوء بعيدا عن منزل العائلة المزدحم.
وتقول كيلي: “تتعرض جميع الشخصيات لضغوط نفسية غير واضحة، لكنها إجمالا، تجيد التعامل مع المشاكل والتحديات”. وترى كيلي أن أوستن كانت من أوائل الروائيين الذين تطرقوا لعيوب العائلات. فقد كان الآباء والأمهات في الروايات السابقة عليها إما أمواتا أو مثاليين ويعيشون في سعادة ووئام، لكن من الواضح أن أوستن خالفت القاعدة.
وكان مشوار أوستن الأدبي درسا في الإصرار والصبر، فقد كان طريقها إلى نشر أول رواية محفوفا بالرفض والإخفاقات. وبدأت أوستن الكتابة في سن 12 عاما، وشرعت في تأليف روايات بعد أن تجاوزت عشرين عاما، لكن رواياتها لم تنشر إلا بعد أن تجاوزت 35 عاما.
وفي عام 1797، عندما كان عمرها 22 عاما، أرسل والدها نسخة من رواية “كبرياء وهوى” إلى دار نشر “كاديل أند ديفيز” في لندن، لكنها رفضت نشرها. وبعد ست سنوات، قبلت دار نشر “كروسبي أند كو” روايتها “سوزان” بقيمة 10 جنيهات إسترلينيه، لكنها لم تنشرها.
وتقول كيلي: “لا شك أن أوستن تملكها إحباط شديد، فمن الواضح أنها ظلت تحلم لسنوات بنشر روايتها”. وفي عام 1809، كتبت أوستن خطابا لدار نشر “كروسبي أند كو” أعربت فيه عن خيبة أملها بسبب الظلم الذي تعرضت له.
وقبل وفاتها بعام، تمكنت أخيرا من شراء روايتها من دار النشر ونُشرت بعد وفاتها باسم “دير نورثانغر”، مشفوعة بإعلان عن استياء الكاتبة بسبب عدم نشرها.
النضوج العاطفي
كان على بطلات روايات أوستن، كشأن الكاتبة، أن يتحملن ما لا يطاق، ويعتصر الألم قلوبهن في صمت عندما يعتقدن أن فرصهن في السعادة ضاعت للأبد. فكلمات إلينور داشوود قبل لقاء حبيبها إدوارد فيرارز الذي كانت تظن أنه تزوج بأخرى، كانت مؤلمة وملهمة في آن واحد، إذا قالت: “سأكون هادئة، وسأمسك زمام نفسي”.
وفي رواية “الإقناع”، تلتقي البطلة آن إليوت مع الكابتن وينتويرث الذي كانت تحبه لكنها أنهت علاقتها به منذ تسع سنوات. لكن ملامح آن تغيرت إلى حد أنه لم يتعرف عليها للوهلة الأولى. وقد شعرت بجرح في كرامتها لأنها كانت تحبه، لكنها حاولت كتمان مشاعرها. ويرى البعض أن رواية “الإقناع” هي أكثر روايات أوستن رومانسية، ربما لأن آن تعلمت مع الوقت كيف تظهر مشاعرها الحقيقية حتى يراها وينتويرث على حقيقتها، وأفصح لها في النهاية: “لقد نفذتي إلى روحي. فاختلط في نفسي العذاب بالأمل”.
ويقول مولان: “إن كل بطلة من بطلات روايات أوستن تفقد الأمل في الفوز بقلب الشخص الذي تريده. وفي الكثير من رواياتها، توقن البطلة أن حبيبها سيتزوج بأخرى، حتى لو كان القارئ يدرك العكس. فالبطلات لا يدركن أنهن لن يحصلن على ما يردن فحسب، بل يرضين أيضا بالنهايات غير السعيدة، ورغم ذلك لا يشعرن بالحسرة أو يشفقن على أنفسهن”.
ويعد النضوج العاطفي، الذي يمثل أحد الأبعاد المهمة من شخصيات بطلات أوستن، ملهما في وقت نعيد فيه النظر في الأمور التي تمثل أهمية في حياتنا. وتحدثت الأخصائية النفسية أنجيلا دوكويرث عن عقلية النضوج، وتقصد بها طريقة التفكير المبنية على القناعة بأن الحياة هي مجموعة من عمليات التأقلم مع التحديات وتقبل الأخطاء والتعلم منها. وقد اكتسبت بطلات روايات أوستن هذه القناعة مع الوقت وغيّرت التجارب شخصياتهن.
فها هي إيما المدللة قد استبد بها الملل في قريتها الصغيرة إلى حد أنها كانت تسخر من الآخرين، مثل السيدة بيتس الرقيقة والفقيرة نسبيا، لكنها تداركت أخطاءها مع الوقت. وتقول غيليان دوو، الأستاذة المساعدة للغة الإنجليزية بجامعة ساوثهامبتون: “إن اللحظة التي تدرك فيها البطلة أنها كانت مخطئة في حكمها على الآخرين، تعد من اللحظات الفارقة في معظم روايات أوستن”.
وتضرب دوو مثالا على ذلك باللحظة التي أدركت فيها إليزابيث بينيت أنها أساءت الظن بويكهام، ودارسي، وخجلت من نفسها وشعرنا معها بالخجل.
وقد عبرت أوستن بدقة عن الآلام التي عانت منها بطلات روايتها أثناء التحول العاطفي. فقد وظفت أساليب السرد بإتقان لتنقلنا إلى عقل الشخصيات حتى نرى أفكارهم ولتكشف لنا أن الكثير من معتقداتهم خاطئة. ويرى مولر أن أسلوبها الثوري في الكتابة يروق للقراء في العصر الحديث. ويقول: “إن أوستن أتقنت أسلوب الكتابة الحر وغير المباشر، فأنت تقرأ الرواية بعيون شخصياتها وهذا الأسلوب لم يستخدمه أحد من قبلها”.
أوستن في الوصفات الطبية
ارتبطت روايات أوستن بتخفيف الأحزان والضغوط النفسية، إلى حد أن باولا بيرن، الكاتبة والخبيرة بروايات جين أوستن، تقول إن الأطباء كانوا يصفونها للجنود الذين كانوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة في خضم الحرب العالمية الأولى.
وكتب روديارد كيبلنغ في عام 1924 قصة قصيرة عن مجموعة جنود جمعهم حب روايات أوستن، وقرأ البطل أعمالها عندما كان يتلقى العلاج في مدينة باث من متلازمة قدم الخنادق، التي تصيب القدم بسبب الرطوبة.
وعندما كانت بيرن تجري أبحاثا تحضيرا لكتابها “عبقرية جين أوستن في غمرة الحرب العالمية الأولى”، اكتشفت أن الجنود كانوا يضعون رواياتها في جيوبهم في الخنادق، وأن ألان ميلن، مؤلف قصص “ويني ذا بوه”، ساعده عشقه لروايات أوستن في تكوين صداقات مع مجموعة من الجنود الشغوفين بها أثناء القتال.
وكان وينستون تشرتشل الذي قضّت الحرب مضجعه، يطلب من ابنته قراءة رواية “كبرياء وهوى” على فراش المرض للتخفيف من آلامه.
وتطرقت دوو إلى تأثير روايات أوستن العلاجي في إحدى الدورات عن جين أوستن عبر منصة “فيوتشر ليرن” الرقمية، وتقول: “كان الكثير من المشاركين في الدورة إما يخضعون للعزل الذاتي أو في إجازة إجبارية أو يتعافون من المرض أو يبحثون عن شيء يلهيهم عن مشاكلهم وهمومهم، وكتب أحد المشاركين ‘سأفتقد قراءة روايات جين في المساء بعد انتهاء الحجر الصحي'”.
وقد وجد كل قارئ من هؤلاء شيئا معينا في روايات أوستن يبعث في نفسه الطمأنينة ويخفف آلامه. وتقول كيلي إن روايات أوستن تستغرق عادة سنة كاملة، لتبعث الأمل لدى القراء في أن “الشمس ستسطع مجددا والأمور ستتحسن”. أما بيرن فتقول إن وتيرة عبارات أوستن نفسها تهدئ الأعصاب وتشجع على التأني في القراءة.
وتستخدم بيرن روايات أوستن في مؤسستها “ريليت” غير الربحية التي تقدم علاجا تكميليا للضغوط النفسية والقلق وغيرها من المشاكل النفسية عبر القراءة البطيئة للروائع الأدبية في المدارس والسجون ومستشفيات علاج السرطان وللعاملين بالرعاية الصحية الذين يعانون من الاحتراق النفسي.
ورغم أنني لم أقرأ روايات أوستن إلا بعد أن بلغت 30 عاما، إلا أنني أستمتع برواياتها الغنية التي تجمع بين الهجاء الاجتماعي والسخرية اللاذعة والأمل في بزوغ فخر جديد. وأرى أن أهم عنصر في روايات أوستن أنها تساعدنا على تقبل الجوانب المظلمة في الحياة بأسلوب خفيف ومرح نحتاجه بشدة في الأوقات العصيبة.
ويقول مولان: “كنت من فرط حماقتي في مرحلة المراهقة أظن أن رواياتها متشابهة، وتدور كلها عن فتيات يبحثن عن زوج. لكن الكثير من الطلاب بأفكارهم الخلاقة ونفاذ بصيرتهم ساعدوني في اكتشاف عبقريتها، وتعجبت من مدى تشابك أحداث رواياتها التي لا تمل قراءتها مرات ومرات”.
[ad_2]
Source link