جدارية صيد الأسود للملك آشور بانيبال: أخبار زائفة عمرها 2700 عام
[ad_1]
إذا أردت العثور على الإجابات الكبرى، فابحث عن التفاصيل. ولتمعن النظر على سبيل المثال في النقوش التي نحتت على بلاطات من الجبس والمرمر، وتصور حملة الملك آشور بانيبال لصيد الأسود. فقد تبدو هذه المنحوتات، التي تعود للقرن السابع قبل الميلاد وكانت تزين جدران قصر ملكي في نينوى، للوهلة الأولى كأنها فوضى عارمة من السهام واستعراض القوة.
وربما يجد الناظر لهذه النقوش البارزة صعوبة في استكشاف أي دلالات جمالية أو روحانية كبرى مختبئة في ثنايا هذه المنحوتات التي تسرد مظاهر الجبروت الملكي من خلال تصوير الملك آشور بانيبال، يمتطي جواده ثم على عربة الخيول، يتفاخر بذبح جماعات من الأسود المكشرة عن أنيابها.
لا شك أن هذه الجداريات ليست مجرد تمجيد لنجاح ملك في دحر أسود في البرية، كما قد يبدو للرائي للوهلة الأولى، (فقد وضعت منحوتتان جداريتان، تكشفان عن إطلاق الأسود من الأقفاص، حدا لهذه الحملة الإعلامية، وربما تلمح إلى أن هذه المنحوتات هي نموذج قديم للأخبار الزائفة). وبالرغم من أن براعة الفنان الذي نحت تفاصيل هذه الأعجوبة الفنية المتقنة لا تخطئها عين، إلا أن أعيننا تبحث عن شيء لافت أو مدخل لتفسير المعاني وراء هذه البرك من دماء الأسود التي تجسدها هذه الجداريات.
ووسط هذا الصخب، ترى حلية تتدلى من أذن الملك في أروع مشاهد الجدارية، على هيئة قرط ضخم لا يقل لفتا للأنظار عن الجوهرة الأخاذة التي تتأرجح بجانب وجنة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للفنان يوهانس فيرمير، فهذا القرط هو أهم التفاصيل التي تكشف عن رمزية هذه الجدارية المبهرة.
فقد عني هذا النحات القديم بإبراز شكل وتفاصيل هذا القرط الضخم الذي يتدلى من أذن الملك آشور بانيبال اليسرى، في مشهد “السهم”، الذي يعد واحدا من المشاهد الرئيسية الأربعة في المنحوتة التي تتضمن مشهد الرمح ومشهد الخنجر ومشهد التحضير. وبدا القرط واضحا وحادا إلى درجة أنك قد تخال أن الملك في لحظة ما قد يتخلى عن السهم والقوس ويأخذ القرط ويصوبه نحو عدوه على غرار محاربي النينجا.
وفي مشهد لمعركة حامية – يصور القوة والبسالة والسهام المنهمرة والحراب المائلة، تمكن هذا القرط البسيط من الاستئثار بانتباهنا، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة، فقد تعمد الفنان إبراز هذه الحلية التي تشع تألقا كأنها جرم سماوي، ليضفي على السرد التاريخي النمطي للأعمال البطولية المتكررة التي تتسم بالقسوة، أبعادا أسطورية مثيرة للمشاعر، تكشف عن الترابط بين كل شيء في الحياة. ولكي نفهم المغزى من وراء هذا القرط، يجب أن نضع في الحسبان تفاصيل هذه النقوش البارزة على ألواح الجبس والمرمر وبراعة الفنان المغمور الذي نحت هذه النقوش قبل ألفي عام.
ولولا الطقس الرطب في بلاد الرافدين في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، لما كانت هذه المنحوتات الأخاذة قد نقشت على الجدران. فالأمطار الغزيرة هيأت الظروف للأسود لتتكاثر في التلال الخضراء التي تحيط بالمنطقة التي باتت تعرف بمدينة نينوى، معقل الحضارة والثقافة الآشورية. ومع تزايد أعداد الأسود، لم يكن زئيرها المرعب وحده أحد سمات الحياة اليومية في بلاد الرافدين، بل طغت شهيتها المفتوحة أيضا على مظاهر الحياة. فقد أصبحت المواشي ورعاتها، فريسة سهلة للأسود الجائعة والمتوحشة.
وورد في السجلات المعاصرة أن: “جثث الرجال وجيف المواشي والغنم، كانت تكدس فوق بعضها، كما لو كان الطاعون حصد أرواحها. وكان رعاة الأغنام والماشية يتحسرون على الخسائر التي تكبدوها بسبب هجمات الأسود. وكانت القرى تندب ضحاياها ليلا ونهارا”.
شكّلت الأسود تهديدا كبيرا لسكان المدينة الوادعة، إلى درجة أن أحد المسؤوليات الرئيسية للملوك الآشوريين كانت التعامل مع هذا الخطر. وكما يتضح من تصميم خاتم الملك الآشوري، الذي يصور الملك يتعارك بالأيدي مع أسد يقف على ساقين، فإن سطوة الملوك كانت تقاس بمدى قدرتهم على معالجة هذه المشكلة. ومن ثم أصبحت مواكب الملوك لصيد الأسود مدعاة للتفاخر والتباهي، ونشأت أسطورة الملك الآشوري قاهر الوحوش.
وعندما أقيم قصر جديد للملك الآشوري الجديد، آشور بانيبال الذي اعتلى العرش من عام 699 إلى 631 قبل الميلاد، كُلف فنان بتزيين جدران القصر الشمالي بجداريات لا تسرد حملات الملك لقطع دابر الأسود فحسب، بل أيضا تمجّد هذه الصراعات. واستغرق تزيين القصر وبناؤه عشر سنوات، لكن النتيجة كانت آية في الفن والإبداع، لم تكد تكتمل حتى فُقدت في التاريخ الثقافي.
فبعد عقدين فقط من انتهاء العمل في القصر، في عام 635، سقطت نينوى في عام 612 قبل الميلاد في يد تحالف من البابليين والكلدانيين والفرس والبدو الرحل السكيثيين، وظل هذا الكنز الفني مدفونا طيلة 2000 عام.
ولم تكتشف هذه المنحوتات المنسية سوى في القرن التاسع عشر، بفضل جهود عالم الآشوريات، هورموزد رسّام، الذي أشرف على عمليات التنقيب عن الآثار من عام 1852 إلى 1854، وساعد في نقلها إلى المتحف البريطاني، حيث لا تزال تُعرض في أروقته منذ ذلك الحين. وتواجه المؤسسات البريطانية التي تحتضن الكنوز التي نقلت أثناء الحقبة الاستعمارية ضغوطا لإعادة هذه القطع الأثرية إلى مواطنها، وذلك إثر القرار الأخير الذي اتخذته جامعة أبردين بإعادة منحوتات وتماثيل إمبراطورية بنين إلى نيجيريا.
وتشغل هذه الأجزاء من الجداريات جناحا مستقلا في المتحف، إذ تحظى بجاذبية لا تقاوم.
قد يسترعي انتباهك في البداية السهام، التي أصبحت معلقة في الهواء للأبد، وتبدو مصوبة نحو صدور وحوش ضارية. وقد يضفي الريش في وتر القوس بين أصابع الملك حركة على جمود هذا السرد المرئي الجامد. وتنسج هذه السهام المعلقة الماضي بالحاضر والمستقبل، إذ تجعل السرد أكثر ترابطا من خلال تبرير تكرار ظهور الملك في مشهد تلو الآخر.
وهذا الجمع بين الحركة والجمود، قد ألهب مخيلة الشاعر الأمريكي كارلوس ويليامز، الذي رأى هذه النقوش في مستهل عشرينيات القرن العشرين، ووظف علامات الترقيم، كالشرطة والوصلة وعلامة التعجب، لتجسيد تسلسل حركة السهام التي تهيمن على المنحوتة الجدارية، حيث كتب: “الملك ممتطيا جواده… يحمل قوسا مسحوبا- يواجه أسودا تقف على ساقيها الخلفيتين وتكشر عن أنيابها! ورماحه تخترق رقابها!”.
وتكمن أهمية قرط آشور بانيبال البراق في أنه يساعدنا في فك تشابك العلاقة بين هاتين القوتين المكملتين لبعضهما، أي الصياد والفريسة، كما يسهم في منع آشور بانيبال من السقوط في فخ الفشل الأبدي. فإذا كان الملك بهذه القوة، كما تبين النقوش على الجدارية، فلماذا تعود الأسود مشهدا بعد مشهد وعاما بعد عام، وتؤرق ملكا بعد الآخر؟
واجه الفنان المسؤول عن هذا المعنى الجمالي للجدارية، معضلة ضخمة لتفسير عجز قائد بهذه القوة عن قطع دابر عدو للأبد، وقد ساعده القرط في تجاوز هذه المعضلة.
رمز للأسد والملك
قد تدرك من الوهلة الأولى أن هذا القرط يحمل معان تتجاوز مجرد كونه رمزا شمسيا بسيطا يشع لهبا، بل هو حلية تؤكد على عظمة ملك لا جدال فيها. فإذا دققت النظر ستجد أن هذه الخرزات المخروطية التي تتدلى من القرط لا تعكس رؤوس الأسهم التي تتوقف عليها سلطة الملك فحسب، بل أيضا المخالب والأنياب التي تهدده. فهذا القرط هو شعار مركب، يعكس ديمومة الشمس الساطعة والملك الذي لا يُقهر، والقوى المهولة التي لا يملك أحد سواه القوة على دحرها.
وربما أدرك المراقبون المعاصرون لهذه الجداريات المصنوعة من الجبس هذه الدلالة المزدوجة للقرط، إذ يشير إلى السلاح المستخدم في الصيد والوسائل الدفاعية التي تستخدمها الفريسة الشرسة. وكانت الشمس في أساطير بلاد الرافدين في هذا العصر، هي المرادف للإله آشور، الذي استمد الملك منه اسمه. فقد كانت النقوش الحجرية التي تعود لعصور تسبق جداريات صيد الأسود، تصور الإله آشور مجنحا ويحمل قوسا ومحاطا بقرص الشمس.
وارتبطت الشمس أيضا بالأسد منذ بداية ظهور الرموز الفلكية قبل تولي آشور بانيبال العرش بآلاف السنين. ويقول ألكسندر كريب، الباحث في القصص الشعبية: “الارتباط بين إله الشمس والأسد ينعكس في علم الأبراج الفلكية الذي تعود نشأته بلا شك إلى بلاد الرافدين”.
وبالنظر إلى جدارية صيد الأسود من منظور القرط، سيتضح أنها لا تؤرخ فقط لحملة واحدة للقضاء على وحش دائم، بل تجسد أسطورة أبدية، تحول فشل الملك في هزيمة الأسود للأبد إلى انتصار باهر. وعندها ستتكشف المعاني الرمزية المقصودة التي تنطوي عليها تفاصيل هذه الجدارية القديمة واحدة تلو الأخرى، مثل رأس الأسد الصغيرة المحفورة في طرف قوس آشور بانيبال والأساور المنقوش عليها رأس أسد التي تطوق أذرع مرافقيه.
فالصياد والفريسة يعرّفان بعضهما بعضا، فهما ترسان في محرك البقاء الأبدي. وقد كان لزاما على النحات تعظيم الأسد لإبراز قوة الملك. فالحياة نفسها تعتمد على الصراع، مهما بلغت المعركة بينهما من دموية. إذ توضح هذه الجداريات أن الأسد مرآة عاكسة للملك.
[ad_2]
Source link