الفضاء: كيف تحول يوري غاغارين إلى “أداة دعائية” للاتحاد السوفيتي؟
[ad_1]
- ستيفن داولينغ
- بي بي سي
يدحض مظهر رائد الفضاء السوفيتي يوري غاغارين وشخصيته الانطباع الصارم الذي كان يُكوِّنه الغرب عن الاتحاد السوفيتي السابق، فقد كان ذا شخصية ودودة ساحرة، ترتسم على وجهه ابتسامة حاضرة على الدوام، مما جعل أول إنسان ينطلق إلى الفضاء، أداة دعائية فعالة.
كانت الابتسامة هي التي حسمت الأمر. الحديث هنا يتناول المنافسة، التي دارت بين أول مجموعة من طياري سلاح الجو السوفيت، في النصف الثاني من القرن الماضي، لكي يُختار من بينهم أول رائد فضاء على الإطلاق. المجموعة كانت تتألف من 20 طيارا، وضمت شبانا سجلوا أسماءهم في ما بعد في تاريخ ارتياد الفضاء.
فقد كان من بين هؤلاء، جيرمان تيتوف، الذي لا يزال يحتفظ بلقب أصغر من شارك في رحلة فضائية على الإطلاق، إذ قام برحلته الأولى في السادسة والعشرين من عمره، وكذلك أليكسي ليونوف، أول شخص يسبح في الفضاء، بعدما ترك كبسولته الآمنة، في إحدى رحلاته للقيام بإحدى المهام خارجها.
رغم ذلك لم يكن لأي منهما، قصب السبق، في أن يكون أول بشري ينطلق إلى الفضاء. فالمعايير التي وضعها المسؤولون السوفيت لمن ستُسند له هذه المهمة، لم تكن تقتصر على امتلاك رائد الفضاء المستقبلي المهارات الفنية، التي تضمن له القيام بعمل لم يسبقه إليه أحد والعودة سالما إلى الأرض دون أن يتمزق أشلاء. فقد تضمنت كذلك ضرورة أن يتحلى من سيُختار لذلك بشخصية هادئة وواثقة كذلك.
هنا تحديدا جاء دور ابتسامة يوري غاغارين، التي قيل إنها كانت قادرة على أن تذيب أكثر القلوب قسوة. ولم يكن المسؤولون في أعلى مستويات السلطة بالاتحاد السوفيتي السابق، استثناءً من ذلك. ولذا فعندما التقى سيرجي كاراليف، كبير المسؤولين عن تصميم الصواريخ في الاتحاد السوفيتي، للمرة الأولى مع الطيارين العشرين الذين دُرِّبوا على السفر في الفضاء، قضى الجانب الأكبر من وقته معهم، في الحديث إلى غاغارين ذي الشخصية الجذابة، والذي لقَّبَه كاراليف نفسه بعد ذلك بـ “نسري الصغير”.
وفي 12 أبريل/نيسان 1961، انطلق غاغارين في رحلته الفضائية التاريخية على متن مركبة الفضاء “فوستوك 1″، وذلك في مهمة لم تستمر سوى ساعة و48 دقيقة، وهو ما يقل كثيرا عن متوسط مدة أي من الأفلام السينمائية، التي يمكنك أن تشاهد إحداها اليوم، في دور العرض متعددة الشاشات. المفارقة أن البنية الضئيلة لغاغارين وقوامه القصير، أثبتا فائدتهما في إنجاح مهمته كذلك.
فقد كان طوله الذي لم يتجاوز 155 سنتيمترا مثاليا، لكي يتمكن هذا الرجل، الذي كان قد سبق له أيضا العمل في سبك المعادن، من أن يجد لنفسه مكانا في الجزء الداخلي الضيق من المركبة، التي انطلقت من مركز بايكونور الفضائي، الذي يقع الآن في كازاخستان. وتمثلت نقطة انطلاق الرحلة في كلمة همس بها غاغارين بجذل قائلا “فننطلق”. وبعد أقل من ساعتين، عادت المركبة إلى كوكبنا، وحطت قرب مدينة إنجلز غربي روسيا. أما غاغارين نفسه، فقد هبط بعد ذلك بدقائق على الأرض بواسطة مظلة.
وتمثل شهود هذه اللحظة التاريخية، في مُزارِعة وحفيدتها رأتا الكبسولة الفضائية ذات الشكل الدائري، وهي تقترب ببطء من الأرض، قبل أن تتلقيا التحية من جانب غاغارين، وهو لا يزال يرتدي سترته الفضية. وفي ما بعد كتب رائد الفضاء الروسي الراحل تفاصيل ما حدث قائلا: “قلت لهما، لا تخافا، أنا سوفيتي مثلكما، لكنني هبطت من الفضاء، ويتعين عليّ العثور على هاتف للاتصال بموسكو”. وفي غضون أسابيع قليلة من ذلك اليوم البعيد، أصبح وجه هذا الرجل، أحد أشهر الوجوه في العالم بأسره.
وبعدما أصبح غاغارين أول إنسان يغزو الفضاء، اختار المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم وقتذاك في الاتحاد السوفيتي السابق، له مهمة أخرى، وهي “غزو العالم”. فقد علمت قيادة هذا البلد أن نجاح تلك المهمة الفضائية الأولى، سيجعل من قام بها وجها معروفا في شتى أنحاء المعمورة، ما حوّل غاغارين إلى أحد “أسلحة القوة الناعمة”.
في بادئ الأمر، أسدل السوفيت ستارا من السرية على مهمة غاغارين، حتى عاد بسلام إلى الأرض، ثم أذاعوا أنباء الرحلة على نطاق واسع، من خلال وكالة الأنباء السوفيتية الرسمية (تاس)، ما أحدث موجة من الصدمة في مختلف أنحاء العالم، خاصة في الولايات المتحدة، التي كانت تحاول أن تتفوق على الاتحاد السوفيتي السابق، في إرسال أول رحلة مأهولة إلى الفضاء.
وفي تقرير أعدته وكالة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) عن مهمة غاغارين، سردت الوكالة تفاصيل اللحظات الأولى لوصول الأنباء الخاصة بها إلى الولايات المتحدة قائلة: “في نحو الساعة الرابعة صباحا، بدأت أجراس الهواتف تدق على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، إذ كان الصحفيون يريدون الحصول على ردود من مسؤولي ناسا على التقرير الذي بثته تاس”. وبحسب تقرير ناسا، رد أحد مسؤولي الوكالة وهو نصف واعٍ على من كان يسأله قائلا: “كلنا هنا نائمون”، ما حدا بإحدى كبريات الصحف الأمريكية، لأن تصدر في وقت لاحق من اليوم نفسه، وعلى صفحتها الأولى عنوان يقول: “السوفيت يضعون رجلا في الفضاء ومتحدثٌ يقول إن أمريكا نائمة”.
في هذه المرحلة، كان غاغارين مجرد اسم لشاب كان في السابق طيارا مغمورا في سلاح الجو السوفيتي. لكنه تحول بين عشية وضحاها، إلى شخص تُدَق له الطبول، باعتباره أول مستكشف للفضاء في العالم كله. وقد كُشِفَت هويته للمرة الأولى في 14 أبريل/نيسان، أي بعد يومين من عودته للأرض، وذلك خلال تجمع حاشد أُقيم في الميدان الأحمر في موسكو، عقب موكب جاب المدينة، وقطع مسافة بلغت 10 كيلومترات (12 ميلا)، بحضور ملايين المواطنين السوفيت.
ويقول توم إليس، الأستاذ المتخصص في تاريخ الحرب الباردة في كلية لندن للاقتصاد، إن الزعيم السوفيتي في ذلك الوقت نيكيتا خروتشوف، قال قبل هذه الاحتفالية إنها لن تكون “مُعدة مسبقا أو منظمة، بل ستكون عفوية”. وقد كان ذلك ما حدث فعلا، وفقا لما يقوله إليس، الذي يشير إلى أن هناك “صورا مذهلة التُقِطَت خلالها لعمال وطلاب يرقصون معا”. ويُعتقد أن الاحتفالات التي أُقيمت لغاغارين لدى عودته إلى الأرض، كانت الأكبر من نوعها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، قبل ذلك بـ 16 عاما.
بُعيد هذه الاحتفالات، سرعان ما تجلت الجاذبية الشخصية التي كان يتمتع بها غاغارين وكذلك ابتسامته الحاضرة. فقد انهالت عليه الدعوات لزيارة الكثير من الدول في شتى أنحاء الأرض. ويقول إليس إن الحشود كانت تستقبل ذلك الرجل أينما حل “حتى في المملكة المتحدة، التي كانت تصطف بوضوح داخل المعسكر الأمريكي. ومن العسير علينا للغاية أن نفهم الآن أسباب هذا الاهتمام. فالناس وقتها كانوا لا يريدون، سوى إلقاء نظرة عليه”.
وقد كانت الجذور المتواضعة لغاغارين، بمثابة هبة من السماء لآلة الدعاية السوفيتية. فقد وُلِدَ لأسرة من المزارعين في قرية صغيرة قريبة من مدينة سمولينسك غربي روسيا. وعندما كان أول رائد فضاء في العالم في السابعة من عمره، غزت القوات الألمانية قريته، ما أدى إلى إجلاء أسرته من منزلها، لتُضطر إلى قضاء الشهور الـ 21 التالية في كوخ طيني. وخلال تلك الفترة، خرّب يوري الطفل المعدات الألمانية، وكان سعيد الحظ لنجاته بحياته، من القتال الذي دار في تلك الآونة، رغم أنه قضى شهورا طويلة في المستشفى. ومع أنه كان طالبا موهوبا، خاصة في الهندسة والرياضيات، فإنه لم يكن “دودة كتب” كما يُقال، إذ تميز أيضا في الألعاب الرياضية، وعمل في مسبك للمعادن خلال فترة الدراسة.
وبعد تخرجه طيارا حربيا، قاد مقاتلات من طراز “ميغ” في أقصى شمال روسيا، قرب الحدود مع فنلندا. وحظي بفرصة لأن يكون واحدا من بين أول 20 طيارا حربيا، اختيروا ليُكوِّنوا أول مجموعة من رواد الفضاء السوفيت، وذلك من بين مئات ممن تقدموا لخوض غمار هذا المجال.
وبعد ثلاثة شهور من قيامه برحلته الفضائية التاريخية، زار غاغارين المملكة المتحدة، وذلك في خطوة كانت مُحاطة بالحذر الشديد في بادئ الأمر. فقد حرصت بريطانيا، الحليف البارز للولايات المتحدة، على تجنب أي تعقيدات سياسية يمكن أن تكتنف هذه الزيارة، رافضة أن تعتبرها “زيارة دولة”، رغم وجود وفد رسمي يرافق غاغارين خلالها. وقد بوغتت السلطات البريطانية على الأرجح، بما اكتست به زيارة غاغارين من إثارة. فقد وجهت نقابة لعمال المسابك في مدينة مانشستر دعوة لرائد الفضاء السوفيتي لزيارتها، وذلك تكريما لعمله السابق في هذا المجال. وقد قبل غاغارين الدعوة، ما أدى لتمديد فترة مكوثه في بريطانيا. وتخللت زيارة غاغارين إلى مانشستر لحظة شهيرة للغاية، حينما بقي في السيارة مكشوفة السقف، التي كان يجلس فيها في إحدى شوارع المدينة رغم بدء تساقط الأمطار، قائلا إنه يفعل ذلك “لأن هؤلاء الناس جاءوا لرؤيتي”.
وقد تزامنت الجولة التي قام بها غاغارين حول العالم، مع مرور العلاقات بين الشرق والغرب، بمرحلة دقيقة. فقد سبقت بشهور قليلة بناء جدار برلين، كما أنها بدأت قبل بضعة أيام، من إحباط محاولة مدعومة أمريكياً لغزو كوبا، عُرِفَت باسم “خليج الخنازير”. وبعد عام من الجولة، وقعت أزمة الصواريخ الكوبية، التي وضعت العالم على شفا مواجهة نووية، وذلك أكثر من أي وقت مضى. وفي غمار كل هذه التوترات، شَكَلَّت زيارات غاغارين لحظة نادرة للاحتفال، وكذلك وسيلة محتملة لتحقيق انفراجة بين القطبين الأكبر في العالم وقتذاك.
ويقول غوربير سينغ، الصحفي المتخصص في شؤون الفضاء الذي سبق له تأليف كتاب عن زيارة يوري غاغارين للمملكة المتحدة، إن “غاغارين اعتُبِرَ بطلا خارقا” خلال هذه الزيارة، في ضوء “أنه خَبُرَ ما لم يَخْبُرُه أحد قبله. فبخلاف السرعة والارتفاع القياسييْن اللذيْن وصل إليهما.. دلف هذا الرجل إلى عالم مختلف؛ قوامه الفضاء والجاذبية الضئيلة وانعدام الوزن، وهو شيء لم يمر به أحد من قبل على الإطلاق، بل وظل أمرا عصيا على أي إنسان آخر، لعدة شهور تالية”.
فرغم أن إطلاق القمر الصناعي السوفيتي “سبوتنيك 1” في عام 1957، كان قد أثار موجة من الذعر في دول الغرب التي اعتبرت ذلك دليلا على وجود ترسانة من الصواريخ الباليستية لدى موسكو، فإن هذا الحدث لم يشكل قط – كما يقول سينغ – “مهمة تاريخية”، نظرا لأن ذلك القمر الصناعي احترق في الغلاف الجوي بعد نحو ثلاثة أشهر من إطلاقه. أما غاغارين فقد شَكَل أمرا مختلفا، إذ “كان شخصا، وإنسانا، وشخصية مبهجة بشدة.. لقد بدا ودودا وجذابا للغاية. يُضاف إلى كل ذلك تلك الابتسامة التي يتذكرها كل من تحدثت معهم” ممن قابلوه خلال زيارته لبريطانيا.
من جهة أخرى، بوغتت المؤسسة الحاكمة في بريطانيا بشعبية غاغارين. ويقول سينغ إن ذلك قاد على ما يبدو إلى ترتيب لقاءين له مع الملكة إليزابيث الثانية ورئيس الوزراء في ذلك الوقت هارولد ماكميلان، رغم أن ذلك لم يكن محتملا، حينما بدأ الترتيب للزيارة. ويضيف سينغ أن الأمر كله كان مربكا للغاية بالنسبة للحكومة البريطانية، إذ كان يتعين عليها “أن تُقر بذلك الإنجاز العلمي، في ضوء أن (ما فعله غاغارين) مَثَلَّ إنجازا ضخما على هذا الصعيد، ونموذجا لشجاعة هذا الإنسان. وقد كانت هذه مغامرة شديدة الخطورة” من جانبها.
وقد تبين في ما بعد، أن غاغارين، كان محظوظا لأنه لم يهلك خلال مهمته الفضائية التاريخية. ولا يعود ذلك لمخاطر كانت مرتبطة بالسفر الفضائي، ولكن للمتاعب التي واجهها خلال العودة إلى الأرض. فكبسولة إعادته إلى كوكبنا، لم تنفصل على النحو المقرر عن المركبة الفضائية، التي كانت تدور في المدار. ولذا ظلت المركبتان تدوران بعنف، حتى تلاشى ما كان يربطهما من كوابل وأسلاك. وعندها فقط تمكن غاغارين من أن يقذف بنفسه من الكبسولة، وأن يعود إلى الأرض بأمان. لذلك، أقر الجميع في الغرب بأن ما حدث شَكَلَّ إنجازا ضخما للاتحاد السوفيتي.
ويشير سينغ إلى أن ذلك “وضع كبار الساسة في المملكة المتحدة في موقف محرج للغاية. فقد أرادوا، من ناحية، الإقرار بالإنجاز العلمي الكبير الذي حققه الاتحاد السوفيتي، لكنهم لم يكونوا راغبين في الوقت نفسه، في إثارة غضب الحلفاء عبر المحيط الأطلسي. ففي ذلك الوقت، كان برنامج الفضاء الأمريكي، يعاني الأمريْن للحاق بالركب. في نهاية المطاف، كان هناك حل وسط ما، تمثل في ألا تكون دعوة غاغارين لزيارة المملكة المتحدة، موجهة من الحكومة البريطانية، ولكن من جهات متعددة وأشخاص مختلفين، من بينهم عمدة مدينة نيوكاسل مثلا”. كما مَثَلَّ معرض يروج للاتحاد السوفيتي كانت فعالياته قد بدأت في بريطانيا قبل يوم واحد من وصول غاغارين، ذريعة أخرى ملائمة لقيامه بالزيارة.
ورغم أن غاغارين كان قد زار قبل هذه الرحلة؛ العاصمة الفنلندية هلسنكي وكذلك براغ عاصمة ما كانت تُعرف حينذاك بتشيكوسلوفاكيا، فإن زيارته للندن شَكَلَّت ذروة جولته حول العالم، نظرا لأنها كانت تمثل “عاصمة الرأسمالية الغربية”.
ويعتبر توم إليس أن غاغارين المبتسم دائما، مَثَلَّ “الوجه الأكثر جاذبية للشيوعية. فقد كان شخصية جذابة بحق. وكان يجسد الاتحاد السوفيتي والرحلة التي مر بها هذا البلد. فالحرب عكرت صفو طفولة هذا الرجل، وتحول من ابن لمزرعة جماعية، إلى نجم في غضون 27 عاما لا أكثر. وهو أمر يشابه ما فعله الاتحاد السوفيتي كذلك”. وعندما حضر والداه الاستعراض الذي شهده الميدان الأحمر احتفاءً به، قيل لهما إن يحرصا على ارتداء ثياب بسيطة، لأن ذلك يعزز بشكل أكبر، نموذج “من نجار إلى رائد فضاء”، الذي كان يريد كبار مسؤولي الحكومة السوفيتية تقديمه لمواطنيهم.
ويقول إليس إن هذا التمجيد لجذور غاغارين المتواضعة، كان أمرا أعمق من مجرد صراع إرادات بين الشرق والغرب. فقد شكلت السنوات الأولى من عقد الستينيات من القرن الماضي، فترة تغير عالمي هائل، في ضوء نيل الكثير من المستعمرات السابقة استقلالها في ذلك الوقت بعد طول انتظار. ويشير إليس إلى أن مآثر غاغارين وكذلك الإنجازات السوفيتية الأخرى الأوسع نطاقا، شَكَلَّت “نموذجا للتنمية” بالنسبة للكثير من الدول النامية حديثة الاستقلال. فقد كان ذلك بمثابة “رسالة جوهرية يوجهها السوفيت لهذه الدول مفادها`انظروا، لقد مررنا بما مررتم به، كنا متخلفين تكنولوجيا، ونجحنا في المضي قدما، والوصول إلى الفضاء في فترة زمنية محدودة”.
ومن هذا المنطلق، أصبح غاغارين – الثرثار المبتسم على الدوام – وجها إعلاميا هادئا يبعث مرأه الراحة في النفوس، معبرا عن شيء أخر أكثر أهمية، وهو امتلاك الاتحاد السوفيتي قاعدة تكنولوجية وصناعية ضخمة، تمكنت من تصميم صاروخ وتصنيعه، وإرسال بشري من خلاله إلى الفضاء.
وقد كانت زيارة مقر الأمم المتحدة في نيويورك من بين محطات جولة غاغارين حول العالم. لكنه لم يطأ تقنيا الأراضي الأمريكية، لأنه نُقِل من المطار إلى مقر المنظمة الأممية على متن مروحية. كما شملت الجولة دولا، كانت قد نالت استقلالها حديثا أو منذ فترة ليست بالبعيدة، مثل الهند وسريلانكا وأفغانستان.
وعلى عكس غالبية أبناء جيله من رواد الفضاء، مثل أليكسي ليونوف الذي فارق الحياة عام 2019 عن عمر ناهز 85 عاما، تم “تجميد وتثبيت” صورة غاغارين في الأذهان في الوقت المناسب. إذ أنه لم يَشِخْ قط، مثله مثل التماثيل واللوحات التي اختاره فنانوها موضوعا لها. ولعل الحديث عن ذلك، يدعونا للعودة إلى الفترة التي تلت انتهاءه من جولته الدولية، إذ اختير غاغارين بعد ذلك نائبا لمدير مركز جديد لتدريب رواد الفضاء في بلاده. حينذاك، أدت الشهرة المفاجئة التي حظي بها والضغوط الناجمة عن المهام الدبلوماسية التي أُلقيت على عاتقه، إلى إضفاء التوتر على علاقته مع زوجته، وسط شائعات عن إقدامه على خيانتها وإفراطه في معاقرة الخمور. ووصل الأمر إلى أن يقول البعض إنه اضطر ذات مرة لأن يقفز من نافذة أحد المنازل، بعدما ضبطته زوجته في الفراش مع امرأة أخرى.
بعد ذلك، ركز غاغارين جهوده لكي يصبح لائقا بدنيا بما يكفي، للعودة إلى رحلات الفضاء. وكان أول دور يُناط به في هذا الصدد، أن يصبح الطيار الاحتياطي لأولى مهام المركبة “سويوز” في أبريل/نيسان 1967. لكن المهمة انتهت بكارثة، أودت بحياة فلاديمير كوماروف صديق غاغارين. ولم يحل منع السلطات السوفيتية لغاغارين من المشاركة في أي رحلات فضائية بعدها، دون أن يبقى مصرا على الطيران على متن طائرات نفاثة لساعات، تكفي لإبقائه على قائمة مدربي الطيران الموثوق بهم. وفي مارس/آذار 1968، وخلال إحدى رحلاته الجوية هذه على متن طائرة من طراز “ميغ 15″، لقي غاغارين حتفه، جراء حادث لا يزال محاطا بالكثير من الجدل، والتفسيرات ذات الصلة بنظرية المؤامرة، ليفارق الحياة في غابة على مشارف موسكو، وهو لم يتجاوز 34 عاما من العمر.
ويُعقّب إليس على ذلك بالقول: “حينما مات؛ بدأ كل شيء يسير في الاتجاه الخاطئ بالنسبة للاتحاد السوفيتي. فقد توفي كاراليف (كبير المسؤولين عن تصميم الصواريخ في هذا البلد). ثم قطع الأمريكيون خطوات إلى الأمام، بفضل الصاروخ `ساترن 5` (الذي أوصلهم في نهاية المطاف إلى القمر). وقتذاك عَلِمَ السوفيت بأنهم في ورطة”.
ويخلص إليس إلى القول إن “منزلة غاغارين ومكانته أنقذتا البرنامج الفضائي الروسي، وحالتا دون أن يطغى عليه نظيره الأمريكي.. فقد كُرِسَت صورته كبطل. وعندما زار نيل أرمسترونغ الاتحاد السوفيتي، تجمهرت حوله الحشود التي كانت سعيدة بالفعل بمرآه. واعتقدت ناسا أن السبب في ذلك، ربما كان يتمثل في أنه كان يشبه غاغارين إلى حد ما”.
[ad_2]
Source link