قصة لاجئة إثيوبية قتلت بعد أن أعادت الحياة إلى بلدة إيطالية
[ad_1]
- فيتوريا ترافيرسو
- بي بي سي
استطاعت لاجئة سياسية استقرت في جبال دولوميت الإيطالية بمفردها أن تسهم في إحياء بلدة كانت على وشك الاندثار وإنقاذ سلالة من الماعز مهددة بالانقراض.
(قتلت أغيتو إيديا غوديتا في حادث مأسوي بعد كتابة هذا المقال، ووافقت عائلتها على نشره في بي بي سي تخليدا لذكراها).
تتألف بلدة فراسيلونغو الرابضة في أحضان جبال دولوميت شمال شرقي إيطاليا ويبلغ عدد سكانها 350 نسمة، من مجموعة من الأكواخ المتشبثة بسفوح التلال شديدة الانحدار التي تشكل جزءا من جبال الألب الإيطالية الشمالية المغطاة بالثلوج.
ويكتنف هذه البلدة الصغيرة وادي موكيني، الذي استمد اسمه من سكانه الأشداء الذين يعيشون فيه منذ تسعة قرون ويتحدثون لغة الموكينو الجرمانية التي تعود للعصور الوسطى، ويبلغ عددهم 1,900 نسمة. ويحمل الوادي واللغة نفس الاسم الذي يطلق على سلالة الماعز التي تستوطن هذه الجبال، ماعز الموكينو.
ولا يزال سكان هذا الركن القصي من أوروبا متمسكين بثقافة مميزة تجمع ما بين الإيطالية والجرمانية تبدو مظاهرها واضحة في أنحاء الوادي.
رغم ذلك، عندما وطأت قدما أغيتو إيديا غوديتا هذه المنطقة الجبلية بعد وصولها من إثيوبيا قالت إنها لم تشعر بالغربة.
وقالت غوديتا: “ذهلت من شدة جمال هذه المنطقة البرية الأخاذة، فهذا الوادي واحد من الوديان القليلة البكر التي لم تعبث بها يد البشر بعد في إقليم ترينتينو”.
وكانت غوديتا تمتلك مزرعة “الماعز السعيدة”، التي حازت على جائزة في قرية فراسيلونغو، التي تبعد 20 كيلومترا عن مدينة ترينتو عاصمة الإقليم.
وقد ظل سكان وادي موكيني لقرون يعيشون حياة ريفية بسيطة، ويعتمدون على الزراعة والتعدين والتجارة مع الوديان المجاورة. لكن الازدهار الاقتصادي الذي شهدته إيطاليا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أغرى الكثير من سكان الوادي للسفر إلى المدن بحثا عن فرص عمل والتخلي عن مزارعهم في جبال الألب.
وتراجع عدد سكان بلدة فراسيلونغو بمقدار النصف تقريبا على مدى السنوات الخمسين الماضية، وهجر معظم السكان أراضيهم الزراعية، وكانت مزرعة “الماعز السعيدة” أول مشروع يُدشن في القرية منذ 30 عاما.
والآن أصبحت المزرعة أحد المعالم القليلة التي تظهر على موقع “خرائط غوغل” عندما تبحث عن قرية فراسيلونغو، وذاعت شهرة المزرعة إلى درجة أن الكثير من سكان إقليم ترينتينو وإقليم ساوث تيرول المجاور يأتون خصيصا للبلدة بحثا عن منتجاتها.
وعلى غرار المستوطنين الأوائل للوادي، الذين انتقلوا من جنوبي ألمانيا إلى وادي موكيني في القرن الثاني عشر، وصلت غوديتا إلى الوادي بحثا عن أراض لتفتح فيها صفحة جديدة من حياتها. وقد تربت غوديتا في كنف عائلة من الرعاة الرحل في أديس أبابا، وأجبرت على الفرار من موطنها في عام 2010 عندما أصدرت الحكومة قرارا باعتقالها بعد أن دعت مزارعين من قريتها للتظاهر احتجاجا على استيلاء الحكومة على أراضيهم.
وقالت غوديتا: “تستحوذ الشركات متعددة الجنسيات التي تصدّر محاصيلها الزراعية للخارج، على ثمانين في المئة من الأراضي الزراعية في إثيوبيا، وعندما سمعت أن الحكومة تنوي الاستيلاء على المساحة المحدودة من الأراضي المتبقية للمزارعين، نظمت احتجاجات شعبية”.
وعندما واجهت غوديتا مخاطر الاعتقال، قررت مغادرة موطنها. وقد ساعدها أصدقاؤها الذين تعرفت عليهم أثناء الدراسة في جامعة ترينتو في مطلع الألفية الثالثة على الاستقرار في إيطاليا.
وسمعت غوديتا عن ماعز موكينو المهددة بالانقراض للمرة الأولى أثناء دراستها في الجامعة. وتتميز هذه الماعز سوداء العينين بجلدها الأبيض والأسود وقرونها المنحنية، وكانت في الماضي تنتشر في أنحاء الوادي.
ويقول ليو تولر، أمين متحف بالمركز الثقافي لوادي موكيني: “كانت العائلات تربي الماعز للحصول على الصوف والحليب لصناعة الزبد والجبن”.
ويقول تولر إن ماعز موكيني تعد جزءا أصيلا من الحياة في وادي موكيني، وشكلت أنماط رعيها التنقلات الموسمية لسكان الوادي. فقد كان الرعاة يقودون قطعانهم من الماعز إلى المراعي أعلى الجبل صيفا ثم ينزلون إلى الوادي شتاء. لكن ممارسات الترحال الرعوي اندثرت بعد انتشار نظم التربية المكثفة للحيوانات وتزايد الهجرة إلى المدن في أعقاب الحرب العالمية الثانية، علاوة على عزوف الكثير من الرعاة عن تربية ماعز موكيني لأنها تنتج حليبا أقل من سلالات الماعز الأخرى.
وفي عام 2005، أشار تقرير إلى أن عدد ماعز موكيني المتبقي لم يتجاوز سبعة رؤوس، وكانت السلالة مهددة بالانقراض. لكن بعد أربع سنوات، أسس مجموعة من الرعاة في الوادي جمعية “رعاة ماعز موكيني”، التي لا تهدف للربح، وأسهمت جهودها في زيادة أعداد ماعز موكيني، التي قد تلد مرتين سنويا.
وتقول غوديتا: “عندما سمعت من صديق عن جهود إنقاذ ماعز موكيني التي يشارك فيها، قررت أن أربي بضعة رؤوس من الماعز في عام 2010”. ولكونها نشأت وسط رعاة ماعز رُحل، فقد شعرت أنها يمكن المساعدة في هذه الجهود من باب رد الجميل لوطنها الجديد.
وأتاح لها قانون يسمح للمواطنين باستغلال الأراضي المهجورة لأغراض الرعي أو الفلاحة، تأمين مرعى لقطيعها المكون من 15 رأس ماعز.
وكانت غوديتا تستيقظ يوميا في السادسة صباحا وتسير مع قطيعها لمدة أربع ساعات في الحقول على بعد 56 كيلومترا من فراسيلونغو، وبعدها تتسلم العمل في مقهى بالقرب من بلدة موري المجاورة. وبعد أن أدخرت بعض المال، قررت نقل قطيعها إلى وادي موكيني في منطقة بالقرب من قرية فراسيلونغو.
وتقول غوديتا إن معظم الرعاة في المنطقة اعتادوا على تربية سلالات عالية الإنتاجية من الماعز داخل المزارع، حيث تتغذى على العلف الاصطناعي لزيادة إنتاج الحليب. لكن طرق الرعي التي تعلمتها غوديتا من جدتها كانت فعالة في تحسين إنتاجية هذه السلالة الإيطالية المهددة بالانقراض.
وتقول غوديتا: “الرعاة الرُحل لا يحبسون الماعز داخل المزارع، ولا يطعمونها إلا الأعشاب في الحقول، ولم أستخدم قط علفا اصطناعيا وكنت أترك القطيع يرعى في بيئته الأصلية”.
وبفضل الأعشاب البرية المغذية والمياه الجوفية الوفيرة وضمان حصول القطيع على الراحة، تحسنت صحة الماعز وباتت تدر كميات كبيرة من الحليب. وفي عام 2012، قررت غوديتا أن تبيع جبن كاشيوتا الطري معتدل المذاق، والزبادي وغيرها من منتجات الألبان، التي كانت تصنعها لاستهلاكها الشخصي، في السوق.
ودرست القوانين المنظمة لممارسة الأنشطة التجارية في إيطاليا وتقدمت بطلب للحصول على ترخيص لتدشين مزرعة ألبان، لكن سرعان ما اصطدمت طموحاتها بجدار التقاليد المحلية.
ففي هذا المجتمع المتجانس عرقيا، الذي يحدد الأدوار التي ينبغي أن يضطلع بها الرجال والنساء، فإن فكرة وجود امرأة إثيوبية تعمل بمجال تصنيع الجبن كان مثار دهشة للبعض.
وتقول غوديتا: “كان الناس ينظرون لي باستغراب، ولم يخطر ببالهم أن المرأة قد ترعى الغنم”.
وبعد استيفاء الشروط المنصوص عليها في قوانين المنطقة البيروقراطية، استطاعت غوديتا التي تتحدث الإيطالية بطلاقة وتتقن لهجة ترينتينو، أن تحصل على التراخيص اللازمة لتدشين مزرعتها.
وبمبلغ 200 يورو فقط وبمساعدة متدرب، شرعت في تصنيع الجبن في مخزن دار حضانة أغلقت أبوابها منذ سنوات لنقص التلاميذ ببلدة فراسيلونغو.
وأطلقت على مزرعتها اسم “الماعز السعيدة”، فالماعز في مزرعتها ترعى في مساحات شاسعة ولا تتغذى على العلف الاصطناعي وتتلقى معاملة خاصة، فلكل منها اسم خاص بها بحسب شخصيتها.
ودربت غوديتا مهاجرا من مالي ولاجئا من غامبيا وعينتهما راعيان للماعز، لإتاحة الفرصة لشخصين فرّا مثلها من بلادهما لأسباب سياسية أو اقتصادية.
وحظت غوديتا باحترام جميع سكان القرية حتى أكثرهم خوفا من الغرباء. ويقول تولر، إن لبن ماعز موكيني مكون أساسي في مطبخ وادي موكيني، ويُستخدم في تحضير الكثير من الأطباق التي تعود لقرون عديدة.
وباستخدام أساليب تصنيع الجبن التي تعلمتها من سكان الوادي ومن أهلها في إثيوبيا، استطاعت غوديتا أن تصنع نفس الجبن الذي يستخدمه سكان وادي موكيني في أطباقهم منذ قرون، بالاعتماد على الحليب غير المبستر ومنفحة الجبن والملح.
وكثيرا ما كانت تضيف إلى جبن كاشيوتا وجبن غورغونزولا الزرقاء أعشابا، مثل الزعتر والثوم البري لتضفي عليها مذاقا موسميا مميزا.
وفي عام 2015، نالت جائزة تمنحها مؤسسة “سلو فود” لصانعي الجبن الذين يمارسون الأساليب التقليدية في تحضير الجبن. ووصف برونو غروف، عمدة فراسيلونغو حتى عام 2020، مزرعة غوديتا بأنها: “مبهجة ومختلفة وتثبت أنه لا شيء مستحيل”.
لكن نجاح غوديتا لم يلق ترحيبا من بعض السكان. فقد اعتدى أحد سكان الوادي على غوديتا والراعيين الأفريقيين في مزرعتها أكثر من مرة في عام 2018.
وتقول غوديتا: “بينما كنت متجهة نحو المرعى سمعت رجلا يصيح قائلا ‘عودوا إلى وطنكم'”. وكانت تظن أنها مجرد حادثة فردية، لكن الاعتداء اللفظي سرعان ما تطور إلى تعدٍ على الممتلكات، أسفر عن مقتل رأسين من الماعز وتحطيم سيارتها. وصدر حكم بحق الجاني بعد أن سجلت غوديتا مقطع فيديو للواقعة.
وعندما ذاع نبأ الاعتداءات، تضامن معها الكثير من السكان على مواقع التواصل الاجتماعي ومحطات الإذاعة، وأدان غروف الحادث ودافع عن غوديتا على الملأ.
وتقول غوديتا: “أتردد على ترينتينو منذ 20 عاما، ولم أتعرض لاعتداءات من هذا النوع قط”.
وتقول كلوديا ماركيسوني، أمينة متحف بمركز موكينو الثقافي: “إن مجتمع موكينو يتعامل مع غوديتا دائما بسعة صدر واحترام بسبب نجاحها الملهم وعملها الشاق”.
وأصبحت غوديتا جزءا من المجتمع، وكانت تبيع الجبن ومستحضرات تجميل من لبن الماعز في متجرها في قرية فراسيلونغو وفي الأسواق بإقليم ترينتينو. وكانت تستضيف الطلاب المهتمين بتعلم الممارسات العضوية في الرعي، وتنظم ورش عمل للأطفال من الوادي عن طرق الزراعة التقليدية. وكانت تنوي إقامة نزل للمبيت في المزرعة.
وكانت تأمل أن يتعلم الزوار، من خلال الإقامة في أكواخ تعتمد على الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء والمشاركة في ورش عمل عن تصنيع الجبن وحضور دروس الطهي، الممارسات التي لا تهدر الموارد الطبيعية لتشجعهم على اتباعها.
لكن القدر لم يمهل غوديتا لتحقيق أحلامها.
إرث غوديتا
بعد كتابة هذه السطور، قُتلت غوديتا على يد أحد الموظفين بالمزرعة الذي أقر بارتكابه الجريمة لأسباب اقتصادية.
وكان نبأ وفاة غوديتا صادما للملايين، وتصدر الخبر عناوين جميع الصحف الإيطالية الكبرى مصحوبا بصورها مع الماعز. وعجز الكثيرون عن استيعاب صدمة مقتل غوديتا في هذا الوادي الذي لا يكاد يشهد جرائم قط.
ويقول فرانكو لانيسيلي، عمدة ترينتو: “سمعنا بالخبر بينما كنا في اجتماع بمجلس المدينة، وعجزنا عن مواصلة الكلام”. وبعد يومين من مقتلها، تجمع الآلاف في ميدان ترينتو العام في مسيرة بأضواء المصابيح.
وذكر أحد السكان على إحدى القنوات المحلية: “من الصعب أن تجد مسيرة بهذا الحجم لمقتل سيدة أعمال، لكنها لم تكن بائعة جبن فحسب، بل كانت تعلم الناس حب الحياة”.
وقرر المجتمع ألا يسمح لمقتل غوديتا بأن يطغى على إرثها.
وطفق الملايين من أنحاء العالم ينشرون أشعارا ورسومات ومقاطع فيديو على الإنترنت مستلهمة من حياتها. ولم يكد يمر أسبوع حتى أطلقت مبادرة لجمع التبرعات لتحقيق حلم غوديتا لتربية الماعز المحلية وإقامة نزل للمبيت بالمزرعة، وجُمع حتى الآن أكثر من 110 آلاف يورو.
ويبحث أصدقاؤها المقربون، مثل مانيويلا غوالدي، مستشار الشركات التي لا تهدف للربح، عن طرق قانونية لاستثمار هذا المبلغ في مشروع غوديتا وتحقيق أحلامها.
ويقول لانسيلي: “نبحث عن طرق للإنفاق على مشروعاتها حتى لا تتوقف، وعن سبل لتخليد إرثها”.
ويقول غوالدي: “لم تكن غوديتا تحب شيئا مثل وجود الناس حولها والتحدث عن حبها للحيوانات والطبيعة”.
واقتُرحت مبادرات عديدة لتكريم إرث غوديتا، منها زمالة باسمها تخصص لراعيات الغنم الشابات، وتخصيص يوم عالمي لراعيات الغنم.
ويقول ستيفانو مولتر، رئيس جمعية حفظ ماعز موكيني: “إن عنادها وإصرارها تركا بصمة في مجتمعنا. ففي هذا الوادي، الذي يغادره معظم الشباب بحثا عن عمل في المدن، علمتنا امرأة أجنبية ما الذي يمكن أن نحققه هنا”.
ويقول لانسيلي: “سلط الكثير من المراسلين الأضواء في قصة غوديتا على نجاحها في الاندماج في المجتمع. لكني أعتقد أنها عندما اختارت العيش هنا، كشفت لنا عن إمكانات هذا المكان”.
[ad_2]
Source link