عالمة الفلك التي كشفت أسرار الكون بقانون علمي بسيط
[ad_1]
- ليلى ماكنيل
- بي بي سي
طالما اعتقد البشر أن الكون لا يحتوي سوى على مجرتنا “درب التبانة”، لكن عالمة الفلك الأمريكية هنريتا سوان ليفيت، غيرت هذا الاعتقاد للأبد، اعتمادا على قانون علمي بسيط، ودون أن تحتاج حتى لتلسكوب.
قبل قرن من الزمان، كان الكون يبدو أصغر من الآن بكثير. فالكثير من علماء الفلك كانوا على قناعة بأن الكون يتألف من مجرتنا المعروفة باسم “درب التبانة” ليس إلا، وهو تصور تغير في عام 1923، عندما شيد عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل مرصدا على قمة جبل ويلسون في ولاية كاليفورنيا، ووجه تلسكوب المرصد صوب دوامة حلزونية غامضة متألقة، تبدو من بعيد في السماء حالكة الظلام، وكان يُطلق عليها – وقتذاك – اسم سديم “المرأة المُسلسلة”.
ففي ذلك الوقت، لاحظ هابل أن تلك الدوامة، أبعد من أن تكون جزءا من “درب التبانة”، وأنها ليست مجرد سديم، بل تتألف من تريليون نجم، وتبعد 2.5 مليون سنة ضوئية عن الأرض. اللافت أنه لم يكن سيتسنى لهذا الرجل، إبداء هذه الملاحظة الرائعة، لولا الجهود البحثية التي كانت قد قامت بها في السنوات السابقة لذلك، عالمة الفلك الأمريكية هنريتا سوان ليفيت، دون أن تحتاج حتى، ولو لتلسكوب واحد.
المفارقة أن ليفيت حققت اكتشافاتها في هذا الصدد، عبر توجيه عدساتها المُكبرة لأسفل لا لأعلى، تحديدا صوب لوح زجاجي رقيق مُثبت على إطار خشبي، ومغطى من أحد جوانبه بسطح فوتوغرافي حساس، تتناثر عليه نقاط تمثل آلافا من النجوم. وشكلت هذه النجوم التي كانت تظهر بلون أسود على خلفية بيضاء، صورة معكوسة لمشهد السماء الذي نراه ليلا بالعين المجردة. وكانت هذه هي الطريقة، التي تعرفت بها ليفيت على الكون وتفاصيله.
وفي ذلك الوقت، وتحديدا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت هذه السيدة جزءاً من مجموعة تتألف كلها من النساء، وتعمل في مرصد كلية هارفارد الأمريكية. وعُرِفَت هؤلاء النسوة بمجموعة “العقول الإلكترونية”، ونجحن في اكتشاف عشرات من الكويكبات والسدم والمستعرات، وكذلك آلافا من “النجوم المتغيرة”، التي تُعرف بتباين سطوعها بين التألق والخفوت. وقد لا يبدو غريبا أن تُوصَف ليفيت بـ “الخبيرة البارعة في النجوم المتغيرة”، بالنظر إلى أنها اكتشفت أكثر من 2000 منها بمفردها. وقد أفضى سعيها الحثيث وراء هذه النجوم، إلى أن تنال جائزة أكبر، تمثلت في التوصل إلى طريقة لحساب المسافات عبر الفضاء.
وتمثلت هذه الطريقة في علاقة رياضية كانت تُعرف قديما باسم “نورانية – فترة زمنية”. وتربط هذه العلاقة بين مدى سطوع “النجوم المتغيرة النابضة”، والفترة الزمنية التي تستمر خلالها نبضاتها. وبفضل تلك الطريقة، التي بلورتها ليفيت، تمكن علماء الفلك من حساب المسافات الفاصلة بين المجرات، وتوافرت لهابل المعادلة التي كان يحتاجها لرصد الأجرام والنجوم الواقعة خارج مجرتنا، وما بعدها في الكون الفسيح.
وتقول ويندي فريدمان عالمة الفلك والفيزياء الفلكية في جامعة شيكاغو: “لقد تغير تصورنا عن الكون بالكامل، نتيجة لما اكتشفته هذه السيدة”.
فبعد أن حظي علم الفلك باهتمام ليفيت في عامها الأخير في الدراسة، التحقت هذه الشابة وقتذاك، كمتدربة بمرصد كلية هارفارد في عام 1895، وهي في السابعة والعشرين من العمر. ولم تكن ليفيت تشكل استثناء في هذا الشأن. فقد كانت الأقسام والجهات ذات الصلة بعلم الفلك، تحتفي آنذاك بشدة بالاستعانة بالنساء، لإنجاز المشاريع العلمية الكبرى، التي كانت تدور في أروقتها، وتستلزم تشغيل عدد كبير من العاملين ذوي الأجور الزهيدة. وتزامنت حاجة تلك الجهات إلى هذا النوع من العمالة، مع إنهاء ليفيت وعدد متزايد من قريناتها دراستهن بتقديرات مرتفعة، كما قالت المؤرخة مارغريت روسيتر، التي تناولت في أبحاثها دور المرأة في المجالات العلمية في مطلع القرن العشرين. ورغم تفوقهن، كانت هؤلاء النسوة، يُستبعدن في تلك الفترة، من التدريس في الجامعات، أو تولي مناصب قيادية.
وقد عُينَت ليفيت في هذه الوظيفة، على يد مدير مرصد هارفارد إدوارد بيكرينغ، الذي قاد مشروعا استمر على مدار عدة عقود لرسم ملامح السماء بالكامل خلال الليل، ثم تصنيف سلاسل النجوم الموجودة فيها، ووضعها في قوائم تتضمن كل منها الأجرام ذات الخصائص المتشابهة.
ووفقا للطريقة التي كانت الوظائف تُقسّم بها بين الجنسين في القرن التاسع عشر، كان يُنظر إلى المرأة باعتبارها عنصرا مثاليا للقيام بعمليات التصنيف هذه، إذ أنها كانت تتطلب القدرة على التحلي بالصبر والاهتمام بالتفاصيل، وهي صفات كان يُعتقد أن النساء يتحلين بها بشكل فطري. أما الرجال، فكان الاعتقاد السائد، يتمثل في أنهم ينزعون بشكل أكبر، إلى تبوء مناصب قيادية، والانهماك في أعمال فكرية، تتمحور حول الرصد والملاحظة ووضع النظريات.
وهكذا كانت النسوة اللواتي يشغلن الوظائف المماثلة لتلك التي شغلتها ليفيت، يتقاضين عادة أجورا زهيدة، ولا تتاح لهن فرص للترقي تقريبا. ففي الوظائف التي مُنِحَت لأولئك النساء، كان بوسعهن الاستفادة من مهاراتهن “الأنثوية”، دون أن يشكلن تهديدا لزملائهن الرجال، سواء على صعيد الأجور أو المكانة الوظيفية.
وفي واقع الأمر، تماشى قرار بيكرينغ بأن يعتمد بشكل رئيسي على النساء في تشكيل فريق العمل لديه، مع ما كتبه هو نفسه في التقرير السنوي لمرصد هارفارد لعام 1898، من أن “تحقيق أقصى قدر ممكن من الكفاءة، يستلزم عدم إلزام المراقب الماهر للنجوم، بأن يقضي وقته في القيام بما يستطيع مساعد له فعله براتب أقل كثيرا”. ومصداقا لذلك، كان هذا الرجل يمنح “العقل الإلكتروني” الواحد من بين هذه المجموعة النسائية، 25 سنتا في الساعة، أي ما يصل إلى 1500 دولار سنويا. أما الرجال العاملون في المرصد، فكانوا يتقاضون في السنة 2500 دولار على الأقل.
وحُظِرَ على مجموعة “العقول الإلكترونية” هذه، استخدام تلسكوب المرصد، باستثناء ليفيت وآني جامب كانون، التي التحقت بالعمل في ذلك المكان بعدها بعام واحد. كما أن تعديل المعدات المستخدمة والتقاط الصور الفوتوغرافية للنجوم، كانا قاصريْن على الرجال فحسب. أما الألواح الزجاجية الفوتوغرافية، فكانت تُسلم إلى غرفة “العقول الإلكترونية” الواقعة في الطابق الثاني من الجناح الشرقي في مبنى المرصد، لتحليلها وإجراء الحسابات الخاصة، بما يتناثر على سطحها من نجوم.
وفي تلك الغرفة، كانت النسوة يقضين يومهن منكبات على الألواح التي تُسلّم لهن، لتصنيف النجوم، والتعرف على درجة سطوع كل منها، ووضع قوائم لها. وقد كان هذا العمل مكثفا ومرهقا ونمطيا أيضا.
وكانت مهمة ليفيت تتمثل في تحديد مدى سطوع كل نجم من “النجوم المتغيرة” الموجودة فوق المنطقة القطبية الشمالية، وذلك اعتمادا على تحليل الصور الفوتوغرافية الموضوعة على الألواح الزجاجية لا أكثر. ويعود أحد أسباب تذبذب الضوء المنبعث من هذه النجوم، إلى أنها “تنبض” أو بالأحرى تتمدد ثم تنقبض، نتيجة لأنها تضغط الغازات وتطلقها في دورات منتظمة. ومن أجل تحديد ما إذا كان النجم “متغيرا” أم لا؛ كانت ليفيت تلجأ إلى أن تضع لوحيْن زجاجييْن يُظهران البقعة نفسها من السماء، جنبا إلى جنب؛ إحداهما تظهر هذه المنطقة بشكلها الطبيعي، والأخرى بصورة سلبية. وفي هذه الحالة، يُفترض أن تتساوى درجة سطوع النجوم في اللوحيْن، إلا إذا كانت “نجوما متغيرة”، يتباين سطوعها بين الحين والآخر. وفي تلك الفترة، لم تدرك ليفيت، أهمية هذه الطريقة لحساب المسافات بين الأجرام الفضائية، وذلك في ضوء أن القدرة على حساب بُعد نجم ما عن الأرض، تكمن في فهم العلاقة بين نمط تباين سطوعه وحجمه الكلي.
وهكذا فمن نجم لثانٍ ومن لوح تصوير فوتوغرافي لآخر، قضت هذه العالمة الفلكية أيامها في المرصد، مُنهمكة في تحديد مستوى سطوع كل من هذه النجوم، ومقارنتها بالحجم المعروف للنجوم الأخرى، وذلك قبل تسجيل النتائج في دفاترها.
وفي عام 1896، أي بعد سنة من بدء هذه الجهود البحثية، تركت ليفيت مرصد هارفارد للتجوال في أوروبا، والعمل في مجال الفنون بكلية في ولاية ويسكونسن، بالقرب من منزل أسرتها. لكن النجوم نادتها من جديد في نهاية المطاف.
ومع أن هذه السيدة لم تُخلّف أي مذكرات أو دفاتر يومية، وأن مراسلاتها لم تكشف سوى تفاصيل شخصية محدودة عنها، فقد كرست بوضوح كل جهدها للعمل في المرصد، إلى حد أن أحد علماء الفلك الذين عملوا هناك في تلك الحقبة، قال إنها “كانت منغمسة في عملها، بدرجة غير معتادة”. كما بدا حبها لهذا العمل واضحا، في ما ورد في رسالة وجهتها لبيكرينغ في مايو/ أيار 1902، أي بعد ست سنوات من تركها المرصد، من أنها تفتقد ما كانت تقوم به هناك، وأنها تشعر بأسف يفوق ما تستطيع الإفصاح عنه، لأن “العمل الذي كنت أتولاه بكل هذه السعادة، وأنجزته إلى مرحلة بعينها بمتعة شديدة، تعين عليه أن يتُرك دون أن يكتمل”.
وفي ضوء توق ليفيت الشديد في تلك الفترة، للعودة إلى المجال الفلكي، سألت بيكرينغ عما إذا كان بوسعه مساعدتها على الانضمام مجددا لفريق العاملين في المرصد، أو إيجاد وظيفة لها معلمةً للفلك في إحدى المدارس. لكن فرصها في دخول سلك التدريس كانت محدودة. فقبل ذلك بسنوات، كانت قد بدأت في المعاناة، من تراجع متزايد في قدرتها على السمع. ولذا لم يسمح لها طبيب الأذن المعالج، بأن تراقب السماء في الليالي الباردة، ظنا منه بأن ذلك، سيؤدي إلى تفاقم معاناتها من الصمم. وفي ذلك الوقت، شعر بيكرينغ بالحيرة بشأن كيفية تلبية ما طلبته منه ليفيت، في ضوء ما كان يُعتقد من أن العمل في مجال الفلك، سيزيد من مشكلاتها الصحية من جهة، وعجزه عن العثور على مرصد مستعد لتشغيلها يقبع في منطقة ذات طقس دافئ، من جهة أخرى. ولذا عرض عليها العمل في مرصد هارفارد من جديد، مقابل 30 سنتا في الساعة، بما يزيد عن الأجر الذي كانت تتقاضاه “العقول الإلكترونية” الأخرى بخمسة سنتات. وقد ردت ليفيت على العرض بالقبول، والتحقت بالمرصد ثانية، للعمل بدوام كامل عام 1903.
بعد ذلك، عاودت ليفيت العمل على “النجوم المتغيرة”، بالتزامن مع اهتمام بيكرينغ بالموضوع نفسه، خاصة البحث عن هذا النوع من النجوم في المناطق السديمية. وقد تلقى الرجل في عام 1903 منحة من معهد كارنيغي، لتمويل جهوده البحثية في هذا الإطار. لكن المعهد لم يجدد في العام التالي لذلك، منح المرصد تلك المنحة، لتُضطر وليامينا فليمنغ، إحدى العضوات البارزات في مجموعة “العقول الإلكترونية”، والمسؤولة عن حفظ الصور الفوتوغرافية الفلكية في المرصد، للاستغناء عن كل نساء المجموعة باستثناء ليفيت، التي أصبحت وقتذاك مسؤولة بمفردها، عن التعامل مع المناطق السديمية. وكانت المهمة الأولى التي أُسْنِدَت إليها في هذا المضمار، فحص سديم يُعرف باسم “سديم الجبار”، في كوكبة تحمل اسم “الجبار” أيضا.
وبعد فحص لوحات زجاجية فوتوغرافية فلكية، ترصد أوضاع هذه الكوكبة على مدار 10 سنوات، اكتشفت ليفيت 77 “كوكبا متغيرا” هناك. ثم تولت هذه السيدة مراقبة السدم الموجودة في كوكبة القوس، وفي منطقة فلكية تُعرف باسم “سحابة ماغلان الصغرى”. وفي صيف 1905، ذكرت مجلة “ساينتفيك أميركان” العلمية، أن “الآنسة ليفيت” وجدت 1300 كوكب متغير جديد، منذ أن تولت منفردة العمل على مراقبة المناطق السديمية، في فبراير/شباط 1904.
وعلى مدار عام 1908، واصلت ليفيت جهودها لاصطياد مزيد من النجوم المتغيرة في “سحابة ماغلان الصغرى” و”سحابة ماغلان الكبرى”. وفي ذلك الوقت لم يكن الفلكيون يعلمون أن هذين السديمين، يشكلان مجرتين قزمتين، تدوران حول مجرة “درب التبانة”. وقد وجدت ليفيت في المجرتين 1777 نجما متغيرا جديدا، وتمكنت من التعرف على مستوى السطوع الأعلى والأدنى لكل منها.
وفي هذه المرحلة تحديدا، رصدت تلك العالمة الفلكية الأمريكية نمطا فلكيا فريدا من نوعه. فبعدما صنّفت 17 من “النجوم المتغيرة” الجديدة، ووضعت قوائم تضم الأجرام المتشابهة منها في خصائص معينة، لاحظت أنه كلما كان النجم أكثر سطوعا، كانت الفترة الفاصلة بين وصوله إلى ذروة السطوع وبلوغه الدرجة الأدنى من الخفوت أكثر طولا.
وفي ما بعد سيتبين أنه سيكون لهذه الملاحظة آثار بعيدة المدى. لكن ليفيت لم تركز على ذلك كثيرا، أو لم تتمعن في ما الذي يمكن أن يعنيه. فبعدما قدمت الجداول التي أعدتها بناء على ملاحظاتها في هذا الشأن، حصلت على إجازة من العمل في المرصد بسبب مرضها، الذي استغرق تعافيها منه سنة كاملة. ولم تتطرق ليفيت للملاحظة التي رصدتها في هذا السياق، سوى من خلال سطور قليلة في تقرير أعدته وقالت فيه: “إنه لمن الجدير بالملاحظة أنه كلما كان النجم المتغير أكثر سطوعا، زادت الفترات التي تفصل بين بلوغه ذروة سطوعه، ووصوله إلى أدنى درجة من الخفوت”.
وفي الفترة التالية لذلك، تنقلت ليفيت بين أوقات المعاناة من المرض، والفترات التي اضطلعت خلالها بمهام أخرى في المرصد. لكن ذلك لم يحل دون أن تواصل تفكيرها في النجوم المتغيرة التي رصدتها في سحابتيْ ماغلان الكبرى والصغرى. ولذا فبعد ثلاث سنوات، من إعدادها تقريرها الأوليّ عن صغراهما، عادت لفحص الأجرام الموجودة فيها.
ورغم أن تلك السيدة لم تكن على علم في ذلك الوقت، بالمسافة الدقيقة التي تفصل بين الأرض والنجوم الموجودة على ألواحها الزجاجية الفوتوغرافية، فقد كانت تعلم أن تلك النجوم تقع كلها على مسافات متساوية تقريبا من كوكبنا، وذلك بوصفها جزءاً من “سحابة ماغلان الصغرى”.
وقد مثّل ذلك استنتاجا مهما؛ إذ كان يعني أن الاختلافات بين هذه النجوم في مستويات السطوع والخفوت، لا علاقة لها بمدى بعدها عن الأرض. فالنجوم الأكثر سطوعا لم تكن كذلك لكونها أقرب إلى الأرض، ولكن لأنها كانت في جوهرها أشد لمعانا. وللتحقق من شكوكها في هذا الشأن، حددت ليفيت الدورات الخاصة بالسطوع والخفوت لثمانية نجوم متغيرة جديدة، وهنا اكتشفت أن الاستنباط الذي توصلت إليه قبل ثلاث سنوات لم يتغير؛ فكلما كان النجم أكثر سطوعا، طالت فترة تحوله من السطوع الشديد للخفوت التام تقريبا.
وفي تلك المرة، شاركها بيكرينغ ملاحظتها هذه. وبعد بضعة شهور، نشر الرجل في الثالث من مارس/آذار 1912 الملاحظة التي توصلت إليها ليفيت، والمتعلقة بتلك “العلاقة الجديرة بالملاحظة” بين مستوى السطوع وطول الدورة الفاصلة بينه وبين الخفوت. ومن هنا، تحول ما بدا في البداية كـ “توجه واعد” بالكثير من الوجهة العلمية، إلى “قانون” يتمحور حول علاقة رياضية، أُطْلِقَ عليه آنذاك اسم “علاقة نورانية – فترة زمنية”.
الكون الذي يتمدد
ومع أن ليفيت لم تبلور وقتذاك أي نظرية بشأن قانونها العلمي الجديد؛ على الأقل حسبما تشير السجلات المكتوبة التي خلّفتها لنا تلك الفترة، فإن الكثير من العلماء الآخرين، سيُقْدِمون على ذلك في السنوات التالية. إذ أدرك علماء الفلك تدريجيا، أن هذا القانون يسمح لهم بالتعرف على المسافة بين الأرض ونجوم، كان يتعذر في الماضي التعرف على بعدها عن كوكبنا، بسبب المسافات الشاسعة بينهما.
فقبل عقود، كانت هناك مشكلات تحول دون أن نتمكن من التعرف على المسافة بين الأرض والأجرام الفضائية. ومن بين هذه المشكلات؛ اختلاف لمعان كل نجم عن الآخر، ما كان يحول دون التعرف على مدى قربها أو بعدها عن كوكبنا، عبر رصد مدى سطوعها. يُضاف إلى ذلك، أن طريقة “المنظور النجمي” أو “التزيح النجمي”، التي كان علماء الفلك يستخدمونها لتحديد المسافات عبر مقارنة الحركة النسبية للنجوم، لم يكن من المتاح اتباعها سوى مع النجوم الواقعة على بعد بعينه من الأرض، ولا يتسنى تطبيقها على الأجرام الموجودة، على مسافات أبعد من ذلك.
وقد أظهرت ليفيت أنه يمكن لعلماء الفلك، التعرف على مقدار السطوع الحقيقي لنجومها المتغيرة، التي يُطلق عليها اسم “المتغيرات القيفاوية” خلال دورتها بين اللمعان والخفوت، وذلك بغض النظر عما تبدو عليه من سطوع للناظر إليها من على سطح الأرض. ويعني ذلك أن وجود واحد من هذه النجوم، التي يُعرف الواحد منها الآن باسم “الشمعة القياسية” في مجرة بعيدة، يجعل بوسع الفلكيين حساب المسافة الفاصلة بين الأرض وهذه المجرة.
ويقوم علماء الفلك بذلك، من خلال ما يُطلق عليه اسم “سلم المسافات الكونية” أو “مقياس المسافات خارج المجرة”. وتبدأ عملية القياس هذه، من خلال تحديد المسافة بين الأرض و”شمعة قياسية” قريبة منها، بما يكفي لحساب “المنظور النجمي” الخاص بها، وتحديد مدى سطوعها. وبناء على ذلك، يمكن حساب المسافة بين كوكبنا و”شمعة قياسية” أبعد، بناء على مستوى لمعانها، وذلك بافتراض أن لهاتين “الشمعتيْن القياسيتيْن”، نمط السطوع نفسه.
وبعد عقد من نشر ليفيت القانون العلمي الخاص بها؛ وجه هابل تلسكوبه إلى “المرأة المُسلسلة” ووجد هناك “شمعة قياسية” – من تلك التي دأبت هذه العالمة الفلكية على اكتشافها – وهي تتألق وسط السديم الضبابي المحيط بها. وعندما رصد الرجل “متغيرا قيفاويا” في تلك البقعة من السماء، أُتيحت له الفرصة للتعرف على المسافة الفاصلة، بين “المرأة المُسلسلة” والأرض وذلك بحسب قانون ليفيت. وبناء على ذلك، أثبت هابل أن هذا السديم يقع بعيدا للغاية عن مجرتنا “درب التبانة”. وباستخدام الأسلوب ذاته، تسنى للعالم نفسه بعد ذلك بوقت قصير، العثور على 23 مجرة أخرى والتعرف على مدى بعدها عن الأرض. وقد كان البعض منها يبعد لمسافة تُقدر بـ 20 مليون سنة ضوئية من كوكبنا. وفي عام 1929، اكتشف هابل أيضا أن الكون يتمدد ويتوسع، وكان قانون “ليفيت” هو الأساس الذي بنى عليه هذا الاكتشاف.
وتقول عالمة الفلك والفيزياء الفلكية ويندي فريدمان، إن قانون “ليفيت” أصبح “الأساس الذي قمنا من خلاله، بقياس المسافات (والأبعاد بين) المجرات، منذ أكثر من مئة عام. ففي البداية لم يكن لدى المرء سوى صورة ثنائية الأبعاد في هذا الصدد. لكن هذا القانون وفر – وللمرة الأولى – صورة ثلاثية الأبعاد. ليصبح بمقدورك أن تقيس هذا البعد الثالث، بغض النظر عن مدى بعد النجوم”، التي تسعى للتعرف على المسافة الفاصلة بينها وبين الأرض.
وتمثل فريدمان نفسها نموذجا واضحا في هذا الصدد، إذ تعتمد في عملها بشكل كبير على “المتغيرات القيفاوية”، التي اكتشفتها ليفيت. فقبل إطلاق “مرصد هابل الفضائي” عام 1990، كان علماء الفلك يعلمون أن الكون يتوسع، لكنهم لم يعرفوا حجمه الحقيقي ولا عمره. وهنا قدمت اكتشافات ليفيت الحل مرة أخرى. فقد قادت فريدمان مشروعا تم خلاله استخدام ذلك المرصد المتطور، لحساب المسافات في الفضاء بالاستعانة بـ “المتغيرات القيفاوية”، ما أفضى إلى تحقيق هذا الهدف، بقدر أكبر بكثير من الدقة. وساعدت قدرة فريدمان وفريقها البحثي على التعرف على المسافات، بين الأرض و”النجوم المتغيرة”، بمثل هذه الدقة، على حسم عقود من الجدل بشأن عمر الكون، الذي قالت هذه العالمة بعد ذلك إنها اكتشفت أنه يبلغ 13.7 مليار عام.
“كلما كانت الكتلة أكثر سطوعا، كانت فترات لمعانها أطول”، هذا هو قانون “ليفيت” الأنيق من فرط بساطته، الذي غيّر وإلى الأبد، الطريقة التي ينظر بها علماء الفلك إلى الكون. لكن لسوء الحظ، توفيت ليفيت جراء معاناتها من سرطان المعدة، قبل أن تدرك الأهمية الكاملة لما اكتشفته. وتُعقّب فريدمان على ذلك بالقول: “من أكثر الأشياء إثارة للحزن، أن ليفيت فارقت الحياة في عام 1921، (قبل عامين) من توصل هابل لاكتشافه الخاص بـ `المتغيرات القيفاوية` عام 1923، ثم اكتشاف أن الكون يتمدد ويتوسع، وهو ما تم التوصل إليه عام 1929. للأسف لم تكن لديها أدنى فكرة عن الآثار الهائلة المترتبة على ما أنجزته”.
ومع أنه لم يتسن لليفيت أن تبقى على قيد الحياة، لترى كيف غيّرت اكتشافاتها علم الفلك، فلم ينسها العلماء الذين جاءوا من بعدها. من بينهم، العالمة البريطانية الأمريكية سيسيليا هيلينا باين، التي واصلت العمل على موضوع “النجوم المتغيرة” واكتشفت بنية الشمس. فقد عملت هذه العالمة الفلكية، التي لم تلتق بـ “ليفيت” قط، على المكتب العتيق الذي كانت تستخدمه تلك السيدة في هارفارد، وقالت عنها: “أعتقد أنها كانت الأكثر ذكاء من بين كل النساء اللواتي عَمِلنَ” في المرصد التابع لهذه الكلية الأمريكية.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال “الشموع القياسية” التي اكتشفتها ليفيت، تضيء درب علماء الفلك عبر الكون، الذي لا يكف عن التوسع والتمدد. ولإبداء التقدير والاحترام لذلك، صوّت علماء الفلك – ومن بينهم فريدمان – عام 2008، على تغيير ما كان يُعرف سابقا بـ “قانون العلاقة النورانية – الفترة الزمنية”، إلى “قانون ليفيت”.
[ad_2]
Source link