فيروس كورونا: كيف غيّر الوباء طقوس الموت والجنازة؟
[ad_1]
- سناء الخوري
- مراسلة الشؤون الدينية – بي بي سي نيوز عربي
الموت عابر أليف في يوميات يوسف فرج,
فالرجل يعمل، منذ ما قبل الوباء، مسؤولاً عن مجموعة مدافن على طريق الفيوم على أطراف القاهرة، ويحرس، منذ سنوات، مساكن أهل الآخرة.
تغيّر إيقاع مرور الوقت في المدافن، فخلال عام على تفشّي فيروس كورونا. يردّد يوسف: “ربنا بيسترها”. ويخبرنا أنّ “الناس خافت لأن المرض معدٍ، كما انقطع الزوّار المعتادون عن تفقّد قبور موتاهم”.
خلال هذا الوباء، بات يوسف يتشدّد أكثر في شروط الزيارة التزاماً بالإجراءات الاحترازية الصحيّة. “حتى لو أراد شخص زيارة مدفن خاص به، أطلب منه بطاقته الشخصية، لأتأكد قبل السماح له بالدخول”.
من مكانه كحارس للمقابر، تمكن يوسف من مراقبة تدرجات الحداد في زمن الوباء، عن كثب. يقول: “تجدين أشخاصاً يمسكون بالجثة، ويحضنونها ويقبلونها، غير آبهين بالإجراءات الصحيّة. في المقابل، هناك من يتردّد بالمساعدة في حمل جثة أخيه أو أبيه إلى التربة. طب لما انت مش حتشيله، مين حيشيله؟ الغريب؟”.
ويتطلب تجهيز رفات من قضوا بكورونا اتباع إجراءات احترازية محدّدة، من ارتداء معدات واقية إلى تطهير وتعقيم الأسطح المحيطة بالجسد.
كذلك ينبغي على أفراد الأسرة أو رجال الدين المشاركين في الدفن، بحسب الأعراف الاجتماعية لكل بلد، أن يرتدوا كمامات وقفازات واقية، ويغسلوا أيديهم وملابسهم فور انتهاء الدفن. كما ينبغي تقليل عدد المشاركين في المأتم، والحفاظ على التباعد بينهم.
إجمالاً، يقول يوسف إنّ أهل الموتى حافظوا على التباعد، وعلى حصر المشاركين في الدفن بعدد قليل من الأقارب، خصوصاً في الأشهر الأولى من الوباء. كذلك الأمر بالنسبة لعمال المدافن. “نحن نأخذ احتياطاتنا كافة، نرتدي الكمامات والملابس العازلة والأحذية الواقية، وربنا بيسترها”.
“كرامة وأمان”
غيّر وباء كورونا شكل مراسم الدفن والعزاء كما نعرفها. إذ قضى كثر نحبهم وحيدين في المستشفيات، واضطرت الحكومات والهيئات الأهلية والبلديات في الدول العربية والعالم إلى تعديل إجراءات الدفن وطقوس الجنائز والصلاة على الموتى بما يتناسب مع أولوية الأمن الصحّي.
حين نسمع عبارة “وفيات بالأوبئة”، نخال آلاف الجثث مكدسة في الشوارع، كما تشير المراجع التاريخية إلى أزمنة غابرة، فتك خلال الطاعون بالملايين.
لكن هذه المعضلة ليس بغريبة على عالمنا المعاصر الذي شهد خلال السنوات الماضية عدداً من الأوبئة القاتلة. وقد استقى الباحثون وواضعو السياسات من تجارب حديثة، لفهم الطريقة المثلى لاحترام تقاليد دفن الموتى خلال الطوارئ الصحيّة.
وهذا ما فعلته مجموعة من الباحثين، بإشراف من الطبيب وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، برنار تافيرن، إذ أصدرت ورقة توصيات توجيهية، تستند إلى تجربة وباء إيبولا بين عامي 2013 و2016.
ويلفت الباحثون إلى أنّ أي تضارب بين الإجراءات الصحية، تقاليد دفن الموتى في مجتمع ما، تسبّب أحياناً بصدامات عنيفة مع الهيئات الصحية، ما يحتمّ اعتماد آلية “تضمن الكرامة والأمن الصحي” في آن واحد.
ويعرّف فريق من الباحثين الكرامة، في سياق الأوبئة، “باحترام تقاليد العائلات الدينية والثقافية”، ويعّرفون الأمن، “بالتزام قواعد الوقاية الصحيّة”.
وكما في كلّ الخطط، يكون التخطيط على الورق، أسهل من التنفيذ على الأرض، وذلك ما اتضح في عدد من المدن والقرى في دول عربية كثيرة.
في لبنان مثلاً، لم يلتزم بعض الناس بالتباعد الاجتماعي خلال المآتم، ما جعلها خلال الأشهر الماضية، بؤراً لانتشار العدوى.
وبحسب ما يروي الأطباء والأهالي بين العراق وسوريا، كان الالتزام متفاوتاً، خصوصاً لدى المناطق ذات التقاليد العشائرية، حيث كان بعضهم يرفض تسجيل سبب الوفاة على أنه كورونا، أو يرفض اجراء مأتم من دون مشاركة واسعة.
“لا يترك الميت وحيداً”
تقول سبيده بارساباجو، الباحثة في الأنثروبولوجيا لدى “مركز دراسات العلوم الاجتماعية للدين” في فرنسا لـ”بي بي سي”: “في بعض المجتمعات تعدّ عدم المشاركة في العزاء إهانة، لا بل ونوعا من “العنف” الموجه ضد العائلة المكلومة”.
تشرح بارساباجو أنّ طقوس الجنازة مهمة في كلّ الديانات ولدى كل المجتمعات، وعلى اختلاف الثقافات. “يتمتع الأموات باحترام ويكونون محاطين دوماً بأحبائهم، وهناك دوماً طقس ما لا يترك فيه الميت وحيداً، لذلك كان ما شهدناه خلال هذا الوباء مؤلماً لكل البشرية، وبشكل خاص للثقافات ذات الطابع الجماعي، مثل المجتمعات العربية والمسلمة”.
تقول إنّ هذه المجتمعات لم “تجتز بعد المرحلة التي اجتازها الغرب في علاقته مع الموت”. تضيف: “منذ سنوات، لم يعد الموت موجوداً في حياة الناس في المجتمعات الغربية، حين يموت أحدهم لا نرى الأثر بوضوح في المجتمع. ذلك ليس الحال في مجتمعاتنا حيث الموت حاضر جداً، سواء من خلال الملصقات أو أوراق النعي، الخسارة تتمظهر دائماً، ويُدعى الناس للتحلق حول من خسروا أحد الأعزاء”.
في مسجد الأمير حسن في جبل الجوفة، في العاصمة الأردنية عمان، يلاحظ الشيخ عبد الله نايل العكايلة أن الالتزام بالإجراءات الوقائية خلال الصلاة على الموتى ومراسم الدفن، كان أشدّ وأوضح في أشهر الوباء الأولى، ثم تراجع.
يقول لـ “بي بي سي”، إنّ بيوت العزاء والدواوين والجمعيات أقفلت التزاماً بالإجراءات الحكومية، وكذلك انطلاقاً من خشية الناس على أنفسهم وعلى غيرهم. “انتقل العزاء من الأماكن العامة، إلى بيوت أهل الميت، واقتصرت المشاركة في الأجر على أقرب المقربين من أصدقاء وعشيرة، على ألا يمكثوا لوقت طويل”.
ويقول الشيخ إنّ “العشرة الاجتماعية أمر مهم، إذ يعد الجيران الطعام ويزورون أهل الميت، كبادرة خير، ولتخفيف المصاب، وقد أثر الوباء على العلاقات الاجتماعية من ناحية التقارب الجسدي، لحسن الحظ هناك هواتف وطرق أخرى للتواصل والتخفيف عن أهل الميت ومواساتهم”.
جبر الخواطر
منذ عشرين عاماً، تكرّس الداعية ختام البيشاوي (57 عاماً) وقتها وجهدها للعناية بالبيوت المكلومة في عمان، وليس فقط في حالات الوفاة، ولكن أيضاً في حالات المرض أو الفقر”.
خلال أشهر الوباء، كان أصدقاء ختام والمقربون منها، يحذرونها من الزيارات والاختلاط، لكنها كانت تشعر أن لديها واجباً في تقديم مساندة معنوية.
“كانوا يقولون أم خالد ستنقل العدوى لأهل بيتها، لأنها لا تهدأ ولا تجلس، ولكني كنت ألتزم بوضع الكمامة والتباعد”، تخبرنا.
أصيبت الداعية بالوباء، ونقلت العدوى إلى زوجها وأولادها، ما جعلها تشعر بالذنب. “لا أحب الهواتف المحمولة ولا مواقع التواصل الاجتماعي، ولكني اضطررت بعد كورونا إلى المشاركة بواجبات العزاء، وإعطاء الدروس الدينية في المآتم عبر البثّ المباشر على الهاتف”.
بالنسبة لأم خالد، فإنّ العمل الخيري والموعظة الدينية للعائلات المفجوعة و”جبر الخواطر”، واجب انساني، لم تكن تريد التخلف عنه تحت كافة الظروف.
تقول: “يحتاج الناس في ظروف مماثلة إلى من يقوي إيمانهم، ويرفع معنوياتهم، لذلك كنت أدعوهم إلى وقفة إيمانية، وأذكرهم بأن هذه الأزمة يجب أن تعيدنا إلى الله”.
رغم الحاجة لتبادل العزاء والمواساة وجهاً لوجه، وجد كثيرون في تطبيقات التواصل الاجتماعي منفذاً لإحياء الذكرى.
تخبرنا ايلينا ماريا كساب من لبنان، عن مراسم صلاة عائلية لأقارب لها، توفوا في الاغتراب، وتقول إن كبار السن في العائلة، شاركوا في الصلاة عبر الانترنت، لأنّها كانت الطريقة الوحيدة للعزاء، “وكان الأمر أشبه بصحوة، لأن اللقاء كان مناسبة لتبادل أخبار جميلة عن المتوفين، ولم يكن مجرد عزاء ثم تبادل سلام ووداع”.
ثقافة الملموس
تلفت الباحثة سبيده بارساباجو إلى أنّ طقوس الجنائز والمآتم تعدّ من طقوس العبور المهمّة في دورة حياة الانسان، مثل طقوس الولادة والزواج.
ومن وجهة نظر أنثروبولوجية، فإنّ طقوس الفراق هذه، مهمّة جداً، “لأننا قبالة لغز، ولأنّ طقس الوداع أساسي للأشخاص الذين فقدوا فرداً من جماعتهم، فكما الجسد الذي يفقد عضواً منه، تحتاج الجماعة إلى إعادة بناء نفسها، وإلى محاولة التعافي وملء الفراغ الذي سببته الخسارة”.
من أبرز التغيرات التي تلاحظها الباحثة في تقاليد وطقوس الجنازات بعد كوفيد – 19، استبدال غسل الميت بالتيمم بالتراب، “الذي بات رائجاً اليوم، أو على الأقل ممكناً في أذهان الناس”. تضاف إلى ذلك المآتم غير المكلفة، مع استبدال الصرف على الطعام بالتبرع.
في هذا الإطار، تلاحظ بارساباجو أنّ المجتمعات المتوسطية، تولي أهمية كبرى لما تسمّية “ثقافة الملموس”، والحاجة إلى الحضن واللمس والتقبيل، لأن الاختلاط وتلامس الأجساد مهم لإظهار العاطفة.
تقول بارساباجو “إنّ الحداد خلال الوباء فقد شيئاً من مشهديته ودراميته، وبات أمراً داخلياً باطنياً ودعوة للتفكير والتفكر والتأمل، فعوضاً عن الجنازة حيث لا يستطيع الناس تبادل الكلام، وللاستعاضة عن الحاجة للمس، بات الناس يتبادلون الصور، ويسترجعون الذكريات القديمة، لتتحول مجموعات واتساب أو جدران مواقع التواصل إلى ما يشبه دفتر تذكارات”.
[ad_2]
Source link