كيف تبدو “وحوش فرانكنشتاين” في القرن الحادي والعشرين؟
[ad_1]
- جون سيلف
- بي بي سي
تشهد الساحة الأدبية في العالم موجة جديدة من الأعمال، التي تتناول قضايا الذكاء الاصطناعي، وتبحث فكرة ابتكار البشر لكائنات شبيهة بالإنسان. في السطور المقبلة، يتحدث جون سيلف إلى مؤلفي هذه الروايات، ومن بينهم الروائي الياباني البريطاني كازوو إيشيغورو، حول ما الذي يمكن أن تخبرنا به “الآلات الواعية”، التي تظهر في ثنايا تلك الأعمال الأدبية، حول الجنس البشري.
دائما ما كان الذكاء الاصطناعي يبدو أمرا يفصلنا عنه جيل، أو بعبارة أخرى 30 عاما على الأقل. فعلى مدى عقود طويلة، ظل العلماء وخبراء المستقبليات، يتوقعون أن يتمكن البشر في غضون جيل واحد، من تطوير آلات ذكية تشبه الإنسان. لكن لا يبدو أن هناك حاجة لأن نشعر لفترة ما بالقلق من إمكانية أن نخضع لحكم “آلات واعية وذكية”، بالنظر إلى أنه حتى السيارات ذاتية القيادة، لم تصل حتى الآن في تطورها، إلى مرحلة تجعلها قادرة على أن تستقل بنفسها تماما. ففي واقع الأمر، لا تزدهر تلك الكائنات الآلية الشبيهة بالبشر، سوى في عالم الأدب فحسب.
الأدب ليس حديث عهد بهذه الأمور على أي حال، فقبل مئتي عام، ربحت الكاتبة ماري شيلي، عندما كانت في العشرين من عمرها، رهانا مع زوجها المستقبلي بيرسي، وصديقه لورد بايرون، لمن يستطيع منهم تأليف أفضل قصة رعب. وحملت الرواية التي كتبتها شيلي عنوان “فرانكنشتاين”، وتناولت قصة عالم من مدينة جنيف يُدعى فيكتور فرانكنشتاين، ابتكر تقنية لبث الحياة في مادة غير حية، وندم على ذلك طيلة ما تبقى له من عمر. ولم تكن ماري شيلي تعلم وقتذاك، أنها قدمت للعالم، ما هو أكثر من مجرد رواية. فـ “فرانكنشتاين” لم تكن فقط أول عمل يُصنّف كقصة خيال علمي في تاريخ الأدب، وإنما مثل أيضا بداية لتفريخ جيش من الوحوش الخيالية المماثلة في المستقبل.
فما هو سبب استمرار الجاذبية التي يكتسي بها تأليف قصص من هذا القبيل، بما يدفع كُتّابا، بعضهم لم يُعرف عنه الاهتمام عادة بأدب الخيال العلمي، لتقديم أعمال أدبية تتمحور حول تلك الفكرة؟ وكيف استعان مؤلفو هذه الروايات بشخصيات خيالية على ذلك النحو لتقديم معلومات لنا عن أنفسنا؟ وكذلك، كيف رسم مؤلفو القرن الحادي والعشرين صورة الوحوش التي ظهرت في روايات، كُتِبَت على شاكلة رواية “فرانكنشتاين”؟
لعله يجدر بنا في البداية، أن نُذّكِرَ أنفسنا بأحداث القصة الأصلية، التي كتبتها ماري شيلي، ووصمت اسم “فرانكنشتاين” إلى الأبد، رغم أنه اسم المخترع في الرواية، لا المخلوق الغريب الذي ابتكره. فوفقا لأحداث القصة، يبث هذا الطالب المحب للاستطلاع الحياة في “المخلوق”، الذي يفر منه بعد ذلك، ويندفع في موجة من الهياج، يرتكب في غمارها عددا من جرائم القتل.
وبينما يصف فيكتور فرانكنشتاين ذلك “المخلوق” بقوله إن “روحه ذات طابع جحيمي كشكله”، فإنك تُجبر كقارئ على إعادة النظر في رؤيتك حيال ذلك الكائن، عندما تتيح له الكاتبة الفرصة لكي يتحدث بشكل مباشر عن نفسه وتجربته: عن توقه للصحبة الإنسانية، ومعاناته دائما من النبذ ممن حوله، وثورته على نفسه أولا قائلا “أنا وحيد ومكروه. لم أخلق لكي استمتع بالسعادة”، قبل أن ينقلب على أسرة مُبتكره فيكتور، بدلا من أن يوجه غضبه لـ “خالقه” المُحْتَقِر له، ويقول في هذا الشأن: “سأبعث الخوف في أوصال الآخرين، إذا لم استطع أن ألهمهم الحب”.
هنا ندرك أن الوحش الحقيقي يتجسد فيهما معا: فيكتور بسبب رفضه بقسوة لأن يبتكر رفيقة أنثى لـ “مخلوقه”، لتبديد الوحشة التي يعاني منها، وفي المخلوق نفسه، بسبب جرائم القتل التي يرتكبها قبل أن يمضي إلى بحار القطب الشمالي، تلك البقعة التي سينعزل فيها عن العالم للأبد.
ومنذ أن رسمت ماري شيلي ملامح الدرب الخاص بتقديم روايات تتناول كائنات آلية شبيهة بالبشر، استكشف مؤلفون آخرون بحماسة إمكانية السير على هذا الطريق بدورهم، بما يشكل السبيل الأمثل – بنظر البعض – لأن نتعرف على ماهية المقومات، التي تجعل منّا بشرا في المقام الأول. ومن بين أحدث الأدباء الذين اختاروا المضي على هذا الدرب، الكاتب بول برادون، الذي نُشِرَت أولى رواياته “ذا أكتشيواليتي” (الواقعية) الشهر الماضي، وهو العمل الذي اختير لكي يُعد عنه مسلسل تليفزيوني من إنتاج بي بي سي.
وتدور أحداث هذه الرواية بعد زمننا الحالي بنحو 150 عاما، وتُروى وقائعها على لسان “إيفي”، وهو اسم لواحد من بين اثنين من الكائنات الآلية المتطورة القادرة على أن تستقل بذاتها؛ استطاعا البقاء، بعدما تم حظر مثيلاتها بسبب مشكلات تسببت فيها طرزها السابقة. وفي الرواية، تعيش إيفي مختبئة مع زوجها البشري، وتظن لفترة طويلة أنها من بني البشر بدورها، بل وتصر على إنكار الحقيقة، حتى مع تراكم الأدلة التي تشير إلى غير ذلك، في ممارسة منها – للمفارقة – لخصلة بشرية بكل معنى الكلمة. وتنجم أجواء التوتر التي تسود الرواية من مصدرين رئيسيين؛ أولهما اكتشاف إيفي لطبيعتها الحقيقية شيئا فشيئا، أما الثاني فيتمثل في ملاحقة السلطات لها، ما يجعلها بحاجة لحماية وجودها عبر الهروب أو القتال.
وفي تصريحات لبي بي سي، يقول برادون إنه رأى أوجه شبه بين التجربة التي مر بها “المخلوق” في “فرانكنشتاين” وما مرت به بطلته إيفي، فهي مثلها مثل وحش رواية ماري شيلي، تعاني من نبذها من جانب الآخرين. كما يخشاها هؤلاء، لأنهم يفترضون الأسوأ دائما منها ومن غيرها. ويضيف برادون بالقول: “نظريا لدى إيفي مقومات تُمَكِنُها من أن تفعل كل شيء، مثلها مثل وحش فرانكنشتاين. لكنها مقيدة بالقيود التي فرضها مبتكرها عليها. وكان عليها الفرار من تلك الأصفاد التي تعانى منها، والمرتبطة بوجودها ذاته”.
وتتضمن هذه الرواية تأملا عميقا في الأسئلة الأخلاقية والفلسفية، التي تتناول الذكاء الاصطناعي وحياة الكائنات الآلية كذلك. فأين تبدأ الحياة وأين تأتي؟ وهل تؤدي قدرة كائن آلي، يستطيع أن يستقل بذاته مثل إيفي، على أن يحاكي الكائنات الواعية، إلى إكسابه حقوقا ما؟ وفي المقابل، هل يمكن محاسبة إيفي إذا قتلت إنسانا ما؟
من جهة أخرى، فلأن إيفي صُمِمَت، بحسب أحداث الرواية، على شاكلة امرأة حقيقية، فهي – كما يقول المؤلف – بُرْمِجَت لمحاكاة “شخص لم تقابله قط، وأُعِدَت للتصرف بحسب ما يُفترض أن تتصرف هذه السيدة في المواقف المشابهة”. ومن شأن ذلك، وضعها في اختبار لا يرحم، يوجب عليها العمل على تحسين نفسها طوال الوقت، بالتزامن مع مطالبتها أيضا بأن تجيد الاختيار ما بين الصواب والخطأ.
الأسوأ من كل ذلك، كما يقول برادون إن “تبعات قرارات إيفي، وهي في حالة فرار، تفصل ما بين حياة أشخاص ومماتهم”. ويخلص الكاتب للقول: “في بعض الأوقات، شعرت بأنني رسمت شخصية إيفي على نحو جعلها شديدة اللطف بقدر مفرط. لكنني أعتقد أنني رأيت، بحلول نهاية الرواية، من جانبها السلبي، ما يكفي لموازنة الأمور”.
مزيج فوضوي
وعلى أي حال، يجب أن يكون “الإنسان الآلي” مزيجا فوضويا من الصواب والخطأ، وذلك لكي يصطبغ بطابع واقعي، وحتى يكون مشابها لنا نحن البشر. ومن بين الأمثلة الأخرى لوحش رواية ماري شيلي؛ ذلك الكائن الذي ظهر في رواية “فرانكنشتاين في بغداد” للكاتب العراقي أحمد سعداوي، والذي يحمل اسم “الشِسْمه”، أو “ّذاك الشيء الذي لا أعرف اسمه أو لا اتذكره”. وفي عام 2018، اختير هذا العمل ضمن القائمة المختصرة للروايات المرشحة، للحصول على جائزة بوكر الدولية. وتتمحور أحداث الرواية، في العراق الممزق بالحروب في مطلع القرن الحالي، حول تاجر خردة يُدعى هادي، يعكف على تجميع كائن شبيه بالبشر، باستخدام أشلاء أشخاص قُتلوا في الصراع الدائر في هذا البلد. ويبرر هادي ذلك بالقول بلهجة تمتزج فيها الفصحى بالعامية: “أنا عملتها جثة كاملة حتى لا تتحول إلى نفايات.. حتى تُحترم مثل الأموات الآخرين، وتُدفن يا عالم”.
لكن “الشِسْمه” يُفقد، ويشرع في نوبة هياج انتقامي، تشبه تلك التي انخرط فيها الوحش الأصلي في رواية “فرانكنشتاين”. ويتبنى سعداوي في هذا السياق، رؤية تهكمية ساخرة، لكنها تصطبغ بطابع كوميدي قاتم للغاية، يتناول من خلالها عمليات القتل لدوافع انتقامية في العراق، وما تؤدي إليه الحرب هناك من تجريد للبشر من صفاتهم الإنسانية. ووفقا للأحداث، يسعى هذا الكائن للانتقام ممن أنهوا حياة الأشخاص، الذين تكونت منهم أجزاؤه. لكنه يكتشف أن العضو الذي ينتقم له من قاتل صاحبه، يتحلل تلقائيا بعد ارتكاب الجريمة، ما جعله يقترف جرائم جديدة، للحصول على قطع غيار بشرية، لكي يعوض تلك الأطراف المتآكلة. وفي نهاية المطاف، يدرك “الشِسْمه” أن مهمته تتمثل في الأساس في “أن يقتل، في أن يسفك دماء أناس جدد في كل يوم. لكنه بات يفتقر لأي رؤية واضحة، حول هوية من يجب عليه قتله، أو السبب الذي يحدو به لذلك”.
ويصل الأمر بهذا الطراز العصري للغاية من الوحوش، إلى إقامة مؤتمر صحفي لتبرير أفعاله وللسخرية من الشخص الذي تولى تجميعه، وكأنه طفل يتمرد على والديْه، قائلا: “أنت (يا هادي) مجرد ممر ومعبر لإرادة والدي الذي في السماء. فلتفكر في كم عدد الآباء والأمهات الأغبياء، الذين أنجبوا رجالا عظاما في التاريخ”.
ويرى سعداوي أن هذا الوحش ما هو إلا “صورة طبق الأصل منّا جميعا”، وأنه يجسد كيف أصبح الناس في العراق “إما منخرطين بالفعل في القتل أو لا مبالين بمشاهد الموت”. ويقول لبرنامج “كالتشورال فرُنت لاين” الذي تبثه الخدمة العالمية من بي بي سي، إننا “نحب أن نرى أنفسنا ضحايا والآخرين معتدين، لكن في هذه الحالة (حالة `الشِسْمه`) كان هذا المخلوق ضحية ومعتديا في آن واحد”، مثله مثل المخلوق الذي ابتكره فيكتور فرانكنشتاين. وبرأي سعداوي، يمثل الكائن الذي ظهر في روايته “الوحش الموجود بداخل كل منّا، ليس فقط في العراق، ولكن في كل مكان آخر”.
وبعبارة أخرى، يمثل ذلك المخلوق الذي خيطت أجزاؤه معا، مزيجا من أفضل خصالنا البشرية وأسوأها. وهنا ربما نتذكر أن نبذ المجتمع لوحش ماري شيلي، كان هو ما حدا به للانخراط في جرائم القتل التي اقترفها. وفي روايته “الواقعية”، تطرق بول براندون إلى هذه الفكرة أيضا، حينما قال: “تساورني مخاوف إزاء كيفية تعاملنا نحن كبشر مع مثل هذه الفئة” من الكائنات.
ولا تتمحور روايات مثل هذه، حول علاقة الكائن الآلي الذي يظهر فيها بمبتكره فحسب، لكنها تتطرق كذلك إلى الغرض من ابتكاره أيضا. ففيكتور فرانكنشتاين مثلا ابتكر وحشه، بدافع من روح نبيلة تواقة للبحث العلمي. أما في “الواقعية”، فقد كان الغرض من ابتكار “إيفي”، أقل نبلا. ودون أن نتورط في حرق أحداث الرواية، ربما نكتفي هنا بذكر ما قاله المؤلف من أن الأمر كله، يعود إلى “ما يُحرك ويحفز الجنس البشري.. وهو ما قد يُختزل في أبسط معانيه، في دوافع مثل المال والسلطة والجنس”.
وعلى ذكر الجنس، لعل من الواجب أن نشير هنا، إلى أن هذا الجانب من جوانب الحياة، يشكل في واقع الأمر، أمرا لا تكتمل رواية بدونه، سواء كانت عن البشر أو عن أشباههم الآليين. وقد تناولته الكاتبة جانيت وينترسون بأقصى قدر ممكن في روايتها “فرانكيستاين” التي صدرت عام 2019، وذلك بما هو معروف عنها من ذكاء وجرأة. وفي هذه الرواية، تصور الكاتبة عالما يتم فيه ابتكار “بشر اصطناعيين” لكي يصبحوا بمثابة “روبوتات جنسية”.
اللافت أن وينترسون تتحلى ببصيرة أتاحت لها أن تكتب عن موضوع مثل “ممارسة الجنس مع كائنات آلية”، منذ روايتها “ريتن أون ذا بَدي” (كُتِبَ على الجسد) التي صدرت عام 1992. ولذا لا تشعر هذه الكاتبة بالدهشة لرؤيتها الجنس البشري، وهو يمضي بسرعة وتصميم على الطريق، الذي سبق أن تنبأت به، قائلة: “نمضي قدما – لأننا أغبياء للغاية – على طريق يفضي إلى أن نتشارك الحياة على كوكبنا مع نمط حياة غير بيولوجي خلقناه بأنفسنا، ويتصف بأنه أذكى منّا. أحسنت صنعا أيها الجنس البشري!”.
لكن الرواية التي ألفتها وينترسون، تتميز عن باقي الأعمال التي نستعرضها في هذه السطور، بأنها مضحكة وهزلية بشدة. فـ “العالم رهيب للغاية في الوقت الحاضر، ومن المهم أن ندع الناس يضحكون. ولا يشكل ذلك رد فعل ينطوي على هروب أو فرار، وإنما يمثل طريقة للتعامل” مع الوضع الحالي.
وخلال الشهر الجاري، ظهرت على أرفف المكتبات، رواية جديدة تتناول كائنا آليا شبيها بالبشر أكثر امتثالا من تلك النماذج التي تحدثنا عنها من قبل. العمل الذي يحمل عنوان “كلارا آند ذا صن” (كلارا والشمس)، من تأليف الروائي الياباني البريطاني كازوو إيشيغورو، وهي الأولى له منذ أن فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 2017. وكلارا، بحسب الأحداث، هي كائن شبيه بالبشر، تم ابتكاره لئلا يعاني المراهقون من الوحدة. وكما كان الحال مع “الواقعية”، تُروى هذه القصة من وجهة نظر كلارا نفسها.
إذا، كيف تناول إيشيغورو هذا الموضوع؟ في تصريحات لبي بي سي، قال الرجل ضاحكا: “لقد تركت نفسي انغمس في الأمر، بشكل انطوى على قدر من التهور، لأرى ما الذي سيحدث جراء ذلك. طالما انجذبت إلى الرواة غريبي الأطوار قليلا”. ومن زاوية تقنيات السرد الروائي، تحظى “كلارا” بميزة عظيمة كراوية للأحداث، بوصفها كائنا غير بشري. فقد بات بوسعها “إثارة بعض الأسئلة بشكل طبيعي للغاية.. من قبيل `ما الذي يعنيه أن يكون المرء إنسانا؟` و`ما الذي يعنيه الإنسان عندما يقول إنه يحب شخصا آخر؟`. وقد كان (الاستعانة بكلارا في هذا الصدد) أسلوبا جيدا للغاية، لكي تُطرح مثل هذه الأسئلة، دون أن يبدو عليك أنك مفتعل أو مدعٍ”.
في الوقت نفسه، تبدو كلارا – بالشكل الذي بدت عليه شخصيتها – أقل فرصا، في أن تنخرط في موجة تدمير شريرة، مشابهة لتلك التي اندفعت لها باقي الكائنات الشبيهة بالبشر التي تحدثنا عنها في السطور السابقة. لكن ذلك لم يحل دون أن يستعرض إيشيغورو من خلالها، تفاصيل الحياة البشرية بكامل نطاقها، تماما كما فعل في روايته “نيفر ليت مي غو” (لا تدعني أذهب أبدا)، التي تناول فيها مسألة الاستنساخ البشري. وبمرور أحداث “كلارا والشمس”، تتعرف بطلتها على الكيفية التي يفكر بها البشر ويشعرون أيضا.
ويقول الكاتب في هذا الصدد: “نحن هنا إزاء راوٍ، بمقدوره أن يحتفظ (في ذهنه) بمزيج معقد على نحو لا يصدق من الدهاء والسذاجة. وقد ظننت أن بوسع (القارئ) أن يُلِمَ بكل أطراف حياة الإنسان من خلالها. ففي غضون سنوات قليلة من ابتكارها، كان بمقدورها الانتقال من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، قبل أن تصبح شيئا أشبه بأب أو أم، وصولا إلى مرحلة معاناتها مما يُعرف بـ `متلازمة العش الفارغ`، التي تعبر عن ذلك الشعور بالحزن أو الوحدة، الذي قد ينتاب الآباء أو الأمهات، بسبب مغادرة أبنائهم المنزل للمرة الأولى. وفي هذه المرحلة تشعر كلارا، بأنها فعلت كل ما كان يفترض عليها القيام به”.
وهكذا، تتسم النسخ المعاصرة من وحش “فرانكنشتاين”، بتنوع مماثل لذاك الذي يتصف به مبتكروها. وتضطلع هذه الشخصيات الروائية بأغراض متعددة، فهي أدوات أدبية يتم التعبير من خلالها، عن هجاء أفكار ما، أو تُستخدم لإثارة مشاعر الرعب مثلا، أو لإيصال معنى رمزي. وحتى عندما تنشأ بين هذه الكائنات الآلية علاقة حب، كما ورد في رواية “ماشينز لايك مي” (آلات مثلي) للكاتب البريطاني إيان ماك إيوان، فلا يعدو الأمر في نهاية المطاف سوى ضرب من “ضروب حب الذات بشكل وحشي”. بجانب ذلك، يبدو واضحا أن نجم هذه الكائنات يبزغ ويأفل، بناء على الطريقة التي تُعامل بها من جانب بني البشر، وهو أمر لا تستطيع تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة لتطويرها أو البرامج الموضوعة لها، أن تتجاوزه.
وبحسب “اختبار تورنغ”، الذي يُستخدم لتحديد ما إذا كان حاسوب أو برنامج ما، قادرا على إبداء ذكاء مماثل للذكاء البشري أم لا، يتعين على المرء التعامل مع “العقل الاصطناعي” على أنه “عقل بشري”، إذا لم نستطع التمييز بينهما. لكن هذا المبدأ لا يُحترم من جانب الشخصيات البشرية في الروايات التي تحدثنا عنها سابقا، والتي تتصرف بناء على تحيزات ذات طابع بشري بشدة. وينجم ذلك إما عن خشيتها من الغرابة التي تتسم بها تلك الكائنات الآلية، أو لمجرد استيائها مما تتميز به من كمال. ففي رواية شيلي مثلا، كان بمقدور الوحش الذي ابتكره فيكتور فرانكنشتاين أن يكون أفضل من غالبيتنا، وطمح في أن يكون على شاكلة المُشرعين المسالمين الذين عاشوا في حقبة الفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخ. لكن سلوك الآخرين حياله، دفعه إلى أن يتصرف وفقا لأدنى النوازع والدوافع البشرية.
وبقدر ما يمثل ذلك نبأ سيئا بالنسبة لهذه الكائنات الآلية الشبيهة بالبشر، فهو يشكل أمرا إيجابيا للأدب، إذ يعبر عن حالة عدم يقين، يفضي إلى أن تعيش مثل هذه الأعمال الأدبية وتزدهر. فبمقدور تلك المخلوقات التي لا تماثلنا تماما، مساعدتنا على تحسين فهمنا لأنفسنا، حتى ولو لم تكن نتيجة ذلك، رائعة على الدوام. ولعل بوسعنا هنا الإشارة إلى عبارة ترد في رواية “آلات مثلي” على لسان روبوت يُدعى آدم، يقول فيها إنه في عالم “يحكمه أُناس آليون، ويخلو من الاضطرابات العاطفية. ستصبح غالبية الأعمال الأدبية زائدة عن الحاجة ولا صلة لها بالواقع”. لكن عزاءنا أن ذلك لن يحدث في غضون 30 عاما من الآن على الأقل. أليس كذلك؟
[ad_2]
Source link