مصر القديمة: هل كانت زيارة شامبليون لمصر سببا في وفاته مبكرا بمرض غريب؟
[ad_1]
- وائـل جمـال
- بي بي سي
في السادس من مارس/آذار عام 1832 في ساحة مقابر “بير لاشيز” في باريس، أقيمت مراسم جنازة مهيبة لأحد أهم علماء تاريخ مصر القديم، الفرنسي جان فرانسوا شامبليون.
وقبل أربع سنوات من هذا اليوم، كتب شامبليون رسالة إلى شقيقه الأكبر من مصر قال فيها: “إن كياني كله لمصر، وهي لي كل شيء”، لخّص فيها عشقا خاصا ومتلازمة جمعت بينه وبين مصر، في حياته عبر دراسة لغتها وتاريخها العريق، وعند موته عندما ربط البعض سبب وفاته بزيارته لها وتأثير مناخها على صحته.
استعصى فك أسرار تاريخ مصر القديم قرونا عديدة، منذ أن نُقش آخر نص مكتوب بالخط المصري القديم “الهيروغليفية” في جزيرة فيلة، جنوبي مصر، عام 394 ميلاديا، واندثرت لغة المصريين “المقدسة” بموت آخر كهنتها، حتى استجاب “حجر رشيد” عام 1822 لجهود شامبليون، لتُبعث حياة في تاريخ مصر القديم وأسراره.
وُلِد شامبليون فى 23 ديسمبر/كانون الأول عام 1790 فى مقاطعة فيجاك الفرنسية، ونظرا لاضطراب الأحوال السياسية في البلاد في أعقاب الثورة الفرنسية (1789-1799)، لم يستطع الالتحاق بالتعليم الرسمي، فوجهه شقيقه الأكبر جاك-جوزيف نحو تلقى دروس خاصة فى اللغتين اللاتينية واليونانية، ثم انتقل إلى مدينة غرونوبل للالتحاق بمدرسة ثانوية، وكان شقيقه يعمل باحثا فى معهد البحوث الفرنسى، وبدأ شامبليون فى سن 13 عاما الاهتمام بدراسة اللغات الشرقية، من بينها العربية والسريانية والعبرية.
تعرف شامبليون على العالم المرموق جوزيف فورييه، الذى كان قد شغل منصب سكرتير البعثة العلمية خلال حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801)، ودفعه فورييه إلى دراسة التاريخ، بعد أن أثارت مجموعته الخاصة وبحوثه العلمية فضول وإعجاب شامبليون “الصغير”، الذي ما لبث أن عشق مصر وتاريخها.
“ومضات نور في عتمة الليل”
لم يكن يتصور شامبليون الطفل في ذلك الوقت أن مجده بدأ في ذلك اليوم، 19 يوليو/تموز عام 1799، عندما عثر ضابط يدعى بيير فرانسوا بوشار، خلال حملة بونابرت على مصر، على حجر من الجرانوديوريت غير منتظم الشكل، ارتفاعه 113 سم وعرضه 75 سم، أثناء إجراء تحصينات عسكرية في مدينة رشيد.
يحمل الحجر نقشا لمرسوم ملكي يعود إلى عام 196 قبل الميلاد صدر فى مدينة “منف” تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه كهنة بثلاث كتابات ليقرأه العامة والخاصة من المصريين والطبقة الحاكمة اليونانية، فجاء النص مدونا بالكتابة الهيروغليفية (اللغة الرسمية فى مصر القديمة)، والديموطيقية (الكتابة الشعبية فى مصر القديمة)، واليونانية القديمة (لغة الطبقة الحاكمة).
استفاد شامبليون بعض الشيء من معرفته باللغة اليونانية في مقارنة النصوص الثلاثة، واستطاع بعد عناء أن يصل إلى قراءة بنائية، على الصعيدين اللغوي والصوتي، للنص وترجمته، لكنه التقط حل اللغز من دراسة اللغة القبطية، التي اعتبرها الأكثر قربا للغة المصرية القديمة، والتي تعلمها على يد يوحنا شفتشي، كاهن كنيسة “سان روش”، في إحدى ضواحي باريس.
وفى 14 سبتمبر/أيلول 1822 أمسك شامبليون بورقه، وأسرع إلى مقر عمل شقيقه في أكاديمية النقوش والآداب، قائلا عبارة شهيرة، تداولها مؤرخو سيرته :”المسألة الآن فى حوزتي، وضعت يدي على الموضوع”.
كتب شامبليون نتائج بحثه فى خطاب شهير يُعرف باسم “خطاب إلى السيد داسييه”، أمين أكاديمية العلوم والفنون، فى 27 سبتمبر/أيلول عام 1822، لم يكشف شامبليون في محتواه سوى عن جزء صغير من اكتشافه، نظرا لأنه كان فى حاجة إلى إجراء مراجعة لبعض النتائج.
“مصر التي تاقت نفسي إليها”
كلل شامبليون نجاحه بعد أن نشر ترجمة كاملة لنص حجر رشيد في عام 1828، وهو نفس العام الذي تشكلت فيه بعثة فرنسية-توسكانية تألفت من 12 عضوا، بقيادة شامبليون، هدفها زيارة مصر ودراسة آثارها عن قرب، والتأكد من نجاح مشروع قراءة النصوص المصرية القديمة وجها لوجه.
وطأت البعثة أرض مدينة الإسكندرية فى 18 أغسطس/آب عام 1828، وبعد وصول شامبليون إلى مصر، كتب رسالة إلى شقيقه الأكبر يقول فيها: “إننى أتحمل درجة حرارة الجو قدر استطاعتي، يبدو أننى قد ولدت فى هذا البلد، فالأجانب يرون ملامح وجهي أشبه بملامح رجل قبطي (مصري)”.
ويقول شامبليون في رسالة بتاريخ 22 أغسطس/آب 1828، وردت ضمن دراسة “الرسائل واليوميات خلال رحلة مصر” التي جمعتها المؤرخة هرمين هارتلبن: “لقد وطأت أرض مصر التي طالما تاقت نفسي إليها في 18 أغسطس/آب، واستقبلتني كأم حنون. سأحتفظ على الأرجح بصحة جيدة، كما رويت ظمأي من ماء النيل الرطب الذي يأتي عبر ترعة المحمودية التي أمر الباشا (محمد علي) بشقها”.
دامت رحلة شامبليون فى مصر 18 شهرا اكتشف خلالها خمسين موقعا أثريا، وكتب تفاصيل ونتائج رحلته فى ستة مجلدات كبيرة بعنوان “آثار مصر و النوبة”، سجل فيها مشاهداته اليومية عن زيارته للآثار المصرية القديمة، وتعليقاته التفصيلية، والنصوص التاريخية خطوة بخطوة خلال إعادة اكتشاف مصر القديمة، وكتب رسالة أخرى لشقيقه يقول فيها: “لقد جمعت أعمالا تكفيني العمر كله”.
وفي رسالته الأخيرة مودعا أرض مصر إلى الأبد من مدينة الإسكندرية بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1829 قال: “أخيرا سمح لي آمون العظيم بتوديع أرضه المقدسة، سأغادر مصر في الثاني أو الثالث من ديسمبر بعد أن غمرني أهلها القدامى والمعاصرون بكل جميل ومعروف … نحن جميعا في صحة جيدة، وأشعر بمزيد من القوة لمجابهة الزوابع والعواصف التي ستعترضنا في أعالي البحار خلال هذا الشهر من الملاحة … نحن مستعدون لتحمل ما هو أعتى من الأمواج الهائجة في سبيل رؤية فرنسا من جديد”.
عاد شامبليون إلى باريس، وحصل على عضوية أكاديمية النقوش و الآداب فى مايو/ أيار سنة 1830، وعُين في منصب أستاذ فى “الكوليج دى فرانس” سنة 1831، لكن اعتلال صحته وتدهورها جعله لم يـُلق سوى محاضرات معدودة فى الكرسي الذي أنشئ خصيصا له في دراسات تاريخ مصر القديم، ثم التقاعد مبكرا.
“غموض أسباب الوفاة”
كثر الجدل بشأن أسباب وفاة شامبليون، ويقول المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور في دراسته “شامبليون حياة من نور” إن مرض “السُل الرئوي كان أهم الأسباب جميعا، فضلا عن هشاشة رئته المعروفة منذ فترة طويلة”.
ويضيف لاكوتور: “إن محنة المناخ القاسي للغاية التي فرضت عليه في بداية عام 1830 لدى عودته من مصر (بعد مروره من جو الإسكندرية الخانق وتعرضه لثلج محجر تولون الصحي في فرنسا في شتاء لا يمكن تصور قسوته في ذلك العام، والأكثر برودة لنصف قرن كامل) حول الوهن الصحي إلى مرض قاتل”.
رفض المتخصصون المعاصرون لشامبليون اعتبار حالات الإغماء التي كانت تطرحه أرضا من حين لآخر، تشخيصا إكلينيكيا لإصابته بمرض السُل، فقد كان مريضا بمرض السكري، فضلا عن أزمات مرض النقرس التي عصفت بالسبع سنوات الأخيرة من حياته، حسبما أشارت التقارير الطبية وقتها.
كما توجد أسباب عديدة دعت إلى الاعتقاد بأن فترة إقامته في مصر، وظروفها المناخية، وشربه من ماء النيل، وما تناوله من طعام لم تكن غريبة عن التدهور المفاجئ لصحته، وفقا للاكوتور.
وقدم الأطباء الفرنسيون، كروفيليه ودبروسيه وروبير، تشخيصا لحالة شامبليون الصحية جاء فيه: “مرض معقد للغاية، حالة وهن بسبب مرض السكري، البقاء في الحجر الصحي، الانفعالات مع أحداث الثورة، الإرهاق المستمر والإحساس الدائم بأن الموت يقترب منه، تعد جميعها أسبابا معنوية لها آثار كبيرة على مريض السكري، فضلا عن التئام الجروح السيء الذي يساعد في انتشار مرض السُل الرئوي”.
وأضافوا أن “تفاقُم مرض النقرس، والمحن التي واجهت شامبليون ورحلته المرهقة (إلى مصر) والأجواء السيئة داخل مقابر ملوك (الفراعنة) وشرب كميات كبيرة من ماء النيل، كل ذلك تسبب في إصابته بمرض الكبد الذي جرى تشخصيه متأخرا جدا، وأوصله إلى القبر”.
ظل هذا الاعتقاد شائعا منذ وفاة شامبليون حتى طرح هوتان أشرفيان، الطبيب المتخصص في جامعة كوليدج لندن الملكية، فرضية جديدة نشرتها دورية “الفسيولوجيا العصبية السريرية” تشير إلى أن وفاة شامبليون كانت بسبب إصابته بأعراض مرض عصبي ناجم عن خلل في الخلايا العصبية الحركية، وخلايا الدماغ والحبل الشوكي.
ويقول أشرفيان، بحسب موقع “سيانس إيتافينير” الفرنسي المعني بشؤون العلوم والصحة: “موت شامبليون مبكرا يعزى إلى إصابته بالتعب والإرهاق الشديدين بعد زيارة مصر، ما يرجح أن سبب الوفاة ناجم عن إصابته بمرض التصلب الضموري الجانبي”.
ويستند أشرفيان إلى أنه خلال فترة إقامة شامبليون في مصر، لا توجد أي إشارة في المراسلات بشأن إصابته بمرض ليمفاوي أو عدوى من أي نوع، لكنه شكا بعد عودته إلى فرنسا من وهن العضلات، ثم شلل الأطراف وصعوبة في التنفس، لازمته حتى الوفاة.
وفي سردها للأسابيع الأخيرة في حياة شامبليون، تقول المؤرخة هرمين هارتلبن، إنه في 23 ديسمبر/كانون الأول، يوم ميلاده الواحد والأربعين، أراد المريض (شامبليون) أن يُنقل إلى مكتبه الذي كان يقع في شارع مازارين في باريس، الذي أسرع منه يوما ما في 14 سبتمبر/أيلول عام 1822 ليعلن لشقيقه نجاحه في حل اللغز، قائلا عن سبب نقله: “إن علمي وُلد هناك وأنا وهو نكّون وحدة لا تنفصم: إننا شيء واحد”.
ويعلق لاكوتورو على ذلك قائلا: “إنه موقف فكري مصري خالص لرجل يحتضر ينصهر فيه شامبليون مع علمه، فينصهر داخله الفكر والمكان والزمان والرسالة”.
توفي شامبليون فى الرابع من مارس/آذار 1832 عن عمر ناهز 42 عاما، وجرت مراسم جنازته في كنيسة سان روش، تلك الكنيسة التي كان لها مبلغ الأثر في حياته، والتي تعلم فيها اللغة القبطية، وكان قد أوصى بدفنه فى مقابر بير لاشيز في باريس، وأقيمت بجوار قبره مسلة على الطراز المصري القديم من الحجر الرملى.
استطاع شامبليون خلال حياة قصيرة مليئة بالصراعات، الشخصية والعلمية، أن يكشف أسرار وخبايا منظومة الكتابة المصرية القديمة، ويقول لاكوتور: “لا تكمن عظمة شامبليون في كونه نصّب نفسه صانعا للمعجزات، بل في معرفته كيف يجمع ومضات النور في عتمة الليل، يلملم شملها لتصير كشفا، جامعا في شخصه المكتشف الرائد والوارث لأعمال أسلافه، مؤسسا مشروعه على الدراسة والبحث وعلى مقدار يساويهما من الحدس”.
[ad_2]
Source link