كورونا غزة: ذات الضفيرة الطويلة التي أدمنت العزلة وتكتب مثل “بلدوزر”
[ad_1]
عندما كانت في مطلع الثلاثينيات من العمر، قررت نيروز أن تبتعد عن ضجيج مدينتها غزّة، وأن تعزل نفسها لسنوات في منزل العائلة لتتفرغ لكتابة القصص القصيرة، رغم أنها لم تكن قد كتبت أيا منها من قبل.
تركت عملها الحكومي، وتوقفت عن كتابة المقالات السياسية، وغيرت مسار حياتها.
قاطعت حرب 2014 خطتها تلك لفترة، لكنها عادت وأكملت مشروعها. ومن أصل 20 قصة كتبتها بالعربية، نشرت الفلسطينية، نيروز قرموط، أحد عشر نصا بعد أن حصلت على جائزة أدبية مرموقة لتترجم تلك النصوص وتنشرها بالإنجليزية. فكانت نتيجة تلك العزلة مجموعتها القصصية الأولى “عباءة بحر”، والتي أُطلقت في مهرجان أدبي كبير في اسكتلندا في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
الشابة التي اعتادت العزلة لا تعتبر أن الأمور تغيرت عليها كثيرا بسبب وباء كورونا.
تقول نيروز لبي بي سي: “زمن كورونا يشبه كل مراحل حياتي، نحن بالأساس لم نعش حياة طبيعية”.
عن العزلة والبحر
اختارت نيروز أن تعزل نفسها عن محيطها داخل مدينتها. “عزلت نفسي. فأصدقائي سافروا، العلاقات الاجتماعية هنا ليست حقيقية، هناك خوف اجتماعي من البعض، وهناك عدم القدرة على التعبير عن رأيك بحرية، هناك خوف من قول كلمة قد تفهم غلط”.
ابتعدَت عن المشاركة في الأنشطة الثقافية التي تراها “غير حقيقية، ومحددة فكريا سلفا”، وابتعدت عن زيارات الأقارب “فهي تحب أن تعيش نمط حياة حديث بعيد عن العشيرة الممتدة”، كما ابتعدت عن المجموعات النسوية “التي لم تتغير وجوهها القيادية منذ سنين”، وعن ورش تدريب الجندر “التي لا تزال موادها التدريبية على حالها منذ سنوات”، واكتفت بالكتابة وبالمشي أحيانا مع والدها، على شاطئ البحر بعد الفجر، وقبل أن يبدأ ضجيج موتورات توليد الكهرباء.
لم تكن تجرؤ على وضع قدمها في البحر “الملوث” بفعل مياه الصرف الصحي التي ترمى فيه من دون معالجة، بسبب قلة الوقود لتشغيل المحطات.
لذا لا تعتبر أن الوضع قد تغير عليها كثيرا بسبب وباء كورونا – الذي يبدو أنه بدأ ينتشر في غزة.
وهي تخشى الآن من تأثير الفيروس على أهل القطاع، وتقول “الحصار كان سببا في تأخر دخول الفيروس، لكن الآن المشافي بحاجة ماسة لدعم كبير”.
وصل عدد الوفيات في قطاع غزة إلى ثمانية أشخاص، (لحظة كتابة هذا التقرير)، في حين سُجل أكثر من ألف إصابة منذ مارس/آذار، لذلك تعيش غزة حالة الطوارئ منذ نحو أسبوعين.
تقول نيروز “العالم الآن أحس بنا في غزة. نحن مجموعة بشرية في نطاق جغرافي محدد مرصود في كل ما يدخل ويخرج منه، رتبت معطيات محددة وبالتالي حتى الإبداع محدد. إما أن يكون الإبداع للعيش في هذا العزل، أو إبداع الإنسان في تفكيره بطريقة للخروج منه”.
دمشق – غزة
لم تعش نيروز طيلة حياتها في غزة، فعلى عكس الحكايات التي اعتدنا سماعها – من وعن – فلسطينيين غادروا بلداتهم ومدنهم إلى دول أخرى، وكتبوا هم أو أبناؤهم أو أحفادهم عن تغريبتهم، أخذت الحياة نيروز إلى اتجاه مختلف. إذ ولدت في دمشق عام 1984، وعاشت فيها عشر سنوات، وبعدها انتقلت مع عائلتها إلى غزة إثر توقيع اتفاقية أوسلو.
عاشت “صدمة” بعد انتقالها من مدارس دمشق “القاسية والمنضبطة”، التي تعودت عليها، إلى مدرستها الجديدة في غزة. تتذكر مثلا كيف تفاجأت وهي تشهد رمي شبان زجاجات حارقة باتجاه شبابيك المدرسة، إثر خلاف سياسي في البلد، وكيف خرج طلاب المدرسة في حالة فوضى. وتتذكر صرامة المجتمع الجديد معها، وهي طفلة، وكيف شتمتها ابنة عمها لارتدائها تنورة قصيرة. وتقارن اتساع المساحة في دمشق بضيق غزة، ذات المباني المتلاصقة والازدحام الشديد.
“بعد وصولنا غزّة بقينا نعيش باستقرار معين لفترة حتى حدث تغير. فجأة انقلب المجتمع مثل الموج. بدأت الانتفاضة وبدأ القصف الإسرائيلي. كنت أقدم امتحان الثانوية العامة. أخلينا المدارس ولم نعش استقرارا طوال السنة”.
المرأة ووزارة المرأة
في عمر التاسعة عشر انضمت نيروز لوزارة شؤون المرأة، وأسست وحدة شكاوى ضد العنف في غزة، في عهد الوزيرة زهيرة كمال. “عرفت المجتمع جيدا، عرفت غزة شارعا شارعا، مخيما مخيما، كنت أذهب إلى أجهزة الشرطة، وألتقي العائلات، وأنسق مع الجمعيات الأهلية، وأتلقى الشكاوى، كنت أعمل بنهم وشغف. كانت أشعر أن هذه القضية قضيتي أنا لأني كنت مقهورة بسبب معاناتي في المدرسة والجامعة، كان هناك تهجم على مؤسسات التعليم”.
وتعني بذلك التهجم “الفهم الخاطئ للدين” كما تقول، وتأثيره على الطلاب وهم بعمر صغير. كتبت عن ذلك في قصة “الضفيرة الطويلة”؛ فالطفلة “قمر” تصطدم مع معلم الرياضيات، الأستاذ ابراهيم، “القصير، الممتلئ، ذو النظارات السميكة، والقميص الملون” الذي كان معارضا لغنائها في “يوم الأرض”. والذي يقول لها “تعرفين، في يوم الحساب، ستعلقين من جديلتك؟ ناهيك عن الدخان الكثيف حينما تشوين بنار جهنم لتركه مكشوفا؟ وهذا الصوت أليس أجمل في قراءة القرآن الكريم؟”.
يغضبها الكثير من برامج المنظمات المحلية والدولية التي تحمل شعار تمكين المرأة لأنها “لا تراعي خصوصية المكان الثقافية، ولا تهتم بتقديم قراءة حقيقية لدور الدين في المجتمع ولا بدراسة نقاط قوة وضعف المرأة الفلسطينية”.
تقول نيروز: “أنا ضد التطور الشكلي فقط لأدوار المرأة، دون تحسين مشاركتها الحقيقة على الأرض. أعرف أن الجندر هدفه النهائي تكافؤ فرص، من أجل أن يأتي يوم تختفي فيه وزارة شؤون المرأة، لا يجب أن يكون الاهتمام بالشكليات، ولا أن يكون الهدف هو المناصب، يجب أن يكون العمل من القاعدة باتجاه الأعلى، ليس العكس. من قبل كانت المرأة الفلسطينية قادرة على فرض نفسها بالفعل وليس بالحكي”.
في معظم قصصها التي كتبتها أثناء العزلة، نفهم أكثر عن ظروف المرأة الفلسطينية وعن حياتها اليومية وعن نقاشات تدور داخل البيوت. فمثلا في قصة “رضاعة طبيعية” نتابع ثلاثة أجيال من النساء من فترة ما بعد “النكبة” عام 1948، وتطور أشكال الظلم التي تعرضت له نساء العائلة تلك.
فعمة سارة “تقرر” تزويج سارة لابنها فؤاد – غير المتعلم – وتوافق العائلة، فتلغي بذلك حلم الشابة بالدراسة في جامعة القاهرة. وبعد إنجابهما ثلاثة أولاد، يقرر فؤاد، إيجاد زوجة ثانية. سارة بدورها تزوج ابنتها، يارا، لفلسطيني مقيم في باريس ويكبرها بعشرين عاما. يحبسها في المنزل فلا ترى من باريس شيئا. ثم تعود إلى غزة بعد الطلاق ومعها ابنتها.
غزّة – اسكتلندا
لم تستطع نيروز مغادرة غزة أبدا طوال سنين، حتى لزيارة الضفة الغربية، فإجراءات حصولها على بطاقة هوية تصدرها السلطة الفلسطينية استغرقت 15 عاما.
عام 2018، وكانت بعمر الرابعة والثلاثين، ظهرت صور نيروز بشعرها الطويل في صحف بريطانية أجرت مقابلات معها، بعد رفض وزارة الداخلية البريطانية منحها تأشيرة زيارة مرتين، هي وعدد من الكتاب المدعويين للمشاركة بمهرجان الكتاب في اسكتلندا، والذي يوصف بأنه “أكبر وأفضل حدث أدبي على مستوى العالم”.
وفي المحاولة الثالثة، وافقت السلطات على منحها التأشيرة.
مجموعتها القصصية الأولى “عباءة بحر” أوصلتها إلى اسكتلندا – أول مكان تطأه قدماها خارج قطاع غزة.
قرأتٌ عن قصة مغادرتها غزة إلى بريطانيا في أكثر من مكان. كل التفاصيل لا تزال في بالها وتحكي عن تلك التجربة بحماس كأنها تحكيها لأول مرة. تخبرني عن الساعات التي قضتها تختم أوراقها من مكتب أمن حركة حماس في معبر رفح، ثم من أمن السلطة الفلسطينية، وعن رحلة الباص التي استغرقت 4 ساعات انتقالا إلى الجانب المصري من المعبر، والانتظار لساعات طويلة – واقفة، والتفتيش على الحواجز في الصحراء قبل أن تصل الفندق “كالخارجة من معركة”، لتلحق بعدها بطائرتها.
“كان عليّ إنهاء كل أموري وحدي، لم يكن بانتظاري أحد. وكانت أول مرة أركب فيها طائرة. وأول مرة أرى لوحة الرحلات.. نحن بغزة – خاصة البنات – حتى مشي لا نمشي كثيرا. كنت لوحدي بالمطارات ومحطات القطار. كنت مرهقة جدا جدا بعد سفر استمر ثلاثة أيام. ووجدت الإعلام ينتظرني”.
منذ عودتها من اسكتلندا العام الماضي ونيروز مشغولة باحتفاء الإعلام المحلي بها – رغم أن قصصها لم تنشر بعد بالعربية. وشاركت بقصتين في كتاب يضم تجارب نساء من مناطق صراع مختلفة، ومن المقرر أن يصدر في نهاية العام بالإنجليزية والإسبانية والإيطالية.
عاشت أحداثا سياسية وعسكرية كثيرة كنا نتابعها عبر الشاشات: الانتفاضة الثانية عام 2000، انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة 2005، فوز حماس بانتخابات 2006 التشريعية، وإغلاق المعابر من الجانب الإسرائيلي ومعبر رفح من الجانب المصري ليبدأ حصار غزة برا وبحرا وجوا، وبعدها الاقتتال الداخلي، وحرب 2014، وغيرها
وتقول إن ما كتبته هو “نتاج كل هالضجة” في غزة. “كنت أكتب مثل بلدوزر”، تضحك نيروز.
وتضيف “لا أحب اللغويات الرنانة المعقدة ولا العنتريات، ولا أحب لغة الاستعطاف، ولا أصور الفلسطيني كضحية، ولا أحب الكذب في تصوير الفلسطيني، بل أكتب عن تجربة الإنسان بكل حالاتها، بكل فرحها وخوفها وحزنها، أحفر في حياة الناس الحالية”.
[ad_2]
Source link