كيف ساهم رواد الجراحة في تطوير علم التعقيم وتقليل الوفيات؟
[ad_1]
في الستينيات من القرن التاسع عشر، كانت فرص المريض في البقاء على قيد الحياة بعد الخضوع لعملية جراحية على يد جراح متمرس في مستشفى أوروبي حديث، قد تصل إلى ثمانين في المائة، لكن فرصه في مغادرة المستشفى حيا لا تتعدى 50 في المئة.
فقد كانت أجنحة المستشفيات آنذاك بؤرة لانتشار العدوى والأمراض. ولم يفطن الجراحون، الذين كانوا يفحصون جروح مرضاهم ويتابعون انتشار الغرغرينا، أو الأنسجة الميتة، في أجزاء جسمهم، إلى أسباب موت هذا العدد الكبير من المرضى. وكانوا يرجعون ذلك إلى “مضاعفات البقاء في المستشفى لمدة طويلة”، وتعرف هذه الحالة اليوم باسم مرض الإنتان أو تعفن الدم. وكان الأطباء يظنون أن هذه الحالة ناتجة عن الروائح الكريهة أو الأبخرة العفنة التي تنتقل عبر الهواء.
ويقول راوان باركس، استشاري الجراحة ونائب رئيس كلية الجراحين الملكية في إدنبرة، إن “مفهوم النظافة أو مخاطر انتقال العدوى كما نعرفه اليوم، لم يكن موجودا في المستشفيات آنذاك”.
ويفسر باركس ذلك بالقول إن الجراحين حينها كانوا يرتدون في غرف العمليات نفس المعاطف التي يرتدونها خارج المستشفى، ويضعون أدواتهم في جيوبهم، ولم تكن الملاءات تغسل بانتظام، وكل هذه العادات التي تعد مخيفة اليوم، كانت آنذاك معتادة.
وبعض الأطباء كانوا يفتخرون بأنهم يضعون على جروح المرضى ضمادات مستعملة، حتى لا يهدرون موارد المستشفى القيمة.
وبالتوازي مع تزايد الاعتماد على الآلات والتوسع في شبكات السكك الحديدية، زادت الحوادث والإصابات.
وكانت الغالبية العظمى من العلميات الجراحية تنتهي ببتر الأطراف. فإذا أصيب المريض على سبيل المثال، بكسر مضاعف، حين تخترق العظام الجلد، كان الجرح يلتهب ويتلوث لا محالة، ولا يجد الجراح مفرا من البتر.
وعندما عيّن جوزيف ليستر أستاذا للجراحة بالأجنحة الجديدة بمستشفى غلاسكو الملكية، لم يختلف معدل الوفيات في المستشفى كثيرا عنه في سائر المستشفيات. وكان ليستر يعرف أن نحو نصف مرضاه سيقضون نحبهم. لكنه، على عكس الكثير من زملائه عقد العزم على إحداث تغيير في المستشفى.
ويصف ستيفن كير، أمين المكتبة بكلية الجراحين الملكية في إدنبرة، ليستر بأنه كان جادا وصارما، وكان يريد تحسين أوضاع البشر. وكان يبذل قصارى جهده لخفض أعداد الوفيات الناجمة عن تلوث الجروح بعد العمليات الجراحية.
وإلى جانب خبرته في الجراحة، كان ليستر عالما هاويا، بفضل الدروس التي تعلمها من والده. وكان يمضي وقت فراغه في فحص الأنسجة المصابة لدى الضفادع، واكتشف أن الغرغرينا هي عملية تعفن لا تحدث إلا عندما يتعرض النسيج التالف للهواء. لكن السؤال الذي كان يؤرقه هو ما إن كان التلوث ناتجا عن الهواء نفسه أم عن شيء آخر يحمله الهواء؟
وساعد ليستر في الإجابة على هذا التساؤل، زميله توماس أندرسون أستاذ الكيمياء، الذي عرّفه على التجارب التي يجريها لويس باستور في فرنسا.
وفي إحدى تجاربه الشهيرة، صب باستور سائلا يختمر في المعتاد، وعقمه باستخدام الحرارة. ولاحظ باستور أن القارورة تسمح بدخول الهواء لكنها تحتجز الجسيمات التي يحملها الهواء في الجزء الذي يتخذ شكلا منحنيا منها. واقترح باستور أن هذه الجسيمات هي الجراثيم، أي الكائنات الدقيقة التي تسبب تحلل المواد العضوية.
وهنا أدرك ليستر أن هذه الكائنات التي لا تُرى بالعين المجردة هي التي تقتل مرضاه. ومن ثم بحث عن طرق لتعقيم الجروح، غير الحرارة. ووقع اختيار ليستر على حمض الكربوليك أو الفينول، الذي كان يستخدم آنذاك للقضاء على الروائح الكريهة في بالوعات الصرف الصحي. وعلى غرار جراحي القرن التاسع عشر، قرر ليستر تجربة نظريته على أحد المرضى.
وفي هذا الوقت، تعرض جيمس غرينليز، البالغ من العمر 11 عاما، لحادث تصادم أسفر عن إصابته بكسر مضاعف، وبرزت عظامه من جرح طوله بوصة ونصف في ساقه اليسرى. واستخدم ليستر الجبيرة لتثبيت العظام، وطلب من فريقه تضميد الجرح بضمادة مبللة بحمض الكربوليك. ثم وضع فوقها طبقة من رقائق القصدير لمنع الحمض من التبخر.
وبعد أربعة أيام، عندما فحص ليستر الجرح، لم يجد أنسجة ميتة ومتعفنة كما توقع، بل كان الجرح نظيفا، ولاحظ فقط احمرارا بسبب الحمض. ولولا هذه الطريقة في التضميد، لكانت ساق جيمس بترت كحال غيره من المرضى في الماضي. لكنه بعد ستة أسابيع من العناية، استرد عافيتة وخرج من المستشفى على قدميه.
ومن المؤسف أن قواعد النظافة الأساسية في المستشفيات وأساليب التعقيم لم يطبقها الجراحون في وقت مبكر لإنقاذ المرضى الذين توفي الكثير منهم جراء مضاعفات العمليات الجراحية. فقبل أن يتوصل ليستر إلى هذه الطريقة بنحو عشرين عاما، وضع إيغناز سيميلويز، الطبيب المجري في فيينا، اجراءات لتعقيم اليدين والأدوات قبل ملامسة المرضى.
إذ لاحظ سيميلويز، الذي كان يعمل في مستشفى للولادة، أن معدلات الوفيات المرتفعة بشدة في المستشفى سببها أن الأطباء ينقلون جسيمات من الجثث التي يشرحونها إلى المرضى الأحياء. ورغم أنه لم يدرك حينها أن هذه الجسيمات هي الكائنات الدقيقة، إلا أنه نجح في تقليص معدلات الوفيات بين الحوامل من خلال إلزام الأطباء والممرضين بالمستشفى بغسل أيديهم بمحلول الكلور.
لكن تعليمات سيميلويز لم تلق رواجا بين الأطباء ولم تعرها الهيئات الطبية النمساوية والمجرية اهتماما يذكر. وأثار ذلك حنق سيمليويز وعبر عن غضبه العارم لتجاهل أفكاره في منشوراته التي تكشف عن استيائه الشديد من الطريقة التي عومل بها.
لكنه في النهاية نقل إلى مصحة نفسية حيث مات في غضون أيام جراء الإصابة بتسمم الدم. ولا يوجد دليل على أن ليستر قرأ منشوراته.
لكن البطلة الأخرى في هذه القصة، لحسن الحظ، كانت أكثر قدرة على الإقناع من سيميلويز.
وتقول آن ماري رافيرتي، رئيسة الكلية الملكية للتمريض، إن فلورنس نايتنغيل، كانت تتمتع بقدرة فائقة على التواصل مع الآخرين.
وفي عام 1854، كلفت الحكومة البريطانية نايتنغيل بتحسين أوضاع الجنود الذين أصيبوا في حرب القرم. وعندما وصلت إلى المستشفى في ضاحية سكوتاري في اسطنبول حاليا، وجدته غارقا في الفوضى. إذ كانت الأجنحة غير نظيفة والطعام شحيحا، ولا يوجد إلا القليل من العاملين لتقديم الرعاية الصحية اللازمة للمرضى.
ولم تعمل نايتنغيل على تنسيق الموارد وتحسين الأوضاع فحسب، بل كانت أيضا تجمع بيانات إحصائية وترسلها إلى بريطانيا لإثبات أهمية الجهود التي تبذلها مع فريقها في المستشفى. وتقول رافرتي، إن نايتنغيل استطاعت أن تثبت أن عدد الجنود الذين يروحون ضحية الإهمال ونقص الرعاية يفوق عدد نظرائهم من ضحايا المعارك في ساحة القتال.
ووضعت نايتنغيل قواعد للنظافة العامة آنذاك لا تزال تصلح حتى يومنا هنا لمنع انتشار الجائحة الأخيرة، فقد كانت تحرص على ترك مسافات آمنة بين الأسرّة، وتشدد على أهمية غسل اليدين والنظافة العامة والتهوية وسبل تخفيف آلام المرضى والرعاية بهم.
ولعل نايتنغيل قد سبقت باستور وليستر في فهم مسببات الأمراض، إذ كانت تطبق مبادئ حركة الصحة العامة في العصر الفيكتوري، التي اهتمت بتوفير المياه النظيفة وإنشاء مرافق الصرف الصحي في المدن البريطانية. ولهذا شهد المستشفى الذي كانت تعمل به نايتنغيل أكبر تراجع في معدل الوفيات بعد إصلاح أنبوب صرف صحي تالف.
وفي غلاسكو، بعد نجاح تجاربه في التضميد، اهتم ليستر بوضع إجراءات النظافة العامة في غرف العمليات، مثل غسل اليدين والأدوات بحمض الكربوليك وابتكر أداة عجيبة لتعقيم منضدة العمليات بأكملها ببخار الكربوليك.
وطور ليستر الخيوط الجراحية المصنوعة من أمعاء الحيوانات، أو بالأحرى الأغنام، التي تذوب في الجسم. وفي عام 1876، عندما نشر نتائج دراساته، نجح في خفض معدل الوفيات من 45 في المئة إلى 15 في المئة.
وقد يتخيل المرء أن مستشفيات العالم كانت ستتسابق لتطبيق إصلاحات نايتنغيل والتقنيات الجراحية الجديدة التي وضعها ليستر على الفور بعد نجاحهما في خفض معدل الوفيات. لكن في الحقيقة كان تشدد الهيئات الطبية في القرن التاسع عشر وغطرستها أشد مما تتصور.
وبينما روعيت تعليمات نايتنغيل عند تصميم الكثير من المستشفيات الجديدة، فإن المبادئ التي أرساها ليستر ونظريته بأن الأمراض تنتقل بسبب الجراثيم كانت موضع سخرية، وقوبل استخدام حمض الكربوليك بالرفض لكونه يسبب ألما دون مبرر.
ويقول كير، إن جيمس سبينس، الجراح الاسكتلندي ورئيس كلية الجراحين الملكية بإدنبرة، عارض أساليب ليستر بشدة، وعندما توفي أحد مرضاه أثناء الجراحة، ألقى سبينس باللائمة على الخيوط الجراحية الجديدة التي ابتكرها ليستر. وفُصل مساعد سبينس عن العمل بعدما ذكر أن المريض قد مات بسبب خطأ جراحي.
ولم تحظ نظريات ومبادئ ليستر الجديدة بقبول عالمي إلا بعد أن عرضها بنفسه في لندن. وفي منتصف السبعينيات من القرن التاسع عشر، تخلى معظم الجراحين عن معاطفهم الملوثة ببقع الدماء وشرعوا في غسل أيديهم قبل العمليات الجراحية وتعقيم أدواتهم.
وبدلا من تعقيم المناضد ببخار حمض الكربوليك، أدرك الجراحون أنه من الأفضل إجراء العمليات الجراحية في غرف عمليات نظيفة وغسل اليدين وارتداء الجوارب والكمامات.
ويرى باركس، الذي يعمل جراحا في مستشفى إدنبرة الذي أمضى فيه ليستر معظم حياته المهنية، أنه لا شيء في تاريخ الجراحة ساعد في تحسين معايير العمليات الجراحية ونتائجها مثل مبادئ التنظيف والتعقيم.
ويقول بارك “إن ليستر كثيرا ما يلقب بالأب الروحي للجراحة المعاصرة، لأنه وضع أسس الرعاية الجراحية والعناية بالجروح، ويغمرني الفخر كلما أفكر أن هذه التغيرات الكبرى في الجراحة حدثت في المستشفى الذي أعمل به”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Future
[ad_2]
Source link