انفجار بيروت: هل يعيش لبنان صدمة جماعية؟
[ad_1]
“حين مشيتُ فوق الزجاج المهشّم، وسمعتُ صوت الركام يُطحن تحت قدماي، شعرت بخدر. عاودتني مشاهد من عام 1984، حين ضربت قذيفة بيتنا، وأصيبت أمي. أردت أن أبكي، لكن دموعي تجمّدت”.
سلمى صحافية، وأم لثلاثة أولاد أصغرهم في المدرسة الثانوية. وعايشت كمعظم أبناء جيلها من اللبنانيين، حروباً وتفجيرات وصواريخ واغتيالات.
وقبل تاريخ 4 أغسطس/آب، ظنّت أنّ شيئاً لم يعد يصدمها. حين جالت في الأحياء المتضررة من تفجير ميناء بيروت، اختلط في ذهنها الحاضر بالذكرى، وأسقطت هول ما شهدته على الأرض، على تاريخ عائلتها.
كانت مراهقة، حين ضربت القذيفة بيتها، ورأت الدماء تنفر من جسد والدتها المهشّم. تحوّلت بعد الحادث من بنت لاهية إلى ربّة منزل ومسؤولة عن تربية إخوتها الأصغر سناً. مضت ثلاثون سنة، اعتقدت سلمى أنّها تعافت، خصوصاً أنّ والدتها بقيت على قيد الحياة. لكنّ المشي بين أنقاض أبنية تعرفها، أيقظ الصدمات القديمة، وأفقدها القدرة على النوم والتركيز.
تتشارك سلمى ذلك الشعور المستجد بالقلق مع لبنانيين آخرين، يكتبون عن أعراضهم النفسية بعد التفجير، على مواقع التواصل: بكاء متواصل، كوابيس، عدم قدرة على النوم، حاجة ملحّة لمشاهدة فيديو التفجير مراراً، في مقابل الشعور بالتخدير التام، والانفصال الشعوري عن الواقع.
فهل استحكم اضطراب ما بعد الصدمة باللبنانيين جماعياً؟
الصدمات المركّبة: وحشٌ من نوع آخر
تنتقد الاستشارية النفسية والمتخصصة في علم نفس الصدمات، آلاء حجازي، استخدام عبارة ما بعد الصدمة، لأنها تعني أن الصدمة انتهت، وذلك يكون في الغالب منافياً للواقع، كما في حالة تفجير بيروت الأخير مثلاً.
تقول حجازي إنّ التشخيص النفسي المعتمد عالمياً لأعراض ما بعد الصدمة، يبنى في العادة على دراسة حالات الاغتصاب، العنف المنزلي، وغيرها من الصدمات الفردية. “لكن في حالات الحروب والأسر والتعذيب، يختلف الباحثون في المجال حول ما إذا كان التشخيص المعتمد لأعراض ما بعد الصدمة، هو الأمثل لتوصيف الصدمات المركبة”.
الصدمات المركبة بحسب حجازي، هي نتاج مزيج من العوامل التالية: “تكرار التعرض للعنف، علم الشخص انه سيتعرّض للأذى ثانية، ومعرفته باستحالة الهروب أو تفادي العنف المنزلي أو الأسر أو التعذيب، وذلك ينطبق على حالتنا في لبنان.
لذلك من الأفضل تسمية ما نعيشه باضطراب ما بعد الصدمة المركّب، وهو وحش من نوع آخر، يختلف تماماً عن ذلك الناتج عن صدمة واحدة”.
الوقت الكافي للحزن
كذلك تقول الطبيبة النفسية في مستشفى أوتيل ديو والاستاذة المحاضرة في كلية الطب في جامعة القديس يوسف في بيروت، هلا كرباج، إنه لا يمكن الحديث عن تشخيص فعليّ لاضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder) إلا بعد شهر على الأقلّ من مرور الحدث الصادم.
وتشير إلى أنّ الدراسات تُفيد بأنّ نسبة معيّنة فقط ممن شهدوا حدثاً صادماً جماعياً، يصنفون عيادياً في خانة اضطراب ما بعد الصدمة، بعد مرور شهر على الأقلّ. أما الآخرون، فقد يعانون من مشاكل ثانية، مثل الاكتئاب والقلق، أو يجدون طريقة لتجاوز الأزمة.
تروي كرباج لبي بي سي، مشاهداتها بعد أيام قليلة من التفجير، من خلال الحالات التي عاينتها أو تواصلت معها.
“أكثرية الناس يشعرون بالحزن والغضب والخوف ويجدون صعوبة بالتركيز على عملهم، يشعرون بالقلق، يجدون صعوبة بالنوم، وإن ناموا يرون كوابيس، كما زاد استهلاكهم للكحول والتبغ. نلاحظ أيضاً انفعالية زائدة، وإحساساً لدى البعض بأنّ ما يعيشونه ليس حقيقياً، ومن هنا حاجتهم لتكرار مشاهدة فيديو التفجير مراراً، للتأكد أنّه حدث بالفعل”.
تقول كرباج إنّ الطبّ النفسي لا يصنّف كلّ ردود الفعل السابق ذكرها في خانة الاضطرابات. “الحدث صادم ومفاجئ، عاشه الناس كأنّه جريمة موجّهة ضدّهم. يحتاجُ كلّ شخص إلى وقت لاستيعاب ذلك.
ردّة الفعل الطبيعية هي الحزن والبكاء والارتباك، ويجب إعطاء الوقت الكافي لذلك”.
بحسب كرباج، فإنّ “ما اختبره الناس بعد التفجير، ردود فعل طبيعيّة، لا تحتاج إلى تدخّل علاجي فوري، إلا في حالات متقدّمة جداً، مثلاً إن فقد الشخص القدرة على الكلام بالكامل، أو توقّف عن الحركة، أو تقوقع على نفسه لأيام من دون أكل أو نوم، أو لديه أفكار انتحارية، عندها نقيّم كأطباء الحالة وطريقة التدخّل المناسبة”.
يعد التشخيص السريري لحالة التروما، أمرا معقّداً، ويحرص المختصون على توخّي الدقّة في توصيفه وشرحه، مع العناية بخصوصية كلّ حالة، ومع إعطاء الوقت اللازم لكلّ شخص كي يتعافى.
أعراض اضطراب ما بعد الصدمة
في معظم الحالات، تظهر الأعراض خلال الشهر الأول بعد حدث صادم، أحياناً تتأخر لأشهر وحتى لسنوات. وتختلف الأعراض بين المصابين، لكنها تشمل عموماً:
- استعادة الحدث بشكل متكرر ولا إرادي، من خلال كوابيس، أو ذكريات وصور من الماضي، وأفكار سلبية مستمرّة عن التجربة الصادمة.
- ألم، تعرق، شعور بالغثيان، ارتعاش.
- تجنب بعض الأشخاص أو الأماكن التي تذكر الشخص بالصدمة.
- التخدير العاطفي.
- فرط النشاط.
- نوبات الغضب.
- أرق.
- صعوبة في التركيز.
- وقد يؤدي الحدث الصادم إلى مشاكل نفسية أخرى مثل الاكتئاب أو القلق أو الرهاب، تعاطي المخدرات أو الكحول، وآلام جسدية مزمنة مثل الصداع وآلام المعدة.
المصدر: هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا
كنس الآلام تحت السجادة
ما يثير الحيرة في الحالة اللبنانية، هو تلك العجلة للنهوض والمواصلة من جديد، كأنّ شيئاً لم يكن.
ومن أبرز سرديات اللبنانيين عن أنفسهم، أسطورة طائر الفينيق الذي يحترق ثمّ ينهض من تحت رماده. فهل هذه أيضاً من أعراض التكيّف مع الصدمة؟
سرديّة الصمود ليست جديدة. فحين انتهت الحرب الأهلية في لبنان، كنست الآلام تحت السجادة، تصالح المتصارعون، صدر عفو عام، وأعلن اللبنانيون أنّهم نهضوا من تحت الركام.
بسرعة أزالت جرافات الاعمار معالم الخراب عن وجه المدينة، وقالوا إنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام. وحدهنّ أمهات المفقودين واصلن تذكير اللبنانيين بأنهم حين يمشون في شوارع بيروت وحدائقها، فإنهم يطأون التراب فوق مقابر جماعية مجهولة.
طمرت الأشلاء تحت طبقات من النسيان، وتحوّلت سرديّة الصمود والمرونة النفسية إلى حكاية ما قبل النوم، يرويها اللبنانيون لأنفسهم، وتستعاد عند كل محطّة: حروب إسرائيل في التسعينيات، سلسلة الاغتيالات السياسية عام 2005، حرب تمّوز/يوليو 2006، الحروب الأهلية الصغيرة في بيروت وطرابلس، تداعيات الحرب السورية وما تلاها من نزوح… عند كلّ محطّة، ينظّف اللبنانيون الدمار، ويبدأون من جديد، كأنّ أحداً لم يقتل هنا.
تهافت الصمود
تكتب صفاء طالب عبر حسابها على فايسبوك عن يوميات قلقها المستجدّ بعد تفجير بيروت، عن خشيتها من احتمال القصف الإسرائيلي، من التعرّض للسرقة، من ركوب المصعد، وتقول: “يزعجني خطاب الأمل والنهوض وعودة الحياة الطبيعية، هذه ليست بلاداً للحياة، هذه بلاد القلق الدائم والخسارات المتلاحقة”.
وعبر صفحته على فايسبوك أيضاً، يكتب الروائي اللبناني المقيم في كندا هلال شومان: “لم أعد أستطيع أن أتمالك نفسي طوال الوقت. المهام التي كنت أنجزها بعشر دقائق، تستغرق الآن ساعتين لإكمالها. إن استلقيت على الأريكة، أبقى مكاني لساعات، لا أفعل شيئاً على الاطلاق”.
يتابع: “ولدتُ خلال الاجتياح، عشت حرباً لأهلية، حربين إسرائيليتين، وحرباً أهلية صغيرة في شوارع بيروت (مواجهات 7 مايو/أيار 2008)، وكلّ تلك التفجيرات الصغيرة والاغتيالات السياسية على مرّ السنين. لست مقيماً في البلد الآن حتى. فما الذي حدث هذه المرّة؟ لماذا لم نعد قادرين على إدارة مشاعرنا؟ ما الذي تغيّر؟”.
يجيب شومان على سؤاله بالقول: “أعتقد أن هناك سردية انهارت في أذهاننا، بغض النظر عمّا كانت عليه مواقفنا السياسية السابقة للحدث. مثّل تفجير المرفأ اعتداء مرعباً على تلك السردية. أعرف أن صلاحية ما يسمونه الصمود، انتهت بالكامل. لقد خسرنا المعنى والغرض من التفاصيل الصغيرة التي كانت تشكل نظام دعم نفسيّ لنا. ما حدث هو تمظهر لأسوأ مخاوفنا، وباتت مشهديته حاضرةً في كلّ بيت، حيث لا أبواب ولا شبابيك”.
تشخيص الانهيار سياسيّ
تدرس الباحثة الأنثروبولوجية والعاملة الاجتماعية، لمياء مغنية، سياسات المعاناة في ظلّ النزوح السوري في لبنان، ومساحات التعبير عن الصدمة، بدءاً من الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وصولاً إلى حرب تمّوز.
تقول مغنية لـ”بي بي سي” إنّ المنظمات الإنسانية تدخّلت لتقديم برامج للمساعدة النفسية في لبنان، خلال مراحل زمنيّة مختلفة، “لكنها غالباً ما كانت تجد صعوبة في تشخيص حالات أعراض ما يسمّى كرب ما بعد الصدمة، لأن معظم اللبنانيين إن سألوا، يعلنون أنّهم لا يكترثون ولا يبالون. لكن ماذا نعني حين نقول إنّ اللبنانيين لا يعانون؟”.
للإجابة على السؤال محور بحثها، تقول مغنية إنّ المعاناة “ليست شأناً شخصياً فقط، بل أيديولوجياً واقتصادياً أيضاً”. وتذكر في هذا السياق حركة اعمار وسط المدينة التجاري بعد الحرب الأهلية، وأعمال البناء بعد الحرب الاسرائيلية 2006، حين رفع شعار “سترجع الضاحية (الجنوبية لبيروت) أجمل ممّا كانت”.
برأيها، فإنّ هاتين المحطتين تشكّلان ما يشبه “مسحاً سريعاً على مرحلتين لذاكرة التروما والمعاناة الجماعية، ما لم يفسح للفرد كي يقول: “حسناً، أنا أتألّم”. تقول مغنية إن ذلك المسح أو المحو “خلق شعباً كاملاً يفتقد مساحة البوح أو الشعور بأنّ أحداً ما يسمع ألمه. هذا هو ما يصطلح على تسميته بالصمود اللبناني، والذي بات خطاباً عاماً”.
ترى مغنية إنّ شعار “صامدون” وتفرعاته مثل طائر الفينيق المنبعث من بين الرماد، لم تعد تصلح اليوم، خصوصاً بعد كارثة مثل تفجير المرفأ، وبعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، إذ بات الناس يسائلون مفهوم الصمود الفارغ من أيّ مضمون.
من جهتها، تقول آلاء حجازي إنّ “الصمود أمر مهم بالمطلق، لكن من دون القفز فوق عواطف الحداد والغضب والخوف، لأن ما لا نقرّ به يكدّس بطريقة غير واعية، ما يجعل التكيف سطحياً، ويبقي التصدعات عالقة في دواخلنا، إن لم نجد مساحة للتعبير عنها”.
“أجيال ورا أجيال”
يبدو الشعور بالصدمة والقلق كأنه خيطٌ لا ينقطع، يصل جيلاً بجيل، ومرحلة بمرحلة، فيمتدّ في لبنان إلى ما لانهاية. فهل أصبحت أعراض ما يسمّى باضطراب ما بعد الصدمة، حالة ملازمة للشخصية اللبنانية؟
تهتمّ آلاء حجازي بمجال بحثي لا يزال في بدايته، وهو تسليط الضوء على تناقل التروما عبر الأجيال. تخبرنا: “أُجريت بعض الدراسات على الفئران، ولاحظ العلماء أنّه حين يتعرّض الجيل الأول لصدمات كثيرة، فإنّ تغييرات جينية تطرأ حتى في الجيل الثالث. ولكن، سواء نظرنا إليها بطريقة بيولوجية بحتة، أو من ناحية الظروف المحيطة بنشأة الأفراد، سنجد أن التروما المركبة تغير شخصية الإنسان، فتؤثر على رؤيتنا لأنفسنا، وعلى علاقتنا بالواقع، وعلاقتنا بالمستقبل، وعلى طريقة تعاملنا مع عواطفنا”.
تقول حجازي: “من خلال مشاهداتي العيادية، ألاحظ أنّ الأجيال اللبنانية المتعاقبة تتكيف مع التروما بعدّة طرق، منها الانفصال العاطفي، وهو حالة تختلف عن الكبت والانكار، وتتمثّل بفقدان التواصل مع أجزاء من أنفسنا تحوي تجاربنا وذكرياتنا وعواطفنا الأليمة”.
من السمات التي تلاحظها حجازي لدى مختلف الأجيال اللبنانية ما تسميه بالإنكار التاريخي، “بمعنى أننا نرمي كلّ شيء خلفنا، ونقرّر أن نعيش، وتلك طريقة لتخفيف الألم، لكنها تؤدي إلى عدم تصريفه. كذلك نلاحظ في المجتمع اللبناني بكثرة شخصية الأم التي لا تستطيع البقاء للحظات قليلة من دون معرفة مكان أولادها، وتتصل بهم طول الوقت إن تأخروا عن موعد عودتهم إلى المنزل، وشخصية الأب الغاضب والدائم الصراخ، كلّ هذا حصاد تروما مركبة، كأننا أمام شعب يعيش في غيمة من القلق”.
وتقول حجازي إنّ أحد مؤشرات التروما التراكمية، “علاقتنا بالمستقبل والزمن، اذ هناك شريحة معينة من اللبنانيين تشعر دوماً أنّها لا تستطيع تأسيس شيء، ولا ترغب بأن تضع جهداً بمشاريع طويلة الأمد، لأن لا شيء مؤكّد، كأن علاقتنا بالزمن منبعجة، وهذه من أعراض الصدمة”.
العدالة الاجتماعية علاج
شهدت السنوات الأخيرة اتساعاً لمساحة التوعية حول الصحّة النفسية في لبنان، مع انتشار برامج دعم للمصابين باكتئاب، وانشاء خطّ ساخن لمساعدة من يحاولون الانتحار.
يتعاطى اللبنانيون العقاقير المهدئة أو تلك المضادة للاكتئاب بكثرة، وأحياناً من دون وصفة طبيب. والآن، بعد التفجير الأخير، يعطي الاعلام المحلّي مساحة كبيرة للحديث حول تبعات الصدمة، وكيفيّة علاجها.
على مواقع التواصل، خفتت خطابات الصمود، لصالح الحداد، والسؤال عن عبثيّة المشهد، والمناداة بتعليق المشانق والانتقام. كثر يروون كوابيسهم، ويعلنون أنّهم “ليسوا بخير”.
تشير الطبيبة النفسية هلا كرباج إلى أنّ كلّ شخص لديه طريقته الخاصة بالتعاطي مع الصدمة، ومهما كانت الطريقة، لا يمكن فرزها بين خانتي الصح والغلط.
تقول: “الغضب أمر طبيعي جداً، ورغبة الانتقام كذلك. رأينا أشخاصاً ينزلون إلى الشوارع للمشاركة بأعمال الكنس والترميم، وذلك جيد، لأن الاستجابة على صعيد جماعي، من أفضل الطرق العلاجية، لأنها تؤمّن العزاء والمواساة والدعم النفسي، من خلال شبكة التضامن الاجتماعي التي تولد. التضامن يعطي معنىً للناس الباحثة عن مواجهة حدث عبثيّ بالكامل، وهو من الطرق المفيدة لاستعادة الناس السيطرة على الأحداث والسردية العامة”.
بحسب كرباج، فإنّ “العدالة الاجتماعية والتعويض المعنوي والمادي للضحايا، ومحاسبة المجرمين، يؤثر بشكل ايجاي على الصحة النفسية على المدى الطويل، ويدعم الشفاء الجماعي، واسترداد الشعور بالكرامة والتخفيف من وطأة الكارثة”.
بدورها، ترى لميا مغنية أنّ “أعصاب الناس في لبنان منهارة، لأن كلّ شيء حولهم منهار، المشكلة أساسها سياسي. لذلك هناك مشكلة في استجابة المنظمات الإنسانية الفردية، لأنّها تقارب معاناة الجميع بالطريقة ذاتها، من خلفية غربيّة، ولا تقدر ان تفهم وتفكك شبكة الأسباب السياسية والتاريخية والاقتصادية لمفهوم المعاناة”.
وتقول: “يحتاج مجتمع مثل المجتمع اللبناني إلى شفاء من نوع آخر، إلى شفاء مجتمعي، بمواجهة انهيار البنى التحتية، انهيار الثقة بالدولة، وانهيار كلّ هيكيلة وجودنا، وذلك لا يتمّ فقط بالاستجابة الطبية والعلاجية، بل يحتاج لنطرح أسئلة أعمق”.
ذنب الناجين والتماهي مع الجاني
تلاحظ آلاء حجازي في الأبحاث والتجارب العيادية لدى من يعانون من تروما مركبة، أعراض ما يسمّى بذنب الناجين، وقد رُصدت عند أولاد الناجين من المحرقة النازية، “إذ يشعرون دوماً بالذنب إن أحسّوا بأيّ بهجة أو مرّ حدث جيّد في حياتهم”. وذلك يشبه ما عيّر عنه لبنانيون عبر السؤال عن سبب نجاتهم بالصدفة البحتة، فيما دمّرت حيوات جيرانهم، فمات بعضهم أو تشرّدوا.
ومن أعراض الصدمات المركبة، بحسب حجازي، تكرار حالة التماهي مع المعتدي، وذلك ما تفسره بعلاقة اللبنانيين مع الزعماء السياسيين. “من أعراض الصدمة المركبة بناء ارتباط وثيق بالمعتدي، وبناء علاقات تأليه وتمجيد، وعرفان تجاهه”.
توضح حجازي أنّ “الصدمة تهشّم حاجتنا لرؤية العالم كشيء مفهوم، تحكمه بقواعد ثابتة. وحين نشعر أننا نجيبنا عبثاً تماماً، وأن جارنا مات عبثاً تماماً، يتعارض ذلك ما تلك الحاجة لقوانين واضحة ومنطقية تنظم الحياة والعالم”.
برأي حجازي، من “الصعب على العقل البشري ان يتحمّل العبثيّة، لذلك نلجأ لتفسيرات من نوع أنّ القدر متحالف ضدنا، كطريقة لاستعادة المعنى. وتكون التروما في حالات الكوارث الطبيعية أخف وطأة من حالات الاعتداء الشخصي، لأن الكارثة الطبيعية تفتقد عنصر التجنّي. في حالة التفجير الأخير، بدا الأمر كأنه كارثة طبيعية لضخامته، ولكنه فُهٍم أيضاً كجريمة شخصيّة بحقّ كلّ فرد منا، لأن عنصر التجنّي فيه مترفع جداً، ما هدم لدى مجتمع بأكله وهم القدرة على النجاة”.
[ad_2]
Source link