النفايات النووية: كيف نحذر الأجيال القادمة من مواقع مخلفات مميتة يدوم خطرها لآلاف السنين؟
[ad_1]
“في هذا المكان، لا شيء يبعث على الفخر. ولا يضم هذا المكان رفات أي شخص يحظى بمكانة مرموقة أو أي شيء له قيمة تذكر، بل إن هذا المكان لا يحوي غير مواد خطرة ومنفرة. وهذه الرسالة للتحذير من المخاطر”.
ربما تبدو هذه الرسالة كما لو كانت نوعا من التعاويذ التي قد تتوقع أن تجدها على مدخل مدفن من العهد الغابر. لكنها في الواقع وضعت لتحذير البشر من الاقتراب من موقع المحطة التجريبية لعزل النفايات التي توجد على عمق أكثر من ألفي قدم عبر الصخور الصلبة أسفل صحراء نيو مكسيكو. وتضم هذه المحطة شبكة شاسعة من الأنفاق والكهوف الملحية لتخزين النفايات النووية الأكثر خطورة التي خلفها الجيش الأمريكي.
وستظل هذه النفايات سامة ومميتة لأكثر من عمر البشر على سطح الأرض والذي يقدر بنحو 300 ألف سنة. وتعد المحطة التجريبية لعزل النفايات هي المستودع الجيولوجي العميق الوحيد المرخص وقيد التشغيل في العالم. ومن المتوقع أن تدشن محطة مشابهة في فنلندا في الأعوام الخمس المقبلة.
وعندما يمتلئ المستودع بالنفايات، ربما في غضون السنوات العشر أو العشرين القادمة، ستُغلق الكهوف الملحية بطبقات من الخرسانة والطين، وستختفي شبكة المباني التي يستدل بها الآن على موقع المحطة. وسيحل محلها “أكبر محاولة لإيصال رسائل للبشر تنتقل عبر العصور والأزمنة”.
وتتلخص هذه المحاولة في بناء أعمدة ضخمة من الغرانيت طولها 25 قدما على حدود الموقع الذي تبلغ مساحته 10 كيلو مترات مربعة. ويقام أمامها حاجز طيني قصير طوله 33 قدما وعرضه 100 قدم حول مستودع النفايات الفعلي، ثم تشيد في المساحة الداخلية أعمدة من الغرانيت.
ويتوسط هذا البناء التذكاري من أعمدة الغرانيت، الذي يهدف لتحذير الناس من الدخول إلى الموقع، غرفة تحوي معلومات عن الموقع، لكن إذا طمست هذه المعلومات، ستجد الأجيال القادمة مصدرا بديلا للمعلومات على عمق 20 قدما من سطح الأرض وداخل الحاجز الطيني.
وستختزن معلومات تفصيلية عن المحطة التجريبية لفصل النفايات في الكثير من دوائر المحفوظات حول العالم على ورق خاص مذيل بتعليمات لحفظ هذه السجلات لمدة 10,000 سنة، هي مدة ترخيص الموقع.
وتعد هذا الخطة جزءا من مجال بحثي يعرف باسم “دراسة الرموز والدلالات النووية” لإيصال رسائل تحذيرية للبشر في المستقبل البعيد حول مواقع النفايات النووية بعد فناء اللغات الحديثة. وقد خرج هذا المجال إلى النور بعدما اجتمع علماء الفيزياء النووية ومهندسون وعلماء إنسانيات وكتاب خيال عملي وفنانون وغيرهم للبحث عن طرق لتحذير البشر، أو أي من الكائنات التي ترث الأرض بعدهم، من الإرث المميت الذي خلفه البشر.
واقترح بعضهم تغطية الموقع بغابة شاسعة من الأشواك الخرسانية، واقترح آخرون تشكيل لجنة من الخبراء على غرار لجنة الكهنة في الكنيسة الكاثوليكية، يستخدم أعضاؤها الأساطير والطقوس لبث الرعب في قلوب الأجيال القادمة من الموقع. وصاغ الخبير اللغوي، توماس سيبوك، عبارة “الكهنوت الذري” في عام 1981.
واقترح آخرون تعديل قطط وراثيا ليتغير لونها عند التعرض للإشعاع، على أمل أن يظهر جيل من قطط الإشعاع، التي تُعلم البشر على مدى آلاف السنين الهروب من المنطقة عندما يتغير لونها.
وفي بلدة كولهام بمقاطعة أوكسفوردشير البريطانية، تحتضن القاعدة الجوية العسكرية السابقة هيئة الطاقة الذرية البريطانية ومركز كولهام لطاقة الاندماج النووي، والمعمل البريطاني لأبحاث الاندماج النووي. وعلى مقربة منها يقع أول مفاعل نووي في غرب أوروبا، الذي بدأ تشغيله في عام 1947. وتتخذ أيضا المؤسسة الوطنية للتصرف في النفايات المشعة من هذه البلدة مقرا لها.
وكنت أجلس في غرفة اجتماعات معاصرة ومضيئة مع شخصين مهمتهما التفكير في حل لهذه المشكلة الكبرى، هما تشيري تويد، كبير المستشارين العلميين بالمؤسسة الوطنية للتصرف في النفايات المشعة، وجيمس بيرسون، خبير في مجال التصرف في النفايات بنفس المؤسسة. وقد كلف الاثنان بمهمة البحث عن حلول لوضع علامات تحذيرية في موقع مشروع مستودع النفايات النووية البريطاني، الذي سيستغرق التخطيط له وبناؤه وملؤه وإغلاقه 200 عام. وتلتزم المؤسسة بوضع العلامات التحذيرية لأي موقع مشابه تعتزم تنفيذه.
وظهرت على الشاشة في الغرفة صورة لتل ساليزبري بالقرب من أحجار “ستونهينغ”، الذي يعود لعصور ما قبل التاريخ. ويقول بيرسون إن هذا التل عمره أكثر من 4,000 عام، ولا أحد يعرف الهدف من بنائه، لكن هناك نظريات عديدة طرحت حوله، فهل هو علامة قديمة للإشارة إلى موقع ما؟ وهل يمكن أن نبني صرحا أفضل منه للبشر في المستقبل؟
وقد تشكل فريق العمل الدولي بشأن التدخل البشري في عام 1981 للبحث عن طرق لتحذير البشر مستقبلا من الاقتراب من موقع مستودع جبل يوكا المقترح للنفايات المشعة بالقرب من لاس فيغاس. وتمخض عن هذا المشروع مجال “دراسة الأدلة والعلامات النووية”.
وتستكمل وكالة الطاقة النووية في باريس أعمال مشروع التدخل البشري من خلال مبادرة حفظ السجلات والمعارف والذاكرة عبر الأجيال، التي بدأت عملها منذ عام 2011.
وتقول غلوريا كوونغ، رئيسة السكرتارية الفنية للإطار الدولي للتعاون في مجال الطاقة النووية بهيئة الطاقة النووية، إن “المبادرة تبحث في سبل الحد من احتمالات اختراق موقع المستودعات الجيولوجية للتخلص من النفايات النووية دون قصد، وتحسين قدرة المجتمعات القادمة على اتخاذ قرارات مدروسة”.
واقترحت المبادرة عددا من الحلول لمساعدة البشر مستقبلا في اتخاذ القرارات المدروسة، مثل المكتبات والكبسولات الزمنية والعلامات والدلالات المادية. ويقول دكتور إيلي كاربنتر، من مجموعة أبحاث الثقافة النووية، إن العلامات المادية قد تكون في صورة نصب تذكاري واحد، أو علامات متعددة، كحقل من الأشواك. وقد يكون من الأفضل دفن آلاف العلامات الصغيرة في الموقع لتكتشف لاحقا، بدلا من بناء صرح واحد قد يتعرض للهدم في أي وقت.
لكن مهمة تحذير الناس من مخاطر المواد المشعة عسيرة في الوقت الحالي، فما بالك بتحذير الأجيال القادمة في المستقبل البعيد. إذ أشارت دراسة أعدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن ستة في المئة من سكان العالم يمكنهم التعرف على علامة المواد المشعة المكونة من ثلاث شفرات سوداء على خلفية صفراء.
وأشارت دراسة أخرى إلى أن الألواح الحجرية اليابانية التي نقش عليها منذ 1000 سنة تحذير حول المنطقة الأكثر عرضة للتسونامي في إحدى بلدات اليابان لا تزال مفهومة، لكن بعض السكان يتجاهلونها عمدا ويقيمون مباني في المنطقة التي تحذر الألواح من البناء فيها. وقد دفعوا ثمنا غاليا في عام 2011.
وترى سيسيل موسارت، الفنانة والباحثة في بروكسل، أن الرموز والعلامات ينبغي أن تكون جزءا من ما تطلق عليه “ثقافة نووية”، لها صروحها التذكارية وعلاماتها وطقوسها الخاصة، حتى تفهمها الأجيال القادمة مستقبلا. لكن في الوقت الحالي لا يوجد إلا رمز واحد فقط للمواد المشعة.
وتتصور موسارت بناء معمل ابتكاري داخل قباب معدنية فوق مستودع النفايات، يعمل فيه الموسيقيون وعلماء الآثار والكتاب والخبراء الاقتصاديون والفنانون وعلماء الأحياء والشعراء من كل جيل جديد، على تطوير العلامات التحذيرية المناسبة للجيل الذي يليه.
وفي عام 2011، استكشف الفنان الأمريكي بريان ماك غوفرن ويلسون، وأستاذ الفنون الجميلة بجامعة كامبريا، روبرت ويليامز، قوة تأثير الطقوس والأدوات والملابس المستخدمة عادة في محطات الطاقة الذرية التي تمثل جزءا من موروث شفوي تتناقله الأجيال للتعريف بمخاطر المواقع النووية القريبة من ساحل كامبريا، حتى لا يطويه النسيان.
وقد يرتدي أعضاء “الكهنوت الذري” على سبيل المثال ثيابا مستلهمة من ملابس روبرت أوبنهايمر، الأب الروحي للقنبلة الذرية.
ويرى كاربنتر أن العلماء يناقشون عادة العلامات التحذيرية في موقع محدد، لكن الفنانين ينظرون للقطاع النووي نظرة عالمية شاملة لوضع نظام شامل للرموز والعلامات التحذيرية.
وتوصلت المبادرة في النهاية إلى أن الحل هو وجود أنظمة متكاملة. ويقول جيمس بيرسون، الذي شارك في المبادرة، إن الحل الأمثل هو وجود مجموعة من الأنظمة يكمل بعضها بعضا، مثل بناء العلامات والصروح التذكارية مع تخزين المعلومات عن الموقع في دوائر محفوظات متعددة، فإذا فقدت إحدى النسخ أو احترقت إحدى دوائر المحفوظات، حصل الناس على المعلومات عن هذه المواقع من دوائر المحفوظات الأخرى.
ويقول بيرسون: “لا تحاول إبعاد الناس عن الموقع بوضع رموز مخيفة أو رسائل تحذيرية مرعبة تنذر بالمخاطر، مثل الرسالة التي تنوي المحطة التجريبية لعزل النفايات وضعها، بل حاول في المقابل أن تقدم لهم معلومات عن المواد المدفونة في هذا الموقع حتى يتخذوا قرارات مدروسة بأنفسهم”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Future.
[ad_2]
Source link