معرض الفنانة عفيفة لعيبي في لندن: عندما تستحيل الأجساد الأنثوية إلى منحوتات ملونة
[ad_1]
أنى تلفت ستواجه شكل امرأة يلفها غموض وحزن شفيف يتبدى أمامك في أوضاع جسدية مختلفة، قد تنظر إليك باستقامة في عينيك إحيانا، وكأنها تسلب منك دور المتفرج لتصبح أنت مادة فرجتها، أو تبدو ساهية لا مبالية وغارقة في تأملاتها الداخلية.
هذه المرأة، التي تحمل أحيانا عينين شبيهتين بعيني الفنانة عفيفة لعيبي لمن يعرفها، سترافقك أنى حللت في معرضها الجديد في العاصمة البريطانية لندن المقام تحت عنوان “صدى الزمن” في غاليري “كريستين هلياره” (Kristin Hjellegjerde Gallery)، وستقود تجوالك وسط أجواء صافية الألوان ومشاهد تنقلك في عوالم مختلفة تلعب في منطقة وسطى بين الواقع والخيال والفن والمرجع الواقعي المباشر، والألفة والغموض، والتجربة الذاتية والتاريخ العام، والقديم والمعاصر، لكن تظل المرأة مركز تكوينها البصري وموضوعتها الأثيرة.
يضم المعرض أعمالا حديثة وقديمة تنتمي لمراحل زمنية مختلفة، تمتد من 1987 إلى 2020، ما يتيح فرصة لإلقاء نظرة على أسلوب الفنانة المميز ومراحل تطوره ونضجه. ويكتشف المدقق في لوحات المعرض ثبات الفنانة على تجربة أسلوبية محددة وتجنبها أي تحولات أسلوبية حادة في مسيرتها الفنية الطويلة الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي.
الفن وطن بديل
فعلى مدى نحو خمسة عقود شكلت مسيرتها الفنية، عاشت عفيفة في بحث دائم لبناء تميزها الإبداعي وسط تحولات سياسية واجتماعية كبرى في بلدها والعالم، واضطرت لمغادرة بلدها بعمر مبكر لتبدأ مسيرة طويلة من العيش من المنفى وبلدان المهجر، احتلت معظم مساحة عمرها وتركت أثرا كبيرا في توجهها ونتاجها الإبداعي.
فعفيفة المولودة في عام 1952 في مدينة البصرة بالجنوب العراقي، في كنف عائلة فنية ضمت عددا من الفنانين والموسيقيين، وعرفت بانتمائها سياسيا إلى اليسار العراقي، ابتدأت دراسة الفن معهد الفنون الجميلة في بغداد، ثم حصلت على بعثة لدراسة فن الجداريات في معهد سويكوف في موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي حينذاك.
وبعد أن أكملت دراستها لم تستطع العودة إلى بلادها إثر حملة القمع التي شنها النظام في العراق ضد الشيوعيين في أعقاب فشل ما عرف بتجربة الجبهة الوطنية في السبعينيات، فانتقلت للعيش في إيطاليا حيث نهلت من نتاج رموز الرسم الإيطالي في القرون الوسطى وبناة عصر النهضة؛ هذه المرحلة التي ظلت ملامحها تحضر بقوة في أعمالها اللاحقة.
عادت بعد ذلك إلى موسكو ومنها انتقلت إلى اليمن الجنوبي استاذة للرسم في معهد الفنون في مدينة عدن. قبل أن ينتهي بها المطاف إلى الاستقرار في هولندا.
لقد ترك هذا التنقل والنهل من مصادر فنية مختلفة أثره في مسار عفيفة الفني، إذ شحبت العلاقة مع المكان الأول وبات الفن وطنا بديلا وجدت فيه تعويضا بالمفهوم السايكولوجي عن صدمة المنفى والاقتلاع من الجذور، (وهي استراتيجية مناقضة لما طوره شقيقها الفنان فيصل لعيبي كما سنرى عند المقارنة بينهما لاحقا)، فباتت لوحتها محلقة فوق حدود الزمان والمكان، تتنقل في أماكن مختلفة ولكن يظل عمادها الإنسان والمرأة على وجه الخصوص.
وقد جذرت عفيفة نظرة ذاتية واضحة المعالم عمادها التجربة الذاتية والذاكرة التي تختلط بخيال إبداعي جامح، يقترب من حافة السريالي أحيانا، لكنها لا تغفل العام الذي ينزرع بقوة، رغم تلك النزعة الذاتية المفرطة، في قلب عوالم لوحاتها التي تظل تحاور سياقيا؛ تاريخ الفن في كفة، والواقع بتحولاته الاجتماعية والسياسية المختلفة في الكفة الثانية.
الجسد الأنثوي وسيطا
تقف عفيفة وسط قلة من الفنانيين العراقيين الذين اختاروا الثبات على الرسم التشخيصي، والتجذر في تقاليد واقعية حية وإحياء تقاليد الرسم الكلاسيكي، وسط هيمنة الفن اللاتشخيصي ونزعة التجريد على مشهد الرسم العراقي.
ووسط هذه القلة يقف أيضا شقيقيها الفنان فيصل لعيبي، الذي أثر كثيرا في تطورها الفني وباتت تشكل معه ثنائيا فنيا مميزا، يجعل من أعمالهما في حوار دائم، فتحمل كثيرا من الوشائج والتشابهات الأسلوبية والشكلية لكنها تفترق في التوجه. ففي الوقت الذي يسعى فيصل إلى تأصيل فنه في قلب منجز الرسم العراقي بالتركيز على الخصوصية العراقية واللمسة المحلية والنهل من التراث الفني الرافديني في مراحله المختلفة وعكسه بلغة فنية حداثوية معاصرة، تسعى عفيفة إلى تمييز نفسها عنه بالتحليق في فضاء إنساني عام، مبعدة لوحاتها عن أي روح أو خصوصية محلية، بل تراها طافية في فضاء إنساني عام وتستعير مشهديتها من الفن نفسه ورموزه في عصور مختلفة، مع إثرة خاصة لعصر النهضة في إيطاليا، لذا تشدد عفيفة في إحدى المقابلات معها على القول “لا أسمي نفسي فنانة عراقية. أنا امرأة ترسم وتبدع فنا للجميع”.
وتصبح المرأة أيقونتها المفضلة التي تتكرر كشكل ثابت في كل لوحاتها، ويصبح الجسد الأنثوي مادة تعبيرها الأساسية والذي تحاول دائما أن تزرعه وسط فضاء لوني ومجموعة مكملات شكلية من الطبيعة أو من استعارات من سياق الفن نفسه وتجعله في تضاد أو في حوار دائم معها.
فيميل هذا الجسد إلى الخروج عن صورة الجسد الأنثوي وإحالاته الإيروتيكية ليؤدي مهمة الوساطة للأفكار، ويكاد يستحيل من وجود واقعي إلى صورة مثال، يحاول الانعتاق من ثقل الزمن وسطوته و(صداه الذي حمل معرضها عنوانه) والخلود في فضاء اللوحة.
تشدد عفيفة على أنها تستخدم “الجسد الأنثوي كوسيط يساعدني في توصيل هذه الفكرة. النساء بوصفهن هيئات إنسانية يمتلكن شيئا خاصا لا يوجد في الرجال: الطريقة التي يتحركن بها والجمال الذي يتمتعن به”.
فنساء عفيفة بأجسادهن القوية المكتنزة وقوتهن والخطوط المنحنية التي تحدد تفاصيل أجسادهن ووجوهن الممتلئة التي لا أثر للزمن أو تجاعيده فيها، يظهرن أقرب إلى تكوينات نحتية ملونة في فضاء حلمي خالص.
بيد أن هذه القوة تبدو قشرة هشة تخفي تحتها إحساس (ميلانخولي) وعزلة وانفصال يكشف عنه موقعهن وسط تكوينات اللوحة الأخرى والصمت الذي يغلفهن، ونظرات عيونهن الحزينة والكئيبة التي تبدو ساهية وعالقة في لحظة ما في الذاكرة والماضي أو محدقة في مكان آخر، (دائما الحياة هي في مكان آخر)، حتى وإن بدت المرأة في بعض اللوحات تنظر إلى الأمام باتجاه المشاهد الذي ما أن يبدأ حوارا مع نظرتها ويركز عليها ليكتشف أنها تنظر في مكان آخر أو ربما في ماضٍ بعيد.
وتعنى عفيفة باختيار تفاصيل الخلفيات التي تقف وسطها نساؤها أو الأشياء التي تنثرها حولهن، ففي لوحة “ياسمين” تستلقي المرأة وسط العشب وهي تنظر إلى الأمام بزاوية جانبية وتبدو في الخلفية أجمات خضراء كثيفة تُذكر بخلفيات لوحات الرسام الفرنسي ما بعد الانطباعي هنري روسو وغاباته وخضرة نباتاته الكثيفة، لكننا نراها في لوحة المنديل الأبيض نائمة وسط تلك النباتات والفراشات وقربها ألة العود الموسيقية وتمسك بأطراف أصابعها بمنديل مطرز بعناية ملقى على الأرض، في مشهد يفيض بالشاعرية.
وثمة إحالة واضحة هنا وذكية لغجرية روسو النائمة لكن بدلا من تدرجات خطوط الثوب الملونة التي تزين تلك الغجرية نرى امرأة عفيفة ترتدي ثوبا أبيض بطيات متدرجة تمتد على طول جسدها.
ونعود لنرى مشهدا مشابها في لوحة “البساط الأحمر” للمرأة مستلقية هذه المرة وسط كتل لونية خالصة يمثلها البساط الأحمر تحتها، ورداء داكن معلق على حبل فوقها على خلفية من زرقة حادة. وتشكل تلك الكتل اللونية الخالصة في هذه اللوحة، كما في لوحات أخرى، موجهات تسهم في تشكيل قراءتنا وتأويلنا لموضوع اللوحة فضلا عن تلقينا وتفاعلنا السيكولوجي معها.
فمثل هذه الخلفيات تصبح عنصرا جوهريا في بناء لوحة عفيفة وعملية تلقيها وتأويلها: ففي لوحة “إلى الأبد” تلعب الخلفية دورا أساسيا في بناء اللوحة التي تتدرج من أرضية بلاط ذات لون بني كابي ودكة بسيطة باللون نفسه تجلس عليها امرأة تحتضن صبيا بين ركبتيها يبدو مرتبكا، وتستقر قدماها العاريتان وقدما الصبي الذي يرتدي جواربه ولم يكمل ارتداء حذائه على حصيرة صغيرة من قماش داكن، بينما تستقر يداها فوق يديه على صدره. وعندما نصعد في الرؤية نرى نظرة الطفل الحالمة ورأسه المائلة في وسط اللوحة ويبدو جسد المرأة بثوبها الأزرق خلفية يستقر عليها رأس الطفل، لننتقل إلى وجه المرأة في أعلى اللوحة وهي تنظر باستقامة إلى الأمام بنظرة حيادية باردة وصارمة، تبدو بالتضاد مع خلفية الورود الكبيرة على الحائط وما تضفيه من إحساس حي وحميم يعارض تلك النظرة الباردة وبرودة أرضية البلاط الجرداء، وتمثل انتقالة من فقر الواقع وقساوته إلى فسحة الحلم الرحيبة.
وفي لوحات أخرى تحفل هذه الخلفية باستعارات تحيلنا إلى موقعها في سياق التاريخ الفني وتؤدي دلالات رمزية ضمن تكوين اللوحة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد في لوحة “في الاستوديو” التي يرجع تاريخ رسمها إلى عام 1988، امرأة تقف وسط اللوحة في صورة موديل عارية وإلى جانبها ينام قزم متكئا على طاولة صغيرة تشبه الطبل، (ربما يذكر شكله ولحيته بالرسام الفرنسي تولوز لوترك)؛ بينما تحتل صورة قناع “بوكا ديلا فيرتا” أو “فم الحقيقة” (وهو قرص مرمري يزن 1300 كيلوغرام في روما القديمة نحت عليه قناع يمثل وجه إله المحيطات في عصر آلهة التيتان بفم مفتوح، وعادة ما يضع الزوار أيديهم فيه). معظم مساحة خلفية الصورة مع ستارة تحتل الزاوية اليمنى من اللوحة.
وعلى عكس ما يفعل الزوار لا تضع موديل عفيفة يدها في فم القناع بل تمسك بإحدى يديها رداءا يستر جزءا من جسدها وترفع الأخرى بحركة رشيقة؛ (ثمة عناية واضحة لدى الفنانة برسم أصابع اليد وحركتها أكثر من الأقدام أو أجزاء الجسم الأخرى) قرب خدها مع نظرة جانبية مواربة باتجاه الرسام أو مشاهد اللوحة في مكانه المفترض أمامها. وعلى العكس مما يوحي به الفم المفتوح في القناع في الخلفية من صرخة يغلف اللوحة صمت وسكون قاتل.
ويحتل قماش الثوب أو الرداء أو الستائر إلى جانب جسد المرأة مكانا مركزيا في تكوين لوحة عفيفة، إذ يقدم لها مساحة للعب اللوني في مساحات النسيج وطياته وحركته واستعراض مهارات توزيع مساقط الضوء والظل في طياته. وتكون أثواب نساء عفيفة بسيطة وبلون واحد في الغالب وتحتوي على طيات إحيانا وتنسدل ببساطة على أجساد ممتلئة، وهي أقرب في كثير من اللوحات إلى أزياء نساء عصر النهضة.
وتبني عفيفة لوحتها على مبدأ المطابقة مع الواقع، وذلك في الأصل نتاج دربتها الأولى في دراستها لفن الجداريات ضمن تقليد الواقعية الاشتراكية إبان دراستها في الاتحاد السوفياتي السابق، فهي لا تلجأ إلى تقنيات الانطباعيين في تفكيك عناصر الضوء ورصد تحولاته وتقديم انطباعات إدراكها ورؤيتها له، بل تلتزم بقواعد الرسم الكلاسيكي، وإن بطريقة محدثة، وتقديم مطابقة مع وقائع بصرية تسجلها في لوحتها.
لكن هذه المطابقة مواربة في حقيقتها؛ فالعناصر الواقعية التي تحفل بها لوحة عفيفة هي في الحقيقة في تناص في عناصرها البصرية مع لحظات بارزة في تاريخ الفن، وبالنسبة لكثير منها يبدو الفن نفسه هو مرجعها ومادتها وليس المرجع الواقعي المباشر. وتبدو أشكالها في حوار دائم مع رسومات رموز عصر النهضة أو الأيقونات الدينية الروسية أو الجداريات المكسيكية، لكنها تغلفها في النهاية (وهذا سر قوتها) بنزوع تعبيري ذاتي، وبناء شاعري يميز لوحتها، فتقودنا للبحث عن طيات داخلية مفعمة بالإحساس، فضلا عن الانفتاح على تأويل تلك النظرات الغامضة التي تميز شخصياتها والدلالات الرمزية والاستعارية للتفاصيل الشكلية واللونية التي تنثرها حولها.
وهكذا يصبح الشكل الواقعي لدى عفيفة لعيبي متخما بقوة الاستعارة والمجاز، ومتجذرا بقوة وسط ما يمكن أن نسميه تقليد الواقعية الشعرية.
[ad_2]
Source link