فيروس كورونا: كيف يواجه الصينيون الوباء بالسخرية؟
[ad_1]
في أوائل فبراير/شباط، كنت في تايوان على بُعد نحو 945 كيلومترا من إقليم ووهان الصيني، البؤرة الأولى لتفشي فيروس كورونا المستجد.
رغم ذلك، لم يكن بوسعي تجاهل الأنباء التي تفطر القلب الآتية من الإقليم، وذلك عبر متابعتي عن كثب لتطبيق “وي تشات” الأكثر شيوعا في الصين، في ضوء استخدامه من جانب مواطنيها، في مختلف الأغراض، بدءا من التراسل الفوري إلى التواصل الاجتماعي.
فوسط الشهادات والإفادات المزعجة التي تدفقت على حسابي على “وي تشات”، والتي تحدثت عن أشخاص يسقطون صرعى في الطرقات، وجثث تُنقل إلى خارج المباني السكنية، سرعان ما بدأت مقاطع مصورة ذات مضمون مختلف، تظهر على نحو مباغت، وتتمثل في طوفان من مقاطع الفيديو، التي صورها صينيون وصينيات في منازلهم. واتسمت في غالبيتها بطابع غير منمق، واكتست بسحر نابع من كون من يُعِدونها أناس عاديون لا محترفين.
وشكّل ذلك البادرة الأولى لما بات العالم كله يعلمه الآن، وهو أنه بالتزامن مع انهماك الكثيرين في محاربة وباء كورونا للنجاة بحياتهم، يحاول غالبية سكان العالم ببساطة مواصلة التصرف بعقلانية، والتماس بعض الفكاهة والمرح، في خضم حياة تسودها إجراءات الإغلاق الكامل.
ورغم أن أحدا من شعوب العالم لم يواجه هذه المفارقة قبل الصينيين، فلم تنل الجهود التي بذلها هؤلاء في هذا الإطار، الاهتمام الواجب من جانب وسائل الإعلام، التي ركزت بدلا من ذلك، على تحري مدى مصداقية الأرقام والبيانات التي تعلنها الحكومة الصينية عن حجم تفشي الوباء في البلاد. وهكذا غابت عن التغطية الإعلامية، تلك الطرق المُلهمة التي يلوذ من خلالها الصينيون، البالغ تعدادهم نحو 1.4 مليار نسمة، بالمرح والفكاهة حتى وسط الألم، بهدف رفع الروح المعنوية.
فبينما يتحدى الإيطاليون الوباء عبر الغناء من نوافذهم، ويحتشد الناس من الهند شرقا إلى إسبانيا غربا في شرفاتهم ليلا للتصفيق للفرق الطبية، يلجأ الصينيون في أغلب الأوقات، إلى أن تتسم تجربتهم المبتكرة في هذا الشأن، بطابع مرهف ساخر ينتقدون فيه أنفسهم أحيانا.
ويسخر الصينيون عبر بعض هذه المقاطع، مما أدت إليه حمى شراء ورق المراحيض في بداية الأزمة، إلى توافر كميات أكبر منها من اللازم لديهم، بقدر جعلهم لا يعلمون حتى ما الذي يتعين عليهم فعله بها. وبدلا من أن يصوّر الصينيون أنفسهم وهم يصدحون بغناء أوبرالي مثلا، اختاروا أن يظهروا أمام الكاميرا، وهم يحاولون بشكل محموم وساخر الفرار من منازلهم، هربا من انخراط أزواجهم في الغناء على نحو مزعج.
لكن ربما يكون من المفاجئ، أن نعلم أن هذه الاستجابات غير المعتادة التي صدرت من الصينيين نتيجة شعورهم بعدم اليقين وانعدام الحيلة بسبب تفشي فيروس (كوفيد – 19)، تجد لها جذورا في مفهوم صيني قديم يُعرف باسم “بوسون تسوليه”، ويقوم على “التماس الفرح والبهجة في خضم الحزن والأسى”.
وقد ذُكِرَ هذا المفهوم للمرة الأولى، في سياق ترجمة باللغة الصينية لكتاب بوذي قديم، ظهرت قبل نحو 1375 عاما، وذلك حسبما يقول كريستوفر ريا، أستاذ الأدب الصيني الحديث في جامعة كولومبيا البريطانية. وفي العصر الحديث أصبح هذا المصطلح، يرمز إلى ضرورة أن يواجه المرء بابتسامة، مختلف النوائب والصعاب، التي تُشعره بأنه مغلوب على أمره؛ وذلك بدءا من الكوارث الطبيعية وصولا إلى إحكام الدولة قبضتها على مختلف مجريات الحياة في وطنه.
ويضيف ريا أنه بالرغم من أن الكثيرين لا يعتبرون أن “المرح والبهجة يشكلان الملمح الرئيسي للتجربة الصينية في العصر الحديث، فإن طابعها المضحك والفطن اجتذب الانتباه، وأثر على شعور مواطني هذا البلد”.
ويقول ريا – الذي يسعى بدأب إلى تصحيح الاعتقاد الشائع لدى غير الصينيين بأن الصين بلد يخلو من المرح والفكاهة – إن مفهوم “بوسون تسوليه” يشير إلى مجموعة متنوعة من ضروب المرح والفكاهة، بدءا من الكوميديا التي تقوم على التهريج وصولا إلى الهجاء والسخرية اللذين يرميان لتقويض وضع قائم، وهو الأمر الذي يتميز فيه الصينيون بشكل خاص، وغالبا ما يلجأ إليه منتقدو الحزب الشيوعي الحاكم.
ويوضح ريا قائلا إن هذه المدرسة في السخرية تمثل “وسيلة للتفكير والتأمل في نمط المرح والفكاهة الذي ساد في الصين خلال القرن العشرين على الأقل، وظل قائما حتى خلال القرن الحالي، وذلك بالتزامن مع الرقابة وكل صنوف انتهاكات الحريات الفردية، التي يعيش في ظلها الصينيون، بما في ذلك انتهاك حرية التعبير”.
لكن هناك منتقدين لهذا الأسلوب في السخرية، ومن بين هؤلاء بعض الساخرين المرموقين في الصين كذلك. ففي عام 1933، تساءل لو شون، أحد أبرز الكُتّاب الصينيين في القرن العشرين قائلا: “هل يمكن للناس الحديث عن السخرية والمرح في مناطق تنهال عليها القنابل كالمطر وتُغمر فيها الحقول بمياه الفيضانات؟”.
لكن يبدو أن “نعم” تشكل إجابة لهذا السؤال في الصين، التي لا يشكل حدوث كوارث واسعة النطاق – مثل الزلازل أو الفيضانات أو المجاعات أو الأوبئة – في أراضيها، أمرا غير مألوف. واليوم يضم هذا البلد قرابة خُمس عدد سكان العالم، ولذا غالبا ما تؤدي الصراعات التي يخوضها، إلى دفع عدد مذهل من البشر، للشعور بأن لا حول لهم ولا قوة. وفي مواجهة هذا الشعور بعدم اليقين، يميل كثير من الصينيين – في غالب الأحيان – بغريزتهم إلى مدرسة الـ “بوسون تسوليه” في السخرية.
ومن بين الأمثلة على ذلك، ما حدث عام 2011، عندما ضربت بكين عواصف مطرية عاتية. ففي ذلك الوقت اغتنم الصينيون الفرصة لتوجيه انتقاداتهم الساخرة واللاذعة، إلى مشروع عملاق للبنية التحتية يحمل اسم “مشروع نقل المياه من الجنوب إلى الشمال”، الذي كان يُنظر إليه قبل ذلك على نطاق واسع، على أنه عديم الجدوى.
فبينما كانت المياه تغمر شوارع العاصمة، تبادل الصينيون رسائل نصية هزلية، قالوا فيها إن “مشروع نقل المياه يعمل الآن بكفاءة شديدة على ما يبدو، رغم كل عثراته السابقة”. وقد تكرر ذلك مع أزمات أخرى شهدتها الصين، تنوعت ما بين حوادث لقطارات سريعة، أو تفجر لقضايا فساد يُتهم فيها أشخاص رفيعو المستوى. وقد ولّدت كل هذه المواقف نمطها الخاص من السخرية ذات الطابع الوقح.
وفي الأزمة الحالية، تزامن إجبار قرابة 60 مليون صيني على الخضوع لإجراءات الإغلاق الكامل خلال شهريْ فبراير/شباط ومارس/آذار الماضييْن، مع لجوء الصينيين بشكل جماعي إلى “وي تشات” وتطبيقات أخرى للفيديو مثل “دويين”، لإنتاج مقاطع مصورة قصيرة، مفعمة بروح الـ “بوسون تسوليه”، ونشرها.
وتناول الكثير من هذه المقاطع الأوضاع الناجمة عن الوباء بأسلوب ساخر ونقدي بشدة، على ما يبدو. ففي وقت كانت فيه الشرطة الصينية تجبر الناس في الشوارع بالقوة أحيانا، على ارتداء الكمامات، ظهر مقطع فيديو يحاكي ذلك بسخرية، ويُظهر رجل شرطة وعاملا في البلدية، ومعهما خزان رش مملوء بمواد التعقيم، وهما يوبخان بقسوة رجلا لا يرتدي كمامة. وفي مواجهة هذه الانتقادات، يقف الرجل بثبات دون أن يهتز، إلى أن يعطس عامل البلدية فجأة، فيبحث في حقيبة ظهره بشكل محموم عن كمامة، ويثبتها على وجهه.
مقاطع أخرى صورها الصينيون، بدت إشارة إلى أن هناك منهم، من خَلَصوا إلى أنه ليس بوسعهم سوى تحويل واقعهم السيريالي في ظل الوباء إلى مزحة. ففي مقطع نُشِر عبر تطبيق “دويين”، شبه أحد الأشخاص حراس الأحياء الذين يطبقون إجراءات الإغلاق على السكان، بالفلاسفة الذين يتحدون الناس بأسئلة بسيطة لكنها عميقة في الوقت نفسه، من قبيل “من أنت؟، ومن أين جئت؟، وإلى أين أنت ذاهب؟”.
ويعتبر ريا أن أزمة الوباء لم تؤدِ إلا إلى أن تصبح السمات السريالية من الأصل لوقائع الحياة اليومية لكثير من المواطنين الصينيين العاديين، أكثر وضوحا. ويشير في هذا الشأن إلى عبارة صينية شائعة، تعني ترجمتها تقريبا: “لقد اعتدنا أن تكون الأمور غريبة الأطوار جزءا من حياتنا اليومية، إلى حد يُفقدها غرابتها”.
ورغم أنه من المغري دائما، أن يبحث المرء عن رسائل خفية، في كل ما يظهر على منصات التواصل الاجتماعي في الصين، فإن بعض المقاطع ربما لا تحتاج لمجهود كبير لفهمها وتحليلها.
ففي مارس/آذار الماضي، أرسل لي أحد معارفي من المقيمين في بكين، مقطعا مصورا مدته 30 ثانية؛ برهن فيما بعد على أنه يستعصي – بشكل غريب – على النسيان. بطلة المقطع شابة ترتدي كِنزة وسروالا منزليا، وفي قدميها خفا حمام، وعلى وجهها قناع جراحي.
ويُظهر المقطع الشابة وهي تخرج من برج سكني ضخم وشاهق الارتفاع، وفي أحد يديها كيس قمامة، وفي اليد الأخرى سيف، تقذفه إلى ارتفاع عال فوق رأسها، ثم تلتقطه، وتدور حول نفسها في الهواء، وتشرع ببراعة كبيرة في أداء سلسلة من الحركات القتالية، من تلك المخصصة للدفاع عن النفس. وبنفس السرعة التي تظهر بها الشابة، نراها تمضي بلا مبالاة وبخطوات واسعة باتجاه البرج السكني، وتختفي من على الشاشة.
وبشكل فوري، أَسَرَ هذا المقطع المصور – الذي تم وضع أغنية تحمل اسم “بدون اسم” على خلفيته – مخيلة الناس. وأثار أسئلة من قبيل “من هي بطلته؟ وأين أدت هذه الحركات القتالية؟”. كما تدفقت التعليقات، التي تُثني على تلك الشابة على مواقع التواصل الاجتماعي، مُتضمنة أشعارا من حقبة سلالة تانغ الحاكمة. بل قارن البعض بين بطلته والبطلة المحبوبة لسلسلة قصص تتناول المحاربين بالسيوف، للكاتب الراحل جين يونغ.
ورغم أن ذلك المقطع يفتقر بشكل ملحوظ لأي سياق، فإنه يستدعي على الفور إلى الذهن مجموعة من الموضوعات والأفكار، مثل التوقير الصيني للمحاربين بالسيوف، ورتابة الحياة اليومية في ظل الإغلاق، والشعور بالعزلة وضآلة الشأن، وفقدان البشر في هذه الحالة أي سمات مُميزة لهوية كل منهم، وهي كلها أحاسيس، قد يشعر بها أي شخص يقبع بانتظار عاصفة عاتية. مع ذلك، يبدو أن هذه المشاعر المشتركة، باتت توحد بين البشر بطرق جديدة من نوعها، وهو أمر تلعب فيه المقاطع المصورة المماثلة لذاك المقطع الذي تحدثنا عنه للتو، دورا مهما.
اللافت أنني لا أزال حتى الآن، أعجز عن منع نفسي من معاودة مشاهدة ذلك المقطع مرارا وتكرارا، رغم مرور أكثر من شهر على مشاهدتي له للمرة الأولى. وفي كل مرة أفعل فيها ذلك، أحس بأنني استشعر فيه لمحة عابرة لشيء مُلهم ومبهج. إذ يبدو الأمر كما لو كان تذكيرا، بأنه بمقدور كل منّا أن يصبح بطلا، حتى في اللحظات التي يغمرنا فيها جميعا، إحساس بالعجز وانعدام الحيلة.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Travel.
[ad_2]
Source link