أخبار عربية

حكاية المحاور التليفزيوني الذي خطط نيكسون لـ “تدميره”


ديك كافيت

مصدر الصورة
Getty Images

Image caption

المحاور التليفزيوني الشهير ديك كافيت

ربما يكون الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون أحد أبرز الأسباب التي جعلت ديك كافيت، واحدا من أبرز مقدمي البرامج الحوارية على شاشات التلفزيون في الولايات المتحدة، فقد كُشِفَ النقاب خلال سبعينيات القرن الماضي، عن تسجيل صوتي يمكنك أن تسمع فيه صوت نيكسون، وهو يناقش كيف يمكن تدمير هذا الرجل.

حدث ذلك في عام 1971، عندما كان الرئيس الأمريكي الراحل على مسار تصادمي مع غالبية مكونات صناعة الإعلام والترفيه في بلاده، إذ كان يعتبر الصحافة – بوجه عام – خبيثة ويسارية التوجهات.

لكن كافيت لم يكن – من حيث المظهر على الأقل – شخصية إعلامية وقحة، كما قد توحي الرغبة التي اتقدت لدى نيكسون، في الانتقام منه. فقد كان هذا الرجل، الذي يفتقر للجاذبية الشكلية، ممثلا كوميديا سابقا أشقر الشعر تماما، يفرقه من على أحد الجانبين. أما من حيث المضمون، فقد اتسم بدماثة الخلق والثقافة الواسعة. وكان يرحب بضيوف ينتمون لشتى ألوان الطيف السياسي، رغم تبنيه توجهات ليبرالية بكل معنى الكلمة.

وبرغم الشعبية التي كان يحظى بها برنامجه دون شك، فقد شكّل نقيضا فكريا، لبرامج أخرى مناظرة له، كتلك التي كان يقدمها إعلاميون مثل جوني كارسون وميرف غريفين، ظلا يتفوقان عليه باستمرار من حيث التصنيف الخاص بمدى نجومية مقدمي البرامج الحوارية في الولايات المتحدة.

مصدر الصورة
Getty Images

Image caption

استضاف كافيت في برنامجه غالبية الشخصيات اللامعة على الساحة الثقافية والفنية في عصره، مثل عضو فريق البيتلز جون لينون وزوجته يوكو أونو

الغريب أنه يصعب عليّ أن أحدد متى بدأت أُغْرَمُ ببرنامجه “ذا ديك كافيت شو”، الذي يبدو بمثابة كبسولة تحوي بداخلها ملخصا لما كانت عليه الولايات المتحدة في سبعينيات القرن العشرين.

ربما بدأ تعلقي بهذا البرنامج، عندما شاهدت صاحبه، وهو يرحب بمارتن سكورسيزي المخرج الشاب وقتها، الذي بدا عصبيا في تلك الحلقة التي بُثت قبل أن يُكلل فيلمه “سائق التاكسي” بالنجاح الكبير الذي حققه، وطرح خلالها كافيت أسئلته على ضيفه، بحماسة طالب في معهد السينما.

أو قد تكون شرارة إعجابي بالبرنامج، قد بدأت مع المقابلة المطولة التي أجراها مقدمه مع مغني الروك البريطاني ديفيد بوي في عام 1974، أو نحو ذلك. ومع أن كافيت افتقر – كمحاور – إلى ما كان يتحلى به مقدم منافس مثل كارسون، من جاذبية وشخصية مهيمنة، فقد كان أسلوبه الأكثر دماثة ونهجه الأغزر معرفة، كفيلا بتحقيق المعجزات.

منجم ذهب لـ “للمحاورات المستمرة”

وبوسع زوار موقع “يوتيوب”، أن يجدوا مقاطع وحلقات من البرنامج، أُخِذَ كثيرٌ منها من الأرشيف الرسمي الخاص بـ “كافيت”، الذي بدأ مسيرته التليفزيونية عام 1968 على شاشة محطة “آيه بي سي”، ثم انتقل إلى “سي بي إس” عام 1975، قبل أن يتنقل بين العديد من الشبكات التلفزيونية الأخرى على مدار عقد الثمانينيات.

وبالنسبة لعشاق ذلك البرنامج، تشكل تلك المواد الأرشيفية الموجودة على يوتيوب منجم ذهب. وتبرز كيف نجح كافيت في مجادلة ومحاججة ضيوف يُعرفون بأنهم شديدو المراس أكثر من غيرهم، وذلك بأسلوب مزج فيه بين البراعة وسرعة الخاطر من جهة والبعد عن الادعاء من جهة أخرى، دون أن يمنع ذلك على الإطلاق، من أن تبدو عليه في بعض الأوقات، علامات الخجل كفتاة لا تزال في سن المراهقة.

فقد شهدت المقابلات التي أجراها كافيت نقاشات مطولة ومتشعبة مع عدد من المخرجين؛ بعضهم كان في ذروة مجده، والبعض الآخر جلس أمامه كضيف في سنوات خفوت نجمه. من بين هؤلاء، ألفريد هيتشكوك وإنغمار بيرغمان وسبايك لي ومارتن سكورسيزي وروبرت أُلتمان، وذلك جنبا إلى جنب مع عدد آخر لا حصر له من أساطير الإخراج السينمائي.

كما لا يزال الكثيرون يتذكرون المقابلات الصريحة التي أُجريت في إطار البرنامج، مع نجوم أسطوريين من أمثال كاثرين هيبورن وبول نيومان. ورغم أن الأعراف التي سادت في تلك الحقبة، كانت تجعل الحياة الخاصة للنجوم ذات قدسية لا تمس، فإن البعض منهم تحدث بصراحة غير مسبوقة عن حياته، عندما حاوره ديك كافيت.

وأدى ذلك، بفعل اقترانه مع موجة التحلل العام من هذه القيم التقليدية التي شهدتها السبعينيات، إلى نتائج مذهلة للمشاهدين، كما حدث عندما لم تتردد بيتي ديفيز – مثلا – في الحديث مع كافيت، عن مسألة فقدانها لعذريتها.

وتتيح لك زيارة موقع “يوتيوب” أيضا، أن ترى الرسام العالمي الراحل سلفادور دالي، وهو يلقي ذات مرة حيوان آكل النمل على شخص آخر، أو تشاهد الفجوة بين الأجيال، وهي تبدو جلية، عندما استضاف كافيت في إحدى الحلقات، نجمة السينما الصامتة غلوريا سوانسون جنبا إلى جنب مع المغنية الشهيرة في فترة الستينيات جانيس جوبلين.

من ناحية أخرى، فإذا كنت مهتما ببعض الأسماء المهمة التي برزت على الساحة الثقافية والفنية الأمريكية في القرن العشرين، فستجدهم على قائمة ضيوف كافيت في هذه الحلقة أو تلك. وستراهم كذلك يتحدثون بكل صراحة وبروح دعابة كذلك، بدءا من عازف الروك جيمي هندريكس مرورا بالكاتب غور فيدال، وصولا إلى الناشطة الاجتماعية والسياسية غلوريا ستاينم.

وسيسهل عليك خلال المشاهدة، أن ترى كيف كان كافيت – على الدوام – يُسهّل النقاش بين ضيوفه، بظرف وروح دعابة وتواضع وعدم ادعاء في الوقت نفسه، حتى وهو يلعب دور المُضيف، لتجمع من الضيوف الذين يتحاورون على نحو، يُذكِّر بالأجواء الفكرية التي سادت الصالونات الباريسية العتيقة.

ولم يكن كافيت يقاطع النقاشات الدائرة بين ضيوفه، سوى في وقت الفواصل الإعلانية، التي كان ينوه عنها لمشاهديه مُقوسا حاجبيه، وكأنه يتحدث عن أمر طرأ على باله متأخرا وعلى حين غرة.

مصدر الصورة
Getty Images

Image caption

كان نيكسون يكره كافيت بشدة نظرا لاستعداد الأخير لإجراء مقابلات ذات طابع مدمر على الصعيد السياسي

وإذا عدنا إلى كراهية نيكسون لكافيت، سنجد أنها نبعت بلا شك – جزئيا على الأقل – من اهتمام المحاور الأمريكي، بتناول الموضوعات السياسية الجادة والخطيرة في الوقت نفسه. وضمت قائمة الشخصيات، التي قد توصف بأنها “مخربة” سياسيا، ممن استضافهم البرنامج: عضو فريق البيتلز جون لينون والممثلة الشهيرة جين فوندا، وكذلك بعض أعضاء مجموعة من المحاربين القدماء المناهضين للحرب في فيتنام.

ولا ينسى أحد في هذا المُقام، أن كافيت كان أول من استضاف على شاشة التليفزيون، عسكريين سابقين خاضوا هذه الحرب، وذلك في ذروة النقاش الذي شهدته الولايات المتحدة حول هذا الملف، بل إن أحدهم ظهر على الشاشة، وهو جالس على كرسي متحرك.

عدو الأغلبية الصامتة

ويمكن القول إن كافيت لا يختلف كثيرا عن “النخب الليبرالية” الموجودة حاليا في نيويورك، التي يبغضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأنصاره. فقد كان تجسيدا لكل ما كانت تكرهه “الأغلبية الصامتة”، وهو المصطلح الذي نحته نيكسون، للإشارة إلى ما اعتبره أعدادا كبيرة من أنصاره، ممن قال إنهم يعيشون خارج المراكز الحضرية في مدن البلاد.

ومن بين أكثر المقابلات إثارة للجدل التي أجراها كافيت، تلك التي استضاف فيها السياسي الأمريكي المؤيد للتفرقة العنصرية ليستر مادوكس، وشكلت مصدر إلهام لأغنية “ريدنيكس” (المتخلفون)، التي قدمها المغني والموسيقي الأمريكي راندي نيومان عام 1974.

وقد تضمنت الأغنية هجوما شديدا على توجهات الفصيل السياسي المؤيد لنيكسون. وتضمنت كلمات من قبيل “شاهدت الليلة الماضية ليستر مادوكس في برنامج تليفزيوني/بصحبة بعض يهود نيويورك من الساخرين أصحاب حس الدعابة، الذين يراهم البعض مزعجين”. ورغم أن كافيت ليس يهوديا، فقد كانت الفكرة التي يريد نيومان إيصالها، من خلال عمله الغنائي واضحة. ففي 1970، كان الانقسام السائد في الولايات المتحدة، بشأن قضايا مثل الأصل العرقي والتوجهات السياسية والانتماء لطبقة اجتماعية بعينها، جليا كما هو حاله بعد نصف قرن من ذلك العام.

وعلى مستوى جوهري بشكل أكبر، يمكن للمرء – عبر متابعته للمقابلات التليفزيونية التي أجراها كافيت – الشعور بذلك الانفعال الناجم عن مشاهدة نجوم وشخصيات عامة من الماضي وهي تتحدث بكل حرية، خاصة وأن ضيوف هذا الرجل، كانوا قد وصلوا وقت ظهورهم معه على الشاشة، إلى مرحلة بات فيها من المتعذر استضافتهم في برامج من هذا القبيل، إما بسبب العمر أو مستوى النجومية والشهرة، وهو ما يجعل مشاهدتهم على هذه الشاكلة، أمرا رائعا وفاتنا.

بجانب ذلك، من اللافت أن مرور الوقت لا يؤدي إلى تضاؤل شغف المرء بمشاهدة محاورات ودية وعفوية، أُجريت مع نجوم من الطراز الأول، كهؤلاء الذين تحدثنا عنهم في السطور السابقة. ويبدو ذلك واضحا من خلال الشعبية التي حظيت بها أحدث حلقات المدونة الصوتية، التي يقدمها الكوميديان الأمريكي مارك مارون، واستضاف فيها الممثليْن الشهيريْن ليوناردو دي كابريو وبراد بيت.

وفي واقع الأمر، يمكن أن نقول إن هذا النوع من المحاورات والمقابلات قد صار الآن أكثر ندرة. فرغم أن وسائل التواصل الاجتماعي، جعلت النجوم يبدون – نظريا – وقد صاروا أكثر حميمية مع المعجبين بهم، فإن آلة الدعاية الحديثة أصبحت تفرض قدرا مفرطا من الحماية حول “أبقارها المقدسة”، بشكل يجعلها لا تكترث كثيرا بالشكل الذي يظهرون به أمام جماهيرهم.

الوضع كان على النقيض من ذلك في عصر كافيت، فحينئذ لم يكن الممثلون والنجوم مجرد شخصيات تتصرف بتهذيب أكثر من اللازم، أو تردد مقاطع صوتية معدة بعناية لتلائم البث عبر وسائل الإعلام، كما هو الحال الآن. وحتى لو كانوا في وقت ما كذلك، فقد سمح لهم المجتمع الأمريكي، في الحقبة التي ساد فيها ما يُعرف بـ “الثقافة المضادة” للقيم الأخلاقية والجمالية المتعارف عليها، بأن يكونوا شديدي الصراحة والوضوح والاتساق مع أنفسهم، على نحو لم يكن معهودا من قبل.

لذا بمقدورك أن ترى ممثلين من وزن جون كاسافيتيس وبيتر فولك وبن غازارا، وهم يتحدثون – في ضيافة كافيت – بانطلاق شديد وهم ثملون، بل ويتصرفون بأريحية، تصل إلى حد خلع أحذيتهم أمام الكاميرات. وفي إحدى المقابلات التي أجراها الرجل، تبادل أسطورتا ملاكمة الوزن الثقيل، محمد علي وجو فريزر “اللكمات” اللفظية الحادة قبل نزالهما الفعلي في الحلبة. وواجها بعضهما بعضا أمام الكاميرات، بينما تجرأ كافيت ضئيل البنية بالمقارنة بهما، على المغامرة بالفصل بينهما على نحو هزلي.

مصدر الصورة
Getty Images

Image caption

يبلغ كافيت الآن 83 عاما من العمر، وصار خبيرا مخضرما في صناعة الإعلام، وقد أصدر أكثر من كتاب يتضمن ذكرياته عن خبراته في مجال تقديم البرامج الحوارية على شاشة التليفزيون

وقد عَمَد كافيت إلى محاورة ضيوفه والانخراط في نقاشات صريحة معهم، بطريقة تخلو من أي تملق، ولا تشوبها العجرفة أو الاستعلاء في الوقت نفسه. وعكس أسلوبه هذا، كيف أدت الروح البوهيمية التي شاعت في سبعينيات القرن الماضي، إلى إسباغ طابع تحرري على المجال الثقافي وصناعة الترفيه في تلك الفترة.

فضلا عن ذلك، أدى السمت الفضفاض وغير الرسمي، الذي اصطبغ به “ذا ديك كافيت شو”، إلى طمس حقيقة الطابع الفكري الاستقصائي للبرنامج. كما برع كافيت في تغطية فضيحة سياسية مثل “ووترغيت”، مثلما كان بارعا في تناول القضايا المتعلقة بالموسيقى والرياضة والسينما.

وتدفعني مشاهدة مقاطع من هذا البرنامج الآن، وأنا حبيسة جدران المنزل، إلى أن أتوق إلى تلك الأيام التي كانت فيها الساحة العامة في الولايات المتحدة زاخرة بالنقاشات الفكرية. حينما كان يُحتفى بالاختلافات والتناقضات بين البشر، لإثارة نقاشات شديدة الإثارة والجاذبية، بدلا من استغلال ذلك بشكل يفرغه من مضمونه، ويجعله أداة للتسلية ليس إلا.

كما تجعلني استعادة هذه المقاطع، أشعر بالحنين الشديد إلى تلك السنوات، التي كانت فيها الساحة الثقافية والإعلامية ووسائل التواصل الجماهيري الرئيسية، أكثر انفتاحا على الآراء المعارضة والمخالفة لما هو سائد.

والآن، أسدل ديك كافيت الستار على مسيرته التليفزيونية الحافلة، التي استضاف خلالها عددا هائلا ومتنوعا من نجوم الروك وكبار الرياضيين والساسة الغاضبين والمغنيات الشهيرات، اللواتي تقدمن في العمر. وقد حاور كل هؤلاء بكياسة وذكاء وخفة دم كذلك.

اليوم يبلغ هذا الرجل 83 عاما من العمر، وأصبح خبيرا مخضرما في صناعة الإعلام والترفيه. وقد أصدر أكثر من كتاب يتضمن ذكرياته عن خبراته في مجال تقديم البرامج الحوارية على شاشة التليفزيون. ورغم أنني لم أكن قد وُلِدُتُ بعد، عندما بلغ “ذا ديك كافيت شو” ذروة مجده وتألقه، فإنني أشعر الآن بافتقاده بشدة.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى