أخبار عربية

الرعاية النفسية: “حكر على الميسورين” ومبادرات شبابية لتعميمها في خضم أزمة كورونا


تعرّف منظّمة الصحّة العالمية الصحة النفسية على أنها “ليست مجرّد غياب الاضطرابات النفسية، بل هي حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية والعمل بشكل منتج ومفيد والإسهام في مجتمعه المحلي”.

مصدر الصورة
Visual Generation/ Getty Images

فالمشاكل النفسية لا تعني بالضرورة اضطرابا نفسيا وإنما قد تكون توّترا ناتجا عن ضغط في وضعية معيّنة وتحت ظروف اجتماعية أو اقتصادية أو مهنيّة مؤّقتة كما هو الحال في هذه الفترة التي يواجه فيها العالم وباء كورونا.

الحجر الصحي العام هو الإجراء المتبع في دول كثيرة من العالم في خضم المحاولات المشتركة للحد من الانتشار الضاري لفيروس كورونا.

وعدم مغادرة المنزل إلا للضرورة هي النصيحة المتبعة والمتفق على فعاليتها في وقاية الناس الإصابة بالفيروس.

لكن هذا الحجر يتطلب الكثير من الجهد والوعي للوقاية من الانهيار النفسي والعصبي.

قد يجد البعض حلولا لأنفسهم وطرقا اعتيادية أو مبتكرة للتعامل مع الضغط النفسي الذي يسببه الوضع العام السائد بسبب الوباء، لكن كثيرين يحتاجون بالتأكيد إلى المساعدة المختصة.

الجهات الرسمية في بعض الدول أطلقت برامج رعاية نفسية خاصة بالوضع الذي يمر به سكانها في خضم أزمة وباء كورونا.

لكن الحصول على الرعاية النفسية في المطلق ليس بالأمر السهل في منطقتنا العربية ولم يكن كذلك أبدا قبل الوباء .

نظرة المجتمع

هذا التعريف الشامل للصحّة النفسيّة ورغم الجهود التي تبذلها منظّمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية والمحلية المختصّة لا زال انتشاره مقتصرا على فئات معينّة في مناطق بعينها.

ففي أجزاء كثيرة من منطقتنا العربية ما زال من يزور عيادة طب نفسي يوصم بالاضطراب وبالجنون حتى في بعض الأحيان.

وقد يتجّنب المحيطون به التعامل معه لإيمانهم بأن المشاكل النفسية ترتبط بالأساس بسلوك غير طبيعي أو عنيف.

هذه الاعتقادات المنتشرة نسبيا تجعل الشخص يفكّر كثيرا قبل طلب المساعدة الطبيّة النفسية.

وقد يقرر عدم اللجوء إلى المساعدة ومجابهة مشاكله بنفسه. هذا القرار قد يؤدي في أحيان كثيرة إلى تفاقم الأزمة النفسية وقد يصل حد الانتحار.

“قوة العقيدة الدينية والحاجة للطبيب النفسي”

إذا قرر الشخص الذي يعيش اضطرابات عاطفية أو نفسية عدم الاستعانة بمتخصص أو عجز عن ذلك، فقد يلجأ إلى طرق يؤمن بأنها ستساعده في تجاوز الأزمة. أكثر هذه الطرق شيوعا هي التوجّه إلى الإله.

فالإيمان الراسخ بأن الإله قادر على شفاء كل علّة يساعد من يعاني من الأزمة في التعامل معها.

الشعور بوجود قوة بيدها الحل والإيمان بأن ما أصابك لا يد لك فيه أو أنه ابتلاء وامتحان، يولّد حالة من الراحة والرضى تساعد في التغلب على القلق الناجم عن الوضع النفسي الذي يمر به الشخص. ولو أن هذا الشعور لا يلغي وجود الأزمة لكنه يطمسها حتى لا تكون الهاجس الأكبر للدماغ.

بعض من شاركونا رأيهم عن الموضوع على صفحة بي بي سي عربي على فيسبوك قالوا إنهم لا يحتاجون أخصائيا نفسيا وأنهم يلجؤون إلى الصلاة والدعاء ويعتمدون على إيمانهم بالله وبقدرته في شفائهم أو في تجاوزهم المحنة.

ارتفاع كلفة العيادات النفسية وغياب خدمات الصحة النفسية

عدم الاستعانة بأخصائي نفسي قد لا يكون خيارا عند البعض ولا مرتبطا بعقيدة أو برفض لمبدأ عيادة الطبيب النفسي، وإنما عجز مادي عن دفع كلفة جلسات العيادة النفسية.

كلفة الجلسات مرتفعة في كثير من البلدان بشكل يجعلها حكرا على طبقة معيّنة من المجتمع.

لكن حتى لو توفّر لدى الشخص المال اللازم لتغطية تكلفة العلاج النفسي تبقى أمامه مشقّة الوصول إلى عيادة نفسية.

عدد المراكز والمستشفيات والمصحات الخاصة التي توفّر الرعاية النفسية والمتابعة والعلاج لا يغطي حاجيات السكان في أغلب البلدان العربية.

“أحكيلي” :عيادات طبية نفسية عبر الهاتف في تونس

أمام هذه العوائق التي تجعل حصول البعض على الرعاية النفسية شبه مستحيل، فكّر البعض في مبادرات تسهّل الحصول على خدمات الصحة النفسية وتسد عجرا في “سوق” العيادات النفسية الخاصة.

غيث السويسي المختص في علم النفس ولمياء الشوك، أطلقا مبادرة في تونس توفّر خدمات صحيّة نفسية عبر الهاتف لمن يحتاج الاستشارة أو المتابعة أو من يريد أن يحكي ما يؤرّقه ومن هنا اسم “أحكيلي”.

تتصّل برقم هاتف يجيبك أحد الأخصائيين ويتعامل مع مشكلتك إذا كان صاحب الاختصاص الأنسب أو يحوّلك إلى زميله المتخصّص في المجال الأقرب لحالتك.

يقول غيث إن ملامح مبادرة “أحكيلي” تشكّلت كمجموعة من الحلول لما يعيق الناس عن الحصول على استشارات نفسية.

يدفع المتصّل ثمن الاتصال الهاتفي فقط، ومنه يتقاضى الأخصائيون أجرتهم حسب اتفاق مع المشغلين ووزارة الاتصال.

ويقدّم الاخصائيون الاستشارة وخدمات الاستماع وغيرها حتى ساعة متأخرة من الليل، ممّا يسهّل الأمر على من تمنعه ساعات الدوام من عيادة الطبيب النفسي ومن يشعر بالحاجة للتواصل مع أخصائي نفسي في ساعات متأخرة من الليل.

وتوفّر المبادرة بذلك أيضا خدمات الاخصائيين النفسيين لمن يفتقدون لها في مناطقهم. حيث يوجد في تونس، التي يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، ثلاث وثلاثون عيادة استشارة نفسية فقط حسب إحصائيات وزارة الصحة لعام 2019.

تعريف الصحّة النفسيّة الموسّع، كما تورده منظّمة الصحّة العالمية، يشير إلى حاجة عدد كبير من المراهقين إلى الرعاية الصحية.

صغر سن هؤلاء وارتباط حياتهم بقرارات أولياء أمورهم يجعل حصولهم على الرعاية النفسية من عدمه رهنا لوعي أوليائهم وموقفهم الشخصي من الرعاية النفسية المختصة.

وهنا تظهر العيادات النفسية المتوّفرة عبر الهاتف كحلّ يساعد المراهقين على الحصول على الاستشارة والإحاطة اللازمة من دون حرج.

كما يجنّبهم طلب المساعدة من غير المختصّين كالبرامج الإذاعية أو المجموعات المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا تقدم بالضرورة مشورة مختصّين، وإنما قد تكون المساهمات فيها مفتوحة لغير ذوي الاختصاص.

بل قد تنعدم فيها الرقابة على ما من شأنه أن يزيد حالة طالبي المشورة سوءا.

“Embrace”: دعم نفسي مجاني لمواجهة الانتحار

وفي لبنان مبادرة شبيهة سابقة تحت رعاية منظمة “أمبريس” “ Embrace“.

انطلقت “أمبريس” عام 2013 وكانت جزءا من البرنامج الوطني للصحة العقلية في لبنان.

عملت المنظمة على نشر الوعي حول أهمية الصحة النفسية والتغلب على وصمة العار الاجتماعية المرتبطة بكل ما يتعلق بالحديث عن الصحة والسلامة الذهنية.

ولكن في عام 2017 تحولت “إمبريس” إلى منظمة غير ربحية تركز عملها على الوقاية من الانتحار عبر خط هاتفي مباشر.

ويتلقى أكثر من مئة متطوع اتصالات هاتفية على مدار اليوم.

تقول ليا زينون، المديرة التنفيذية لمنظمة “إمبريس”، لبي بي سي إن خدمة المساعدة الهاتفية تتبع نهجا “سماعيا تعاونيا” لتقديم الدعم المعنوي والتخفيف من حدة التوتر والإجهاد النفسي للمتصلين.

ويبدي المتطوعون تقييما أوليا لمدى ميل المتصل إلى الانتحار، يوجهون على أساسه المتصل إلى الخدمات المجتمعية المتاحة لمساعدته.

يتلقى المتطوعون تدريبا من المنظمة على مهارات متعددة منها “الاستماع النافع والإيجابي” وكيفية التدخل والتعامل مع السلوك الانتحاري.

ويشرف على كل فريق مختص في الطب النفسي يتدخل عند الحاجة.

لكن ماذا عن من هو في حاجة ماسة للدعم النفسي٫ لكنه أيضا في حاجة لثمن المكالمة الهاتفية لكي يقتات؟ هنا يقع الاختيار طبعا بحكم “الترتيب المنطقي للأولويات” على قوت اليوم!

لهذا تعتمد “إمبريس” أيضا على وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع من يحتاج دعما نفسيا مع المنظمة عبر حساباتها الرسمية، فيتصل بها المتطوعون هاتفيا.

الأزمات تزيد الحاجة للدعم النفسي

قالت زينون إن “إمبريس” كانت تتلقى ما يقارب مئة وخمسين اتصالا شهرياً في العادة لكن عدد الاتصالات تجاوز مئة وخمسين اتصالا في اليوم في فترة المظاهرات في لبنان مثلا.

وفي أزمة وباء كورونا تستخدم المنظمة صفحتها على فيسبوك للتواصل المباشر مع المحتاجين للدعم النفسي.

مبادرة أحكيلي في تونس ضاعفت هي الأخرى الجهد مع بدأ تفشي وباء كورونا في البلاد، التي دخلت مرحلة الإغلاق منذ نحو شهر.

وبسؤاله عما إذا كانت هواجس المتصلين بمركز أحكيلي، طلبا للدعم في هذه الفترة، قد تغيرت عن ما سبق، قال غيث السويسي إنها بدأت تبتعد عن الفيروس نفسه والخوف من الإصابة وتتوجه نحو القلق من تبعات الإغلاق على أوضاعهم الاقتصادية، خاصة مع اقتراب شهر رمضان.

كثيرون من أصحاب الأعمال الحرة وغير الموظفين بقوا بلا مصدر دخل منذ دخول إجراءات الحظر والإغلاق حيز التنفيذ. لذا، يعبرون عن قلقهم أيضا من “ضعف الإجراءات اللي اتخذتها الدولة لمساعدة الطبقتين المتوسطة والفقيرة على مجابهة تبعات هذه الإجراءات”.

وبين هذا وذاك يعاني المتصلون أيضا من نوبات خوف يسببها الحجر.

وبينما قد يختار البعض الابتعاد عن التعرض المبالغ فيه للأخبار المتعلقة بالوباء وانتشاره، وهو ما ينصح به الأخصائيون النفسيون، يستحيل ذلك على أصحاب بعض المهن التي لها علاقة مباشرة بالوباء والوضع المحيط به. من بين هؤلاء نحن الصحفيون .

تخصص مؤسسات إعلامية كثيرة، من بينها بي بي سي، فرقا مختصة للدعم النفسي للعاملين فيها. لكن هذا قد لا ينطبق على كل المؤسسات الإعلامية ولا على كل الصحفيين.

في تونس تعمل مبادرة أحكيلي، بالتنسيق مع نقابة الصحفيين، على إرساء برنامج تكويني على المستوى النفسي خاص بالصحفيين.

ويركز البرنامج على العاملين على تغطية أخبار الوباء وغيره من المواضيع التي “تعرضهم للخطر الجسدي وتضعهم تحت ضغط نفسي يفوق في أحيان كثيرة قدرتهم على التحمل”.

الأوضاع الاقتصادية والأطر الاجتماعية والثقافية لكثير من الدول العربية قد تضع الصحة النفسية في مكانة متراجعة نسبيا على قائمة الخدمات والأولويات.

لكن المبادرات الاجتماعية والفردية والمشاريع البديلة قد تساعد في سد جزء هام من الحاجة إلى هذه الخدمات.

لكن هل يكفي التعويل على المبادرات المجتمعية أو المشاريع البديلة لإيلاء الرعاية النفسية مكانتها ضمن الأولويات وإيصالها إلى محتاجيها؟



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى