رفعة الجادرجي: رحيل شيخ المعماريين الذي شهد هدم بعض مبانيه ونُصبه بنفسه
[ad_1]
توفي المعماري البارز رفعة الجادرجي، والذي يعد أحد رموز عمارة الحداثة في القرن العشرين بالعراق والمنطقة العربية، ليلة الجمعة في العاصمة البريطانية لندن عن عمر ناهز 94 عاما.
ويعد الجادرجي من أواخر ممثلي جيل من المعماريين من القرن الماضي حاول الموازنة بين الاتجاهات الطليعية في العمارة العالمية وخصوصية البيئة المحلية منذ خمسينيات القرن الماضي.
نهل الجادرجي من رموز عمارة الحداثة منتصف القرن العشرين، لكنه حاول أن يكسي عمارته بسمات محلية مراعيا خصوصيات المناخ والبيئة المحلية، وقد اشتهرت مبانية بواجهاتها التي تستخدم الطابوق العراقي (الآجر) والتكوينات التجريدية والأشكال التي تشبه الشناشيل في البيت العراقي التقليدي.
وهو ما يصفه وليم كيرتس في كتابه بالإنجليزية “العمارة الحديثة منذ 1900” بأنه نوع من “تجسير الهوة بين المظاهر التحررية في الحداثة العالمية والقيم الأساسية التي تلمسها في تقاليد عمارة الطابوق في بلاده التي تتحدر جذورها من (عمارة المنطقة القديمة) من الجوامع الأولى إلى الزقورات القديمة في أور ونينوى”.
ترك الجادرجي العشرات من التصميمات المعمارية وقد نُفذ بعض منها في العراق وبعض الدول العربية، ويحلو للبعض أن يلقبه بشيخ المعاريين العراقيين، إذ لم يكتف بمنجزه المعماري، بل وثق أسسه النظرية وترك إرثا نظريا ثرا عن عمارته في عدد من الكتب التي نشرها في حياته.
وقد توج منجزه المعماري بحصوله على جائزة أغا خان للعمارة عام 1986. كما انتخب عضو شرف في المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين 1982 والمعهد الأمريكي للمعماريين عام 1987، ومنحته جامعة كوفنتري البريطانية دكتوراه فخرية عن مجمل منجزه التصميمي المعماري.
ولد الجادرجي في العاصمة العراقية بغداد عام 1926، وكان والده سياسيا بارزا، ومؤسسا للحزب الوطني الديمقراطي ورئيسا لأول جمعية للصحفيين في في العراق أربعينيات القرن الماضي.
درس العمارة في لندن للفترة من 1946 إلى 1952، في مدرسة همرسميث للفنون والحرف. وبعد عودته إلى العراق أسس المكتب الاستشاري العراقي رفقة عدد من المعماريين الطموحين في تلك المرحلة، وقد رفد هذا المكتب العمارة في العراق بالعديد من نماذجها.
وكانت بغداد في تلك الفترة تمور بالحركات الطليعية في الفن والأدب؛ كحركة الشعر الحر وجماعة بغداد للفن الحديث، التي اقترب منها كثيرا وارتبط بعلاقة صداقة مع أبرز رموزها، الفنان جواد سليم، تحولت لاحقا إلى علاقة إبداعية مثمرة، جسدها “نصب الحرية” الذي صممه الجادرجي في صورة لافتة احتجاج ونحت مفرداته سليم، وبات رمزا وسط العاصمة العراقية يتجمع تحته المتظاهرون في مظاهرات الاحتجاج المتواصلة في بغداد منذ شهور.
إلى جانب عمله التصميمي شغل الجادرجي مناصب مهنية وإدارية في العراق بدءا من خمسينيات القرن الماضي من بينها: مدير عام هيئة الإسكان في وزارة الإعمار أواخر الخمسينيات، ورئيس هيئة التخطيط في وزارة الإسكان مطلع الستينيات، ومستشار أمانة العاصمة العراقية مطلع الثمانينات.
أظهر الجادرجي نزوعا حداثويا منذ تصاميمه المعمارية المبكرة في الخمسينيات؛ كما هي الحال مع عمارة ” بناية الجوربه جي ” في شارع الشيخ عمر ببغداد (1953) وعمارة “دار كتخدا” عند ساحة الفردوس ببغداد أيضا ( 1959) اللتين يصفهما أستاذ العمارة الدكتور خالد السلطاني، والباحث حاليا في مدرسة العمارة بالأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون بأنهما ” استمدا طريقة توزيع أحيازهما من مرجعية تصميمية غير معتادة وغير معروفة في النشاط المهني المحلي” حينذاك.
شواهد معمارية وبحث نظري
ترك الجادرجي العديد من المباني والشواهد المعمارية المميزة، ومن بينها مبنى دائرة البريد المركزية (مجمع اتصالات السنك) في شارع الرشيد ببغداد عام 1975 (والذي تعرض للقصف أكثر من مرة منذ ثمانيات القرن الماضي)، ومبنى ” شركة التأمين الوطنية ” في الموصل (1966)، الذي دمر كليا خلال المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الموصل العراقية، و مجمع “مجلس الوزراء” ببغداد (1975) ومبنى ” اتحاد الصناعات العراقي ” ببغداد ( 1966 ) ، ومبنى ” فرع مصرف الرافدين ” ببغداد ( 1967 ) ، و” عمارة الشيخ خليفة ” في المنامة / البحرين ( 1969) وغيرها.
ويصف السلطاني، الذي أرخ للكثير من منجزات العمارة في العراق، منجز الجادرجي المعماري بقوله: ” كان التوزيع الفراغي الحداثي الكامن في التكوينات التصميمية المنجزة ، قد شكل ّ نبرة جديدة في الخطاب المعماري المحلي، فإن اهتمامات المعمار الجريئة الخاصة بإيجاد حلول غير مسبوقة لاشكالية موضوعة المناخ السائد في المنطقة، وتأثيرات تلك الحلول في إغناء طرائق معالجة الواجهات تظل، في رأينا، تمثل إضافة كبيرة وأساسية في منجز عمارة الجادرجي”.
وشغل البحث النظري في العمارة حيزا كبيرا في حياة الجادرجي، إذ كرس الكثير من جهده لتقديم صياغة نظرية لمشروعه المعماري، وقد ترك في هذا المجال عددا من الكتب من بينها :”الأخيضر أو القصر البلوري” :شارع طه وهامر سمث” و “في سببية وجدلية العمارة”، إلى جانب مساهماته الأكاديمية أستاذا زائرا في عدد من المؤسسات ومن بينها جامعة هارفرد في الولايات المتحدة.
عُرف الجادرجي أيضا بشغفه بالتصوير وقد أجرى مسحا فوتغرافيا للعمارة والتطور الاجتماعي في العراق وبعض الدول العربية. وقد ترك إرشيفا ثرا يضم آلاف الصور في هذا الصدد.
بناء وهدم
ولم يرَ عدد من مشاريع تصاميم الجادرجي المعمارية النور بعد تعرقل تنفيذها وبنائها، كما هي الحال مع “المصرف الوطني ” في أبو ظبي ( 1970 )، و ” مجلس الأمة ” في الكويت ( 1972 ) ، و ” المبنى الإداري ” في دبي ( 1975 ) ومبنى “القصر الجمهوري ” ببغداد ( 1967) وغيرها.
كما تعرض العديد من أعماله للتشويه والهدم، كما هي الحال مع مبنى “شركة التأمين الوطنية ” في الموصل (1966)، الذي دمر كليا خلال المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الموصل العراقية.
وتعرض مبنى البريد المركزي في السنك للقصف غير مرة في الحروب المتعددة التي وقعت في العراق منذ الثمانينيات، ثم تعرض للحرق مع مبنى اتحاد الصناعات في عام 2003.
وقد هدم في عام 1982 نصب الجندي المجهول (الأول) الذي نفذ مطلع الستينيات في الساحة التي سميت لاحقا بساحة الفردوس وحل محله تمثال للرئيس العراقي السابق صدام حسين، هُدم بدوره بعد سقوط نظامه في عام 2003.
قد تحدث الجادرجي في أكثر من مناسبة واصفا : كيف أنه شهد بنفسه تهديم نصبه عندما كان مستشارا لأمانة بغداد ووثق بكامرته عملية الهدم، بل إنه في إحدى مقابلاته الأخيرة توقع أن تهدم كل بناياته في العقد القادم، منتقدا بشدة وألم ما يراه نقصا في الوعي التاريخي في مجتمعاتنا وعدم حفظها لذاكرتها وإرثها الحضاري.
وفي هذا الصدد يقول الجادرجي ” إنني أؤمن بأن البناء الحضاري يؤلف النصف الأول في عملية الإنجاز، وإن النصف الثاني، وربما الأهم، هو صيانته والحفاظ عليه باعتباره من ذاكرة المجتمع وامتداداً لهذه الذاكرة في الزمن. واعتقد أن الشعب الذي لا يتمكن من صيانة إبداعه، هو شعب لا يمتلك ذاكرة يُسخرها في المزيد من البناء الحضاري، بل لا يعي بأن الذاكرة هي أساس في تكوين وجدان المجتمع”.
[ad_2]
Source link