كيف ستبدو حياتنا والأنشطة التي نفضلها لو صارت بلا قواعد؟
[ad_1]
لا يسلم أي منّا من الشعور بالوجود الضاغط والمرهق للقواعد والأعراف في حياتنا، سواء كانت مكتوبة أو لا، إذ أنها تشكل في مجملها – عمليا – قاعدة لا مناص منها للحياة نفسها. فالقوانين والقواعد الروتينية تسود في جوانب الحياة كافة، من الأماكن العامة والمؤسسات والشركات إلى حفلات العشاء والعلاقات الاجتماعية والغرامية، بل وحتى في المحادثات العرضية غير الرسمية.
وبطبيعة الحال، لا يخلو الأمر من أن نستشيط غضبا، ونرفض أن تشكل هذه القواعد، تحديا لحريتنا، بل ونعتبر أنها “موجودة لكي تُنتهك”.
لكنني أرى بصفتي خبيرا في علم النفس السلوكي، أن المشكلة لا تتمثل في القواعد أو الأعراف أو العادات بشكل عام، وإنما في ما هو غير مبرر منها. وربما يتمثل الأمر المهم والشائك في الوقت نفسه هنا، في التفرقة بين هذه وتلك.
وقد يجدر بنا البدء في السير على هذا الدرب، عبر الشروع في تصور وجود عالم بلا قواعد على الإطلاق. المشكلة أن ذلك سيهددنا بدايةً بالفناء، نظرا لأن أجسادنا تتبع بعض القوانين البيولوجية المعقدة والصارمة للغاية، والتي يؤدي اختفاؤها إلى هلاكنا. حتى الكلمات التي أخطها هنا تخضع لقواعد اللغة. ومع أنه قد يَعِنُ لي في لحظة ما، أن أحلم بالتحرر من هذه القواعد؛ لكن هل سيفيدني ذلك حقا أو يطلق العنان لأفكاري؟
لا يمنع ذلك من الإقرار بحقيقة أن البعض نجحوا في تحقيق قدر من “الفوضى الأدبية”، مثلما فعل الكاتب البريطاني لويس كارول في قصيدته “جابروكي”. لكن بشكل عام، لا يؤدي التحرر من قواعد اللغة، إلى أن يصبح المرء متحررا من القيود، بقدر ما يفضي ذلك إلى أن تصير كتاباته مفككة لا رابط بينها.
وبعيدا عن اللغة والكتابة، تلعب القواعد دورا جوهريا في الرياضات والألعاب والألغاز، حتى وإن كان الغرض من كل هذه الأنشطة لا يعدو التسلية والمتعة لا أكثر. فقد تثور ثائرتك إذا كنت منهمكا في ممارسة لعبة الشطرنج، ووجدت أن قواعدها تمنعك من أن تنقذ الملك من أن يُضيق عليه الخناق. وقد تستشيط غضبا، إذا وجدت بيدق خصمك تحول إلى وزير أو فرس أو فيل، بعدما وصل بنجاح إلى الطرف الأقصى من لوحة اللعب. الأمر لا يختلف في كرة القدم، التي يندر أن تجد بين مشجعيها، من لم يفقد أعصابه في يوم ما، بسبب تطبيق قاعدة التسلل ضد فريقه.
لكن هذا الغضب لا ينفي أن إلغاء القواعد في الشطرنج وكرة القدم، سيحولهما إلى شيء آخر لا يمت لهاتين اللعبتين بصلة. إذ ستصبحان مجرد أنشطة لا شكل لها ولا معنى. فلعبة دون قواعد، ليست بلعبة على الإطلاق.
اللافت أن كثيرا من القواعد والأعراف التي تسود حياتنا اليومية، تؤدي بدقة الدور نفسه الذي تضطلع به نظيراتها التي تحكم الرياضات والألعاب، إذ نعرف من خلالها أي “النقلات” أو “الحركات” مباحة لنا وأيُها لا. ومع أن إرشادات السلوك التي نلزم بها الأطفال لضمان أن يتصرفوا بشكل مقبول اجتماعيا، تبدو مضجرة للغاية بالنسبة لهم وتعسفية أيضا، فهي وغيرها، تشكل في الحقيقة جزءا من منظومة، تجعل تفاعلاتنا الاجتماعية تمضي بسلاسة.
وتندرج في الفئة نفسها؛ قواعد من قبيل قيادة السيارة على الجانب الأيمن أو الأيسر من الطريق، واحترام إشارات المرور، والالتزام بالوقوف في صفوف، وعدم إلقاء المهملات وغيرها. إذ يشكل كل ذلك لبنات بناء مجتمع متجانس.
بطبيعة الحال، طالما تاق البعض إلى الحياة في مجتمع لا يصطبغ بطابع رسمي بهذا القدر؛ مجتمع دون حكومة، أي أن نعيش في عالم تكون فيه للحرية الفردية الأولوية على ما عداها؛ بعبارة أخرى العيش في فوضى.
لكن هذه الفوضى لا تخلو من مشكلة، تتمثل في أنها غير مستقرة بطبيعتها، فالبشر يستحدثون بشكل مستمر – وعلى نحو عفوي – قواعد جديدة تحكم السلوك والتواصل مع الآخرين والتبادل الاقتصادي، وهم يفعلون ذلك بالسرعة ذاتها التي تتلاشى بها القواعد السابقة التي كانت قائمة من قبل.
وإذا عدنا إلى مسألة استخدام القواعد في الرياضة والألعاب، فسنجد أن لعبة مثل كرة القدم، بدأت – ربما – بركل كرة مصنوعة من مثانة خنزير في قرية أوروبية ما، بمشاركة فرق لا يُحدد بدقة عدد المنضوين تحت لواء كل منها، بل ومع إمكانية وقوع أعمال شغب خلال اللعب كذلك، انتهى بها الحال بعد قرون معدودة، لأن تصبح رياضة يحكمها عدد هائل من القواعد، التي تحدد كل تفاصيلها مهما كانت بسيطة. وبلغ الأمر حد إنشاء كيانات دولية لإدارة مثل هذه الرياضات والأنشطة.
وقد لاحظت عالمة الاقتصاد السياسي الأمريكية إلينور أوستروم (التي فازت بجائزة نوبل في الاقتصاد مناصفة عام 2009) نشوء ظاهرة استحداث البشر – بشكل عفوي وتلقائي – قواعد تحكم حياتهم، حينما اضطروا لتولي إدارة موارد ما بشكل جماعي، كأن يشاركون في مزرعة جماعية أو مصايد للأسماك، أو يُلزمون بالاتفاق على كيفية تحديد حصص المياه المخصصة للري، التي سينتفع بها كل منهم.
وقد اكتشفت أوستروم أن الناس في مثل هذه الحالة، يضعون قواعد تحدد – مثلا – عدد الماشية التي يمكن لكل منهم أن يرعاها، وكذلك مكان ووقت حدوث ذلك. وتشمل هذه القواعد أيضا حجم المياه التي سيتسنى لكل مزارع استخدامها في الري، وما الذي يجب على الجميع فعله، حينما تشح الموارد، وماهية الأساليب التي سيتم اتباعها لحل أي خلافات محتملة. ولا يتم وضع قواعد مثل هذه، من جانب سلطات حاكمة، ولا تُفرض من أعلى لأسفل، وإنما تنشأ غالبا ودون طلب أحد، نتيجة للاحتياج لبلورة تفاعلات اجتماعية واقتصادية متوافق عليها بشكل مشترك، من جانب مختلف المنخرطين فيها.
ومع أنه من المبرر السعي لإلغاء القواعد المُجحفة والخانقة، أو تلك التي لا معنى لها على الإطلاق، فإن من شأن عدم وجود بعض القواعد بالتزامن مع غياب قدر ما من الميل للالتزام بها، جعل المجتمع ينحدر نحو حالة من الهرج والمرج. ففي واقع الأمر، قد يرى كثير من علماء الاجتماع، أن نزعتنا إلى وضع القواعد والالتزام بها وفرضها، هي الأساس الجوهري للحياة الاقتصادية والاجتماعية.
من جهة أخرى، تبدو العلاقة القائمة بيننا وبين مثل هذه القواعد، أمرا يتفرد به البشر دون سواهم. وبينما يبلور البشر القواعد ويحافظون عليها، من خلال معاقبة أيٍ ممن ينتهكونها، فإن حيوانات الشمبانزي مثلا – وهي الكائنات الأقرب لنا من الوجهة الجينية – لا تفعل ذلك. فهذه الحيوانات قد تتصرف بشكل انتقامي، إذا سطا أحد على طعامها هي، لكنها – وهو أمر جوهري للغاية – لا تعاقب على مسألة سرقة الطعام بشكل عام، حتى إذا كان الحيوان الذي تعرض لذلك، يمت بصلة قرابة وثيقة لها.
أما بين البشر، فتترسخ القواعد في مرحلة مبكرة من حياة كل منهم. وقد أظهرت الدراسات والتجارب أن بوسعنا تعليم الأطفال بحلول سن الثالثة، قواعد تعسفية محضة، يمارسون بواسطتها لعبة ما. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد تبين أن إدخال أحد القائمين على التجربة دمية إلى المكان، وجعلها تشرع في انتهاك القواعد، يدفع الأطفال إلى انتقاد الدمية، والقول إن “ما تفعله خطأ”، بل ومحاولة تعليمها كيف يمكن أن تتصرف على نحو أفضل.
وترتبط نزعتنا لاستحداث القواعد والالتزام بها وفرضها، بتركيبنا الجيني على ما يبدو، رغم أننا نتبنى رأيا مغايرا لذلك تماما. ففي حقيقة الأمر، تلعب قدرتنا كنوع إحيائي، على فهم القواعد والتمسك بها وفرضها، دورا جوهريا في بقائنا نحن البشر. فلو كان كل منّا مضطرا لشرح كل قاعدة حياتية نلتزم بها من ألفها إلى يائها، كانت أدمغتنا ستُشل من فرط الحركة والتفكير. بدلا من ذلك، بمقدورنا تعلم المنظومات المعقدة المتعلقة بالأعراف الاجتماعية واللغوية، دون طرح أسئلة أكثر من اللازم. فنحن ببساطة قادرون على استيعاب الطريقة، التي نقوم بها بأمر ما، في هذا السياق الاجتماعي أو ذاك، والسير على دربها.
لكن علينا توخي الحذر في هذا الصدد، إذ أن الطغيان يكمن في طيات ذلك أيضا. فلدى البشر شعور قوي بالرغبة في فرض أنماط من السلوك، تتسم في بعض الأحيان بطابع قمعي، بغض النظر عن وجود مبرر لتلك الأنماط من عدمه. ومن بين أمثلة هذه القواعد السلوكية، إلزام الآخرين بالوقوف عند عزف النشيد الوطني، أو بخلع القبعات لدى دخول الكنيسة.
ويتمثل أحد المخاطر المترتبة على مسألة الالتزام بالقواعد وفرضها، في أنه يمكن لكل قاعدة منها أن تكتسب زخمها الخاص. فقد يصبح الناس متحمسين للغاية، لتطبيق قواعد ملبس ما أو ضوابط تغذية ذات طابع تعسفي، مما قد يؤدي بهم، إلى فرض أشد العقوبات الممكنة، بهدف الحفاظ على تلك القواعد.
وفي أغلب الأحيان، يحدد الساسة أصحاب التوجهات الإيديولوجية والمتعصبون دينيا طبيعة “العقاب” المستحق في مثل هذه الحالات، وهو ما تفعله كذلك أنظمة الحكم القمعية، والمديرون المتنمرون بمرؤوسيهم وغيرهم. ففي نظر هؤلاء؛ يجب أن يمتثل المرء للقواعد، فقط لأنها قواعد.
ليس هذا فحسب، بل إن انتقاد القواعد أو الفشل في فرضها (كأن يحجم المرء عن أن يلفت انتباه شخص ما، إلى أنه يرتدي زيا غير لائق) يصبح بدوره انتهاكا، يستوجب العقاب.
كما يوجد ما يمكن تسميته “زحف القواعد خِفية”، وهو ما يعني أن تلك القواعد تتزايد ويتسع نطاقها باستمرار، ما يقلص حريتنا بالتبعية. من هنا، قد يبدو لنا – مثلا – أن القيود المفروضة على الأنظمة المتبعة لضمان السلامة، والإجراءات المتخذة لتقييم المخاطر، تتراكم بلا نهاية، وقد تصل إلى مدى أبعد كثيرا مما كان في نيتنا في بادئ الأمر.
فقد تكون القيود المفروضة على تجديد المباني الأثرية صارمة، إلى حد يجعل من المستحيل إجراء أي عمليات تجديد من الأساس، ما يقود إلى أن تنهار تلك الأبنية في نهاية المطاف. كما أن عملية التقييم البيئي لبعض أنواع الأراضي، ربما تتسم بتشدد مبالغ فيه، على نحو يحول تقريبا دون زراعة أشجار فيها. ويعني ذلك أن الطريق إلى الجحيم، ليس مفروشا بالنوايا الحسنة فحسب، وإنما تحفه قواعد تفرض تفعيل هذه النوايا وتطبيقها، مهما كانت العواقب.
ومن هذا المنطلق، يواجه الأفراد والمجتمعات معركة لا تنتهي بشأن هذه القواعد. وينبغي علينا هنا التحلي بالحذر حيال الغرض الذي ترمي إليه كل قاعدة منها. فبينما قد يؤدي اتباع بعضها – مثل التزام الجانب الأيمن خلال الوقوف على السلم الكهربائي المتحرك – إلى الإسراع بوصول الناس إلى أعمالهم، فإن هناك منها، ما لا يعود بأي نفع واضح، على أي منّا، خاصة إذا تحدثنا عن قواعد تنطوي على تمييز أو عقاب أو إدانة.
ومن هنا تعتمد القواعد وتطبيقها – مثلها مثل السياسة الرشيدة – على رضانا وموافقتنا. أما تلك التي لا تحظى بقبولنا، فقد تتحول إلى أدوات للطغيان والاستبداد. لذلك، ربما تكمن أفضل نصيحة يمكن أن يتبعها المرء في هذا الصدد، في أن يمتثل للقواعد بوجه عام، دون أن يكف عن التساؤل عن أسباب وضعها وفرضها.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future
[ad_2]
Source link