أخبار عربية

هل هذا هو أول عمل فني يصور “الإله الأب”؟


هل هذا هو أول عمل فني يصور "الإله الأب"؟

مصدر الصورة
Saint Bavo’s Cathedral Ghent

Image caption

شعر الكثيرون بالصدمة للمنظر الغريب الذي بدا عليه “الحمل الغامض”، عندما كُشِف النقاب عن جانب من لوحة “مذبح كاتدرائية غنت” بعد عمليات ترميم استمرت عدة سنوات

غالبا ما كان الرسامون الأوروبيون القدامى يصوّرون الحيوانات المجلوبة إلى داخل القارة، على نحو نعلم الآن أنه لا يطابق الواقع بأي شكل من الأشكال. فلم يكن بوسع الغالبية العظمى منهم، مشاهدة هذه المخلوقات رؤي العين، بل كانوا يعتمدون عادة على وصف مكتوب لها، مصحوب برسم توضيحي مبهم الملامح، ربما يكون هو نفسه أبعد ما يكون عن الصحة.

ومن بين هؤلاء الرسام الألماني آلبرخت دورر، الذي صوّر حيوان الكركدن (وحيد القرن) عام 1515، في لوحة ظهر فيها جلده السميك أشبه بسترة مدرعة، وذلك رغم أن دورر نفسه تميز في أعمال أخرى، إلى حد جعل سمعته تطبق الآفاق.

لكن بالنسبة لحيوان مثل الحَمَل – كان يمكن للأوروبيين في العصور الوسطى رؤية قطعان كبيرة العدد منه تمرح في حقولهم – لم يكن الأمر يتسم بالغموض نفسه، خاصة لفنان امتاز بقدرته على ملاحظة التفاصيل الدقيقة على نحو فاق كل من سبقوه، مثل الرسام الفلامنكي يان فان إيك، الذي عاش في القرن الخامس عشر.

لذلك جاء الكشف عن جانب من تحفة فان إيك – التي تحمل اسم “لوحة مذبح كاتدرائية غنت” أو “تقديس الحمل الغامض” – بعد سنوات من عمليات الترميم المكثفة، صادما للكثيرين.

فقد تداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي صورا لـ “الحمل المقدس” المرسوم في اللوحة، قبل الترميم وبعده، ما دفع الكثيرين للقول إن هذا الحيوان بات يبدو غريب المنظر بشدة على نحو مزعج، وأنه يجدر بنا إعادته إلى ما كان عليه قبل عملية الترميم الأخيرة، التي جرت للوحة المؤلفة من جزئين داخلي وخارجي، ويضم كل جزء منها عددا من اللوحات الصغيرة.

على أي حال، ربما كان لمن سكنوا مدينة غنت في القرن السادس عشر تصورات مشابهة في هذا الشأن كذلك، وهو ما أدى حينذاك لتغيير مظهر الحَمَل – الذي تراه مرسوما في اللوح الأوسط من المستوى السفلى في الجزء الداخلي للعمل – ليصبح أقرب إلى الحِملان، منه إلى ما كان يبدو عليه في النسخة الأصلية، التي كانت تُظهره ذا طابع “بشري قليلا”.

ومن بين هذه التغييرات، إعادة الرسم على اللوحة، لوضع أذنيْ هذا الحيوان، في نقطة أعلى قليلا في رأسه، بدلا من مكانهما الأصلي، الذي اختار فان إيك أن يكون في موضع الأذنيْن في الرأس البشري. كما أجريت تعديلات مماثلة على عينيْ الحمل، لتوضعا على جانبيْ رأسه، ما أكسبه بالتبعية مظهرا يجعله أكثر شبها بالأغنام كما نراها في الطبيعة، وأضفى عليه أيضا طابعا سلبيا بشكل أكبر.

وشملت التعديلات كذلك إعادة رسم الفم ومنخاريّ الأنف، ما جعل خطوطها أقل تحديدا، مما كانت عليه في التصميم الأصلي الذي خطته ريشة فان إيك.

مصدر الصورة
Saint Bavo’s Cathedral Ghent

Image caption

بدا الحمل – بعد ترميم اللوحة ذا مظهر “بشري” على نحو غريب، بعينيْه المحدقتين وملامح العبوس ذات السمت الهزلي الظاهرة عليه

ولا يزال هذا العمل الفني، الذي وضع فان إيك اللمسات الأخيرة عليه عام 1432، بانتظار مرحلة ترميم ثالثة، من المقرر بدؤها في عام 2021، وستركز على اللوحات الواقعة في المستوى العلوي من جزئه الداخلي.

ويقدم ذلك العمل ما يبدو رؤية مذهلة للإله ذي المجد (الذي لم يُحدد بعد ما إذا كان مقصودا به الإله الأب أم يسوع المسيح) وحَمَل الرب كذلك “الذي يسيل دمه المقدس في أيام الأعياد” وذلك في إشارة للمسيح. ويمكن رؤية الجزء الخارجي لهذه التحفة الفنية، عندما يُغلق بمفصلاته على نظيره الداخلي.

وتصوّر لوحات الجزء الخارجي، البالغ عددها 12 وتبدو ألوانها باهتة مقارنة بالثراء اللوني الذي تكتسي به رسوم نظيرتها الداخلية، ما يُعرف مسيحياً بـ “البشارة”. وبوسع الناظر لهذه اللوحات أن يجد في أقصى الطرف الأيسر منها، رسما للملاك جبريل، ومقابله تماما على طرف الجانب الأيمن، رُسِمَت العذراء مريم.

وقد ظهر الاثنان وقد اكتسيا برداءين فاخرين، وبين رسميْهما لوحتان أخريان، تُظهر إحداهما رسما لصورة للحياة في غنت عبر نافذتيْن مشيدتيْن على الطراز القوطي، أما الأخرى، فتصوِّر صينية وإبريقا ومنشفة، وهي كلها رموز للحياة الطاهرة النقية للسيدة العذراء.

وفي المستوى السفلى من هذا الجزء، توجد أربع لوحات متجاورة، رُسِمَ في قلبها تماما تمثالان ليوحنا المعمدان ويوحنا الإنجيلي، أما الصورتان الواقعتان على أقصى اليسار واليمين، فخصِصَتا على الترتيب لرسمين لـ “جوديكوس فايد”، وهو التاجر الذي كلف فان إيك بإنجاز العمل، وقرينته ليسبيث. وقد ظهر الاثنان بدورهما وهما يرتديان ثيابا غنية بالألوان، في تناقض صارخ مع ما بدا من عزوف الرسام عن استخدام ألوان متعددة في باقي لوحات الجزء الخارجي من عمله.

مصدر الصورة
Saint Bavo’s Cathedral Ghent

Image caption

يظهر رسمان للتاجر جوديكوس وقرينته ليسبيث على الجزء الخارجي من العمل وهما يكتسيان برداءين ثرييْن بالألوان

وستشكل لوحات الجزء الخارجي المُرممة حديثا، والتي فُصِلَت مؤقتا عن باقي العمل، محور الاهتمام في معرض يركز على العبقرية الفنية لـ “فان إيك”، من المقرر أن يفتح أبوابه لاحقا خلال هذا الشهر في متحف الفنون الجميلة بمدينة غنت.

وسيضم المعرض كذلك نصف الأعمال، التي لا تزال متبقية لهذا الفنان الفلمنكي، والبالغ عددها نحو 20 عملا. فضلا عن ذلك، ستُعرض في هذا المحفل الفني أيضا لوحات لفنانين معاصرين، لـ “فان إيك” من الجزء الشمالي من القارة الأوروبية، وكذلك لرسامين لاحقين تفاعلوا مع لوحة “المذبح” هذه.

وفي وقت لاحق من العام الجاري، ستُنقل هذه اللوحة المُرّكبة إلى مركز جديد للزوار، أُعِدَ خصيصا لكي تُعرض فيه، في كاتدرائية بافو في غنت، وسط احتفالات يتوقع أن تُنظم بمناسبة ترميم هذا العمل الفني المهم.

لكن إبداء التبجيل لفان إيك – على أي حال – لم يتأخر إلى ما بعد وفاته. فحتى خلال حياته كان ذلك الرجل يحظى بتقدير بالغ، نظرا للتجديد المذهل الذي أضفاه على فن الرسم، إلى حد أن بوسعنا النظر إلى لوحة “المذبح” ذاتها، باعتبارها عملا قدم فان إيك من خلاله مجموعة من العناصر الفنية، التي لم تكن – حتى لحظة الانتهاء من اللوحة – قد ظهرت من قبل في عالم فن الرسم الغربي.

ففي القرن السادس عشر، أي بعد قرن كامل من وفاة هذا الفنان، اعتبره الرسام والمؤلف جورجيو فاساري مبتكر الرسم بالزيت، ليدشن بذلك أسطورة ظلت قائمة حتى القرن التاسع عشر. كلمات فاساري كُتِبَت بالمناسبة، بالتزامن مع انهماك عدد من الفنانين في “تحسين” اللوحة الشهيرة لـ “فان إيك”، عبر إعادة رسم بعض تفاصيلها.

ورغم أن ما قاله جورجيو فاساري ليس صحيحا على إطلاق، فبمقدورنا اعتبار هذا الرسام الفلمنكي “أبو الرسم الزيتي”. فقد تميز عن كل سابقيه، على صعيد ما استطاع إنجازه باستخدام هذا الوسيط، ومن خلال توخيه أقصى درجات الدقة في أعماله، واتباعه تصميمات ثلاثية الأبعاد فيها كذلك، بجانب قدرته على التصوير الدقيق للضوء والظل. فعلى سبيل المثال، أجرى فان إيك – بلا كلل – تجارب على الرسم الزيتي، وغيّر التركيبة الكيمياوية للزيت الذي يستخدمه فيه، سعيا لجعل لوحاته تجف على نحو أسرع.

مصدر الصورة
Saint Bavo’s Cathedral Ghent

Image caption

حظي فان إيك بتقدير كبير خلال حياته بسبب لمسات التجديد التي أضفاها على فن الرسم

وفي الفترة السابقة لبدء فان إيك مسيرته الفنية، كان الفنانون الذين يحاولون رسم أسطح ذهبية يستخدمون عادة صفائح ذهبية لتجسيد ذلك، وهي الصفائح التي كانت تبدو مُسطحّة على أرضية اللوحة. لكن فان إيك صوّر الذهب – وبعض الأشياء المعدنية الأخرى – باستخدام الأصباغ، ونجح في إظهار هذه الأسطح تحديدا وكأنها تشع نورا.

وهكذا، ففي الفترة التي سبقت ظهور الفنان الشهير ليوناردو دا فينشي، كان يمكن أن يُوصف فان إيك بأنه “سيد الضوء”، وقد كان معروفا – على أي حال – بأنه درس علم البصريات.

وفي الفترة السابقة لعملية الترميم التي تتواصل حاليا للوحة “المذبح” على يد خبراء في المعهد الملكي للتراث الثقافي في بلجيكا، مُحيت تفاصيل 70 في المئة من هذا العمل المركب، من خلال إعادة الرسم عليها وطلائها بالأصباغ.

وبمرور الوقت، أصبحت الطبقات الأكثر قدما من الطلاء مُصفرة، لتغطي تفاصيل العمل الرائع الذي أبدعه فان إيك. بجانب ذلك، تلاشت الخطوط التي تعطي طابعا ثلاثي الأبعاد لموضوعات اللوحة وتفاصيلها، في المناطق التي تم إعادة الرسم عليها.

كما طمس الطلاء الكثير من التفاصيل المعقدة في اللوحة، مثل العروق الرخامية الموجودة في بعض المنحوتات الموجودة فيها، وغالبية التفاصيل المعمارية الخاصة بخلفيتها. الآن وبعد إنجاز جانب من عمليات الترميم، نجحنا في اكتشاف رسم كان مخفيا تماما، يُصوّر خيوطا للعنكبوت على الجدار الواقع خلف رأس ليسبيث في اللوحة التي ظهرت فيها، وهو ما يكشف عن الاهتمام المذهل بالتفاصيل من جانب فان إيك.

أما ما كان لافتا للغاية – ولم يُطمس أبدا لحسن الحظ – فهو ما حرص عليه الفنان، من أن يجعل لكل وجه من وجوه الملائكة المُنشدين المرسومين على إحدى لوحات الجزء الداخلي من عمله، تعبيرات ومشاعر خاصة به، وذلك في تناقض كامل مع المدرسة الفنية المُبالغة في المثالية، التي سادت في العصور الوسطى، وكانت تجعل كل الرؤوس في اللوحات تبدو متشابهة.

فضلا عن ذلك، فقد أدى التزام الرجل بالواقعية في تصويره لشخصيتيْ آدم وحواء بالحجم الطبيعي، إلى بث روح جديدة من نوعها، في عالم رسم الشخصيات الدينية. إذ كانت هاتان الشخصيتان نابضتين بالحياة، إلى حد يجعلك تشعر أنهما بصدد الخروج من إطاريْ لوحتيهما.

بجانب ذلك، شكّل هذا العمل – على الأرجح – المرة الأولى التي تُصوّر فيها شخصيات عارية، في لوحة ستوضع على مذبح كنيسة. كما بلغ حرص فان إيك على الالتزام بالمدرسة الواقعية في الفن وتغليبها على المذهب المثالي فيه، حد أن عمله هذا كان الأول الذي يُصوّر شخصيات عارية، يظهر شعر العانة لكل منها.

لذلك، فقد كان فان إيك يدرك عندما رسم “الحَمَل المقدس”، وهو رمز – كما قلنا – ليسوع المسيح، أنه لا يريد أن يصوّر حَمَلا عاديا. إذ كان يعلم أن عليه تقديم رسم يأسر عين الناظر بوجوده الاستثنائي. ولم يكن ذلك بالعسير على رسام كان يوصف بأنه سيد المزاوجة بين العالم المادي ونظيره الروحي المقدس.

وبدا ذلك من خلال تصويره للمكان، الذي يرعى فيه الحمل في اللوحة بتفاصيل دقيقة، جعلت علماء النباتات قادرين على التعرف على الغالبية العظمى من أنواع النباتات والزهور، التي ظهرت في المشهد. وهنا أيضا ملمح أخر للريادة، إذ كانت هذه هي المرة الأولى، التي يظهر فيها مشهد لتضاريس طبيعية مثل هذه، في لوحة رسمها فنان من دول شمال أوروبا، أو هو على الأقل، أول عمل معروف لنا من هذا النوع.

مصدر الصورة
Saint Bavo’s Cathedral Ghent

Image caption

يختلف مؤرخو الفن بشأن ما إذا كان فان إيك قد أراد تصوير الإله الأب أم الإله الابن في لوحته

وستركز المرحلة المقبلة من عملية الترميم، على اللوحات الواقعة في المستوى العلوي من الجزء الداخلي من اللوحة، وهي تلك التي نرى فيها – فوق هذا الحمل الغامض مباشرة – رسما لـ “الإله المهيب العظيم”، على شاكلة تحاكي أسلوب رسم الأيقونات الروسية من جهة، وتشبه كذلك تصوير أباطرة ذوي مظهر بشري، يتمتعون بقدرات كُليّة في الوقت نفسه من جهة أخرى.

لكن هذا الرسم تحديدا، لا يزال يثير سؤالا لم يجد له إجابة حتى الآن بين مؤرخي الفن، حول ما إذا كان يجسد الإله الأب أو يسوع المسيح، في وقت يوجد فيه من يقول إن الرسام الفلمنكي تعمد أن يكون غامضا في هذه النقطة تحديدا.

وقد اختار فان إيك أن يضع لوحته لـ “الإله الأب أو الإله الابن” فوق “الحمل المقدس” مباشرة، في ما بدا تراتبية هرمية طبيعية. في كل الأحوال، يُشكّل ذلك العمل، أحد النماذج المبكرة لرسم الإله على الصورة التي وصفه بها “العهد الجديد”.

كما أنه بالقطع من بواكير الأعمال التي يُصوّر فيها الإله ضمن لوحة توضع على المذبح، في ضوء أن هذا النوع من اللوحات كان حديثا نسبيا، لأن السائد في الفترة التي نفذ فان إيك عمله فيها، أن يكون العمل الفني الموضوع في هذا المكان، عبارة عن منحوتة لا لوحة.

وإذا اتضح أن الرسام الفلمنكي الشهير، صوّر في لوحته “الإله الابن”، فإن ذلك سيجعلنا قادرين على القول بكل يقين، إن هذا العمل هو الأول الذي يُظهر يسوع المسيح نفسه، على هذه الصورة من القوة والتألق.

هنا يمكننا الاستعانة برأي تيل هولغر-بورشيرت، مدير متاحف مدينة بروج البلجيكية، وهو كذلك عضو في اللجنة العلمية الخاصة بمعرض أعمال فان إيك، وقد درس لوحاته لفترة طويلة للغاية. ففي تصريحات لـ “بي بي سي”، وصف بورشيرت ذلك الفنان بـ “سيد التناقضات”. ويقول: “إذا كنت تبحث عن أمور يقينية، فلن يكون فان إيك بُغيتك، فهو فنان يتيح الفرصة لأن تُفسر أعماله بعدد لا نهائي من التفسيرات”.

ويمضي بورشيرت متسائلا: “ما الذي يمكن أن يكون أكثر تعقيدا إذا بالنسبة للعقل البشري من الثالوث المقدس في اللاهوت الكاثوليكي؟ وفان إيك يشير إلى هذا التعقيد عبر لوحته” هذه.

في نهاية المطاف، قد لا يستطيع أحد أن يتكهن بما الذي يمكن أن تكشفه لنا عملية ترميم هذا العمل الفني البارز عند اكتمالها، لكن حقيقة واحدة تبدو مؤكدة، وهي أن تلك اللوحة غير المسبوقة في تعقيدها، ستظل تفاجئنا لسنوات أخرى قادمة.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى