إطلاق “قرية لا تشغل بالك” في كوريا الجنوبية لمساعدة الشباب في مواجهة صعوبات الحياة
[ad_1]
لم تكن تجربة كيم ري-أوه في العمل كمصورة صحفية بإحدى مجلات العاصمة الكورية الجنوبية سول مرضية بالنسبة لها، فقد أوصلها الضغط النفسي الذي تعرضت له، بسبب أنها أصغر العاملين في المكان، إلى مرحلة لا تحتمل.
كانت القاعدة السائدة في مكان العمل هناك تتمثل في العمل خلال عطلات نهاية الأسبوع وكذلك لنوبات عمل إضافية تمتد حتى ما بعد الساعة الحادية عشرة مساء.
وبعد نحو عامين من العمل في المجلة، اكتشفت كيم أنها تحصل على راتب أقل كثيرا مما يناله زميل لها، أحدث منها عهدا بالمكان.
وتلخص الفتاة ما آلت إليه هذه التجربة بالقول: “لم أعد أتذكر ما الذي كان يُشعرني بالسعادة والبهجة. كنت أفكر في الموت في غالبية الأحيان. فبحلول ذلك الوقت، كنت قد قمت بكل ما طُلِبَ مني، أنهيت تعليمي الثانوي ثم الجامعي بنجاح، ووجدت عملا مستقرا وافقت عليه أسرتي. لكن ما الذي كان يعنيه هذا بالنسبة لي؟ فبرغم أنها حياتي، إلا أنني لم أجد نفسي فيها”.
ليست هذه الحالة مقتصرة على كيم، البالغة من العمر 26 عاما، وحدها. فالشبان الكوريون الجنوبيون، الذي يعاني كثيرون منهم من مشاعر خيبة أمل مماثلة، يقاومون حاليا الأفكار التقليدية، المتعلقة بسبل تحقيق النجاح في المجال المهني وكيفية تحمل المسؤوليات الاجتماعية.
ولحسن حظ هؤلاء، تنشأ في بلادهم حاليا – على نحو متسارع ومفاجئ – مشروعات وشركات، تعزز قدرتهم على التحلل من هذه الأفكار.
ويقع أحد هذه المشروعات في مدينة موكبو بجنوب غربي كوريا الجنوبية، ويحمل اسم “قرية لا تشغل بالك”، وتعمل فيه كيم. وأُقيم هذا المشروع عام 2018، بدعم حكومي استهدف وقتذاك تطوير المباني غير المُستخدمة في تلك المدينة. ويُدار في الوقت الحاضر من جانب مجموعة من الشبان في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، ويحمل شعار “لا بأس في أن تستريح، ولا ضير في أن تفشل”.
ويتألف المشروع من مبان متناثرة في زوايا موكبو، كانت في وقت ما خاوية على عروشها، قبل أن يُعاد تحويلها على يد عدد من الشبان ذوي الروح الابتكارية، إلى مطاعم ومقاهٍ ومعارض للأعمال الفنية واستوديوهات لإنتاج الوثائقيات.
وتسمح تلك “القرية” للشبان الكوريين الجنوبيين المنهكين من جهود البحث عن عمل، بأن يقضوا فيها عدة أسابيع، يناقشوا خلالها بصراحة ودون خجل إخفاقاتهم السابقة، ويمارسون كذلك تجربة إنشاء مشروعاتهم الخاصة.
ويشعر البعض من هؤلاء بأن هذا المشروع يمثل فرصته الثانية في الحياة للبدء من جديد. ويسترشد جدول الأعمال الموضوع لمرتادي “القرية” بالأهداف الشخصية لكل منهم، لكنه يسعى في الوقت نفسه إلى أن يستعيد المرء شعوره بالمجتمع الذي يعيش فيه، وأن يعتاد تناول الطعام مع الآخرين بشكل جماعي، وأن يخصص وقتا لنيل قسط من الراحة.
وقد نشأ المشروع على يد بارك مايونغ-هو (33 عاما) وهونغ دونغ-وو (34 عاما). ويقول بارك إن مشروعهما “يطمح إلى تجسيد مفهوم ثقافي في كوريا الجنوبية يُعرف باسم `سواكينغ` يحتفي بلحظات السعادة القصيرة ولكن المؤكدة التي يمر بها الإنسان”.
ويضيف: “يبحث الجيل الشاب من الكوريين الجنوبيين عن تجسيد هذا المفهوم، بدلا من الهوس بتحقيق إنجازات كبرى”. ويضرب بارك مثالا على لحظات السعادة الصغيرة هذه بالقول إنها قد تتمثل في الاستمتاع بتناول “شريحة من كعكة الجبن أو تأليف أغنية أو كتاب. أي أن تقوم بشيء ربما يكون صغيرا في حد ذاته، لكنه ملكك أنت بالكامل” في الوقت ذاته.
وتشهد كوريا الجنوبية منذ سنوات “مفارقة سكانية”، فمتوسط أعمار سكانها يزيد بسرعة، في تناقض صارخ مع تدني معدلات الخصوبة في أراضيها، ليصبح الأقل من نوعه في العالم، وهو ما يتواكب مع انخفاض عدد الزيجات في الوقت نفسه.
ويخفي البريق الذي تكتسي به صناعتا موسيقى البوب والتجميل في كوريا الجنوبية، واللتان صار لهما ملايين العشاق المتحمسين في مختلف أنحاء العالم، حقيقة أكثر قتامة في مجتمعها، تتمثل في معدلات البطالة المرتفعة بسرعة الصاروخ بين الشبان، وأن ساعات العمل في هذا البلد ربما تكون الأكثر عددا بين الدول المتقدمة.
ويعتبر مواليد الألفية في كوريا الجنوبية أنفسهم جزءا مما يُعرف بـ “جيل سامبو”، وهو مصطلح جديد يُترجم إلى “جيل التضحيات الثلاثة”. ويعني هذا المصطلح أنه يتعين على الشبان الكوريين الجنوبيين، التضحية بإقامة علاقات اجتماعية أو غرامية وبالزواج وإنجاب الأطفال كذلك، من أجل تحقيق النجاح في الحياة، وذلك في ظل اقتصاد يشهد منافسة ضارية.
لكن المشكلة أن قائمة التضحيات، لم تقتصر على هذه الأمور فحسب، بل سرعان ما شملت عددا أكبر بكثير منها، بما في ذلك الاستمتاع بالحياة الاجتماعية، والنجاح في امتلاك منزل خاص.
وتقول كيم ري-أوه إن الشبان الذين يرون أنفسهم جزءا من هذا الجيل، تساورهم الشكوك دائما “ويتطلعون للعثور على وسيلة تُمكِنّهم من الشعور بالرضا بعيدا عن المقاييس التقليدية للنجاح”.
ويقول وون دوك-هوان، الذي شارك في تأليف كتاب عن التوجهات التي سادت في كوريا الجنوبية خلال عام 2019، إن “ثقافة التجمع والمشاركة” تشكل قيمة محورية في هذا البلد، وتتجسد عبر تجمعات، من قبيل ذاك الذي يلم شمل أبناء الصف الدراسي الواحد سنويا، على سبيل المثال. ويوضح هنا بالقول: “تعزز مثل هذه التجمعات ثقافة استبدادية، تُؤْثِر أعداد متزايدة من الشبان الكوريين الجنوبيين عدم الانخراط فيها من الآن فصاعدا، فهم يدركون أنه بات من الممكن أن تكون لديهم حياة اجتماعية، لا ترتبط بدوائر أخرى (مثل العمل والزواج وغيرهما). أي حياة لا يُمليها نص كُتِبَ مسبقا”.
وتمثل مشروعات مثل “قرية لا تشغل بالك”، وغيرها من تلك التي يُطلق عليها اسم “صالونات”، جزءا من عدد متزايد من الفضاءات، التي تعزز هذا التوجه الجديد لدى شبان كوريا الجنوبية.
في عام 2018، افتتحت غو جي-هيون أولى هذه “الصالونات” في كوريا الجنوبية، بعدما أُعْجِبَت بأحد مشاهد الفيلم الناجح “ميدنايت إن باريس” (منتصف الليل في باريس). ويشبه مدخل ذلك الصالون – الذي يحمل اسم “شي يايا وان” – مداخل الفنادق عتيقة الطراز، إذ اسْتُخْدِمَ في أرضياته وجدرانه، خشب أشجار الماهوغني، الذي يبعث مرآه ولونه على الشعور بالدفء.
ويسعى هذا الصالون لمحاكاة ما كان سائدا في الصالونات الأدبية الباريسية، التي ظهرت في القرن الثامن عشر، ومثلت فضاءات ذات طابع حميم؛ يجتمع فيها الناس لتبادل الأفكار، بشأن موضوعات فكرية وثقافية.
وتقول مؤسسة الصالون: “تفتقر كوريا إلى ثقافة الحديث والنقاش بين الناس وبعضهم البعض، خشية منهم من أن يكون ذلك بمثابة تطفل أو اقتحام للخصوصية، خاصة إذا جرى ذلك مع غرباء”. وتضيف بالقول: “عندما افتتحت هذا الصالون، كان أكثر سؤال طرحه عليّ الزوار، هو `كيف أتحدث مع شخص غريب عني؟`”.
وفي إطار هذا الصالون، يتم طرح موضوعات نقاش جديدة كل ثلاثة شهور، ويجري الحديث بشأن هذه الموضوعات من خلال تجمعات ذات أجواء حميمة، مثل ما يُعرف بـ “الندوات السقراطية”، نسبة للفيلسوف الشهير سقراط، وجلسات القراءة الليلية، وجلسات مشاهدة الأفلام السينمائية وغيرها. وتصف غو صالونها بأنه “منصة للتفكير الاجتماعي، يتبادل من خلاله الأعضاء الأفكار بحرية”.
ولا يُطلب من أعضاء الصالون تسجيل أعمارهم في استمارات تسجيل العضوية فيه، بل يُشجعون – في واقع الأمر – بألا يفعلوا ذلك، وهو أمر غير معتاد في كوريا الجنوبية، التي تُعرف عمليات التوظيف التي تُجرى فيها، بأنها تتضمن أسئلة تتطفل بوقاحة ربما، على التفاصيل الشخصية لحياة المتقدمين لشغل هذه الوظيفة أو تلك.
وخلال الجلسات التي تُعقد في إطار هذا الصالون، ينادي المشاركون بعضهم بعضا، بأسماء مستعارة لطيفة دون الكشف عن أسمائهم الحقيقية أو وظائفهم. وتقول غو إن المشاركين يتراوحون بين طلاب جامعيين غريبي الأطوار وأشخاص في الخمسينيات من عمرهم.
وتستطرد بالقول: “عادة ما يحدد المجتمع الكوري لك، كيف يتوجب عليك التصرف والتفاعل مع الآخرين بناء على هذه التصنيفات (العمرية والوظيفية). لكن بدلا من هذه التصنيفات، نقدم أنفسنا لبعضنا البعض من خلال طريقة تفكيرنا، ومن النادر أن يكون بوسعك أن تلتقي الناس بهذه الطريقة في كوريا الجنوبية”.
وتنشد أماكن مثل هذه، إضفاء طابع ديمقراطي على العلاقات الاجتماعية في كوريا الجنوبية، وهي البلد الذي ترتبط فيه غالبية الآليات – التي تحكم التفاعل داخل مجموعاته المختلفة – بقواعد صارمة، تحدد التوقيت الذي يتعين فيه على شبانه، تحقيق أهداف حياتية بعينها.
لكن رغم أن عدد تلك المشروعات تزايد خلال العام الماضي في كوريا الجنوبية، فإن الاستفادة منها ليست متاحة للكثير من الشبان هناك، خاصة من ينتمون منهم إلى أُسَرِ ذات مستوى اجتماعي واقتصادي منخفض، وهي مفارقة في ضوء أن أولئك تحديدا، قد يكونون في أمس الحاجة لمثل هذه الأفكار المبتكرة.
وفي هذا السياق، تقول كيم ري-أوه إن من “يفتقرون للاستقرار المالي، ومن يعيشون خارج سول” يعانون من مشكلة عدم القدرة على الاستفادة من تلك المشروعات، نظرا لأن دفع رسوم العضوية السنوية لهذه الصالونات – مثلا – يصعب على من يدبرون إيجارات الأماكن التي يعيشون فيها بصعوبة، كما أن الحياة خارج العاصمة، تعني أن حضور المرء لتلك التجمعات، يلزمه بتحمل تكاليف رحلة ذهاب وعودة إلى سول، على متن قطار سريع، ما يعني دفع نحو مئة دولار أمريكي.
فالعضوية السنوية في صالون “شي يايا وان”، تكلف – على سبيل المثال – 1033 دولارا أمريكيا للفرد، بينما يدفع الراغب في العيش لفترة في “قرية لا تشغل بالك”، ما يصل إلى 430 دولارا، برغم أن الإقامة فيها، كانت مجانية في بادئ الأمر.
وبطبيعة الحال، لن تكون مسألة أخذ قسط من الراحة أو التوقف عن العمل لفترة، دون وجود أي مصدر للدخل، أمرا واردا ربما، لأشخاص يعانون من انخفاض مستواهم الاقتصادي، خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة بين شباب كوريا الجنوبية.
بالتزامن مع ذلك، وصل عدد المصابين بالاكتئاب بين هؤلاء الشبان إلى أعلى مستوياته على الإطلاق. وتشير الإحصائيات في كوريا الجنوبية إلى أن عدد من شُخِصَت إصابتهم بهذا المرض، بين من هم في العشرينيات من عمرهم، تضاعف تقريبا خلال السنوات الخمس الماضية.
ويعتبر الطبيب النفسي ها جي-هيون، وهو كذلك أستاذ في المركز الطبي التابع لجامعة كونكوك في سول، أن من يشعرون بالوحدة، قد يجدون ملاذا لهم، في تجمعات من قبيل تلك الموجودة في أروقة الصالونات. ويوضح أن الإصابة بالاكتئاب تُخلّف “تأثيرا ذا طابع مختلف، على الشبان من أصحاب الدخل المنخفض مقارنة بسواهم، فهي تتطلب – مثلا – إنفاق أموال للتنقل من مكان لآخر، ولتناول الطعام، أو لدخول السينما، وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن التواصل مع الآخرين اجتماعيا، أصبح مرتبطا بطبيعته بالمال، ويمكن أن يمثل عبئا على البعض أكثر منه متعة” بوسعهم أن ينعموا بها.
وفي ظل استخدام قرابة 82 في المئة من شبان كوريا الجنوبية لوسائل التواصل الاجتماعي، بدأ عدد متزايد من مواليد جيل الألفية – ممن ينتمون لأُسَر ذات دخل منخفض – في جعل التفاعلات الرقمية مع الآخرين، بديلا لتلك التي تجري في الحياة الواقعية.
ويقول الطبيب “ها” في هذا الشأن: “يدرك هؤلاء في مرحلة معينة، أنهم غير مضطرين لتكريس المال أو الطاقة، لخلق صداقات أو للتواصل اجتماعيا. لكن هناك حدودا للرضا الذي يشعرون به بفعل التواصل مع الآخرين على شبكة الإنترنت. لذا ينتهي المطاف بالكثيرين منهم، للشعور بالاكتئاب الشديد، بعدما يظلون لفترة طويلة، في حالة عزلة مادية حقيقية”.
ويضيف الرجل بالقول إن هذا الشعور بالوحدة ينبع من الرغبة في الالتقاء بالناس والتفاعل معهم بشكل فعلي. ومن ثم، بمقدور من لديهم المال أو الطاقة والحيوية اللازمة لارتياد أماكن مثل الصالونات أو “قرية لا تشغل بالك”، محاربة هذا الإحساس بالوحدة، بخلاف من يفتقرون للموارد اللازمة للقيام بذلك، ممن قد يعانون بشكل أكبر، من الاكتئاب والعزلة الاجتماعية.
وهكذا يواصل مواليد جيل الألفية في كوريا الجنوبية، تغيير قواعد اللعبة بالنسبة لعلاقاتهم مع الآخرين، وعلى صعيد الآليات التي تحكم الأوضاع في بيئات عملهم وفضاءات تفاعلهم الاجتماعي. وبينما يتعين على المجتمع الإقرار بأن التفاوت على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي والتباين بين المناطق المختلفة قائمان بعمق في البلاد، فإن هناك تحولا لا يمكن إنكاره، طرأ على الطرق التي يدافع من خلالها الشبان الكوريون الجنوبيون، عن أنفسهم وحقوقهم.
في كل الأحوال، صار الشبان الكوريون الجنوبيون، يدركون الآن أن المعاناة لم تعد شرطا مسبقا لتحقيق النجاح، وأن بإمكانهم أن يمسكوا بأيديهم زمام الأمور في حياتهم، بدلا من أن يضطروا ببساطة، لتحمل المصاعب والمكاره.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Worklife
[ad_2]
Source link