فيلم “الباباوان”: تانغو في أروقة الفاتيكان
[ad_1]
يشبه تنحّي بابا الفاتيكان وانتخاب بديل عنه قبل وفاته حدثاً فلكيّاً نادراً، لا يشهده العالم إلا مرّة كلّ مئات السنين.
يوثّق فيلم “الباباوان”(2019) للمخرج البرازيلي، فرناندو ميريليس، كسوفاً في الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة، حين تنحّى البابا السابق بنديكتوس السادس عشر في فبراير عام 2013، وانتُخب البابا فرنسيس خلفاً له.
لماذا يتراجع عدد القساوسة بصورة مثيرة للقلق في أيرلندا؟
مؤسس كنيسة كاثوليكية متشددة “تحرش بستين طفلا”
كانت استقالة بنديكتوس الأولى من نوعها في الكرسي الرسولي منذ عام 1415، عندما تنحّى غريغوريوس الثاني عشر إثر ما عرف بالانشقاق الغربي الكبير، والنزاع على منصب الحَبْر الأعظم بين بابا روما والباباوات في مدينة أفينيون (جنوب فرنسا).
تنحّى بنديكتوس تحت وطأة فضائح فساد مالي وابتزاز طالت مسؤولين رفيعين في الإكليروس، عرفت بالـ”فاتيكان ليكس” (2012)، وتزامنت مع شبهات بتستّر روما على جرائم تحرّش كهنة كاثوليك بقاصرين لسنوات، يضاف إلى ذلك، تقدّم البابا في السنّ، وعجزه عن أداء مهامه كراعٍ لحوالي 1.2 مليار كاثوليكي في العالم.
ينطلق الفيلم الذي أنتجته وتعرضه “نتفليكس” حالياً من أحداث حقيقيّة، لكنه يتخيّل لقاء لم يحدث بالفعل، بين بنديكتوس قبل تقاعده الاختياري، والكاردينال الأرجنتيني المشاكس خورخي بيرغوليو الذي سيصبح البابا فرنسيس الأول.
انتخاب بيرغوليو كان بدوره حدثاً “فلكياً” في روما، فهو أوّل بابا من خارج أوروبا منذ عام 731 بعد البابا السوري غريغوريوس الثالث؛ والأهمّ أنّه أوّل بابا من أميركا اللاتينية، القارّة التي تحتضن أكثر من 48 بالمئة من الكاثوليك في العالم (ما يقارب 520 مليون نسمة).
المحافظ في وجه الثائر
ينطلق الفيلم من قصّة راهنة، لكنّه لا يهتمّ بالتوثيق أو اتخاذ موقف واضح من فضائح الفاتيكان. ينشغل العمل بمقاربة فنيّة للواقع، من خلال تصوير حوار لاهوتي بين تيارين في الكنيسة. يرسم كاتب العمل النيوزيلندي أنطوني مكارتن، الخطّ الفاصل بين غروب مرحلة وشروق أخرى، مستعيناً بالفكاهة والثقافة الشعبيّة والفلسفة.
السيناريو مأخوذ عن مسرحيّة لمكارتن بعنوان “البابا”، استلهمها الكاتب من تجربة فرنسيس وحياته وإرثه الفكريّ، وصعوده إلى رأس الكنيسة، وآرائه المثيرة للجدل، وشعبيته المتنامية. وقد عرف مكارتن كواحد من أنجح كتاب السيرة خلال السنوات الأخيرة، بعد كتابته أفلاماً حظيت بانتشار جماهيري مثل “بوهيميان رابسودي” (2018) عن حياة المغني البريطاني الراحل فريدي ميركوري، و”الساعة الحالكة” (2017) عن سيرة ونستون تشرتشل.
يتفادى الفيلم البحث المعمّق في دهاليز الفساد، موجهاً السرد نحو شذرات من سيرة فرنسيس وشبابه، من دون التركيز على ماضي سَلفِه كثيراً. تبنى الدراما على نقاشٍ محتدم بين وجه الكنيسة التقليدي المحافظ المتصلّب متمثلاً بالبابا بنديكتوس (أنطوني هوبكنز)، ووجهها التقدّمي الثائر والمرن متمثلاً بالبابا فرنسيس (جوناثان برايس).
لكلّ من اسمه نصيب
يستدعي البابا بنديكتوس الكاردينال بيرغوليو إلى مقرّه الصيفي في كاستل غاندولفو (جنوب شرق روما)، ليبلغه رفضه طلب تقاعده. لم يحصل ذلك اللقاء في الواقع، بل يتخيّل الكاتب مجرياته من خلال جمعه لأحاديث وخطابات وكتابات لاهوتيّة للرجلين، تبيّن مقاربتيهما المختلفتين لما يجب أن تكون عليه صورة الكنيسة.
يُعلي بنديكتوس من أهميّة عقيدة الإيمان، والحفاظ على الهويّة المسيحية الأوروبيّة، معتبراً التغيير تنازلاً عن القيم والمبادىء. من جهته، يرى فرنسيس أنّ الكنيسة لم تعد تخاطب إنسان القرن الحادي والعشرين، مركزاً أكثر على قيم العطاء، والبساطة، والحوار، وعدم التشدّد في قضايا مثل سيامة كهنة متزوّجين.
يمكن الاستدلال على ذلك الاختلاف من خلال المقارنة بين اسمي الباباوين، إذ اختار بنديكتوس اسمه، نسبةً إلى القديس بنديكتوس النيرسي (480-547)، شفيع أوروبا، ومؤسس الرهبنة البندكتية (الثوب الأسود)، أقدم رهبة في القارة العجوز، والذي يُعتمد كتابه حول الحكمة الرهبانية كنموذج لتنظيم الأديرة الأوروبية.
أمّا فرنسيس، فهو أوّل بابا في التاريخ يختار هذا الاسم، نسبةً إلى القديس فرنسيس الأسيزي (1181-1226)، مؤسس رهبنة الفرنسيسكان (الثوب البنّي)، الذي اعتمد منهج الفقر، والتخلي عن الثروات والممتلكات، وشكّلت دعوته ثورة في الكنيسة حينها.
كلاسيك وبوب
لا يقدّم الفيلم مطالعة لاهوتيّة، ولا مراجعة تاريخية لأخطاء الفاتيكان، بل يحاول أنسنة الشخصيتين، من خلال الترميز. بنديكتوس، واسمه الأصلي جوزيف راتزنغر، يشرب الفانتا مع كلّ وجبة، رغم أنّه يطلب إعداد أطباق والدته التقليديّة الألمانيّة على مائدة العشاء. لا نعرف عن طفولته شيئاً باستثناء أنّه كان انطوائياً يحبّ القراءة. ومن شبابه، نفهم بالهمس أنّ سمعته لم تتحرّر بالكامل من شبهات مناصرته للشبيبة النازية.
على المقلب الآخر، لا يركب فرنسيس السيارات الفاخرة، ولا الطائرات الخاصّة، لا يرتدي الأحذية الحمراء، ولا الصلبان المذهّبة، وحين يجوع، يشتري البيتزا من كشك في الشارع.
بنديكتوس عازف متمكّن لموسيقى موزارت الكلاسيكية على البيانو، وفرنسيس راقص تانغو محترف، يدخل علينا في الفيلم مدندناً أغنية Dancing Queen لفريق ABBA. بنديكتوس يفضّل العزلة وقلّة الكلام، وفرنسيس مشجّع لنادي سان لورينزو الأرجنتيني في كرة القدم، وفي بداية الفيلم، يطلّ علينا واعظاً المصلّين في ساحة كنيسة قيد الإعمار.
رغم الاختلافات بينهما، يصوّر الفيلم صداقةً تنشأ بين رجلي الدين، وكيف يأخذهما الحوار الشيّق الذي نتتبعه على مدى ساعتين، إلى اكتشاف مكامن تقاربهما.
حرب الأحذية
بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005، انتخب الكاردينال الألماني راتزنغر على الكرسي الرسولي، وكان الأرجنتيني بيرغوليو أقرب منافسيه في تصويت مجمع الكرادلة. بعد سنوات، حين يقرّر بيرغوليو التقاعد كغيره من الكرادلة الذين يبلغون سنّ الخامسة والسبعين، يشعر بنديكتوس في الفيلم بالإهانة، لأنّه يرى في انسحاب منافسه من مهامه الرعويّة، نقداً مباشراً لسياساته.
بالنسبة للبابا الألماني، حتى “حذاء” الكاردينال اللاتيني كان انتقاداً لاذعاً لنهج للفاتيكان حينها، إذ كان بنديكتوس معروفاً بأناقته، وحبه للاكسسوارات الثمينة، والأحذية الجلدية الحمراء، في حين ما زال الإعلام يحكي عن أحذية فرنسيس البالية، حتى بعد انتخابه.
صحيح أنّ اللقاء والمودّة الناشئة عنه في الفيلم من نسج الخيال، لكنه محاولة للبحث في احتمالات الصداقة المستحيلة بين رجلين نقيضين، وإن جمعتها عقيدة واحدة. ومن خلال العلاقة الإنسانية التي ينسجها بين الشخصيتين الرئيسيتين، يناقش الفيلم ببساطة وطرافة إحدى أعقد المسائل في الإيمان المسيحي، وهي قضية الخطيئة والغفران. أمام الكاميرا، يتبادل الكاهنان الكبيران سرّ الاعتراف، ويعرّي كلّ منهما ماضيه أمام الآخر.
محاولة في المغفرة
نعود بالزمن إلى شباب بيرغوليو، فيتخيّل الكاتب قصّة حبّ عاشها مع شابة اسمها أماليا (في تضخيم دراميّ لرسالة انتشرت بعد انتخابه، بعثها فرنسيس حين كان في الثانية عشرة من عمره لصديقته، ولم تتطوّر حدّ الخطوبة كما يظهر في الفيلم). كذلك، نتتبع صلته بالديكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين خلال الحرب القذرة (1975-1983)، وأدّت إلى خطف واختفاء أكثر من 30 ألف مواطن.
دور بيرغوليو في تلك المرحلة الفاصلة من تاريخ الأرجنتين، لا يزال محطّ خلاف في بلاده، بين من يراه متآمراً مع السلطات العسكرية في حينه، وبين من يرى أنّه قام بالممكن لتجنيب الكهنة والرهبان مآسي الحرب، حين كان لا يزال رئيساً إقليماً للرهبنة اليسوعية لي بلاده.
لا يقّدم الفيلم إجابات دقيقة وفاصلة حول تاريخ بيرغوليو، ويبقى في حدود النقاش العام حول فضائح التحرّش الجنسي، وإن أظهر لوم الكاردينال الأرجنتيني الواضح والحازم للبابا على تعيين كاهنٍ مدان في رعايا جديدة على امتداد سنوات. موقف قد يبدو وردياً ومتساهلاً، لكنه كما يبرّر المخرج، فرناندو ميريليس، في لقاءات صحافية، فإنّ التحقيق بالفساد والتحرّش لم يكن موضوع فيلمه. كما أخذ بعض المتابعين لسيرة البابا بنديكتوس على الفيلم تصويره بشكل محافظ أكثر ممّا هو في الواقع، إذ له كتابات في اللاهوت تدحض هذه الصورة عنه.
كرة قدم وتانغو
بعيداً عن السيرة، يتأمّل كاتب العمل، أنتوني مكارتن، بمفهوم المغفرة، في مقاربة عاطفيّة لشخصيّتي رجلين على قدر عالٍ من السطوة والنفوذ، فيظهرهما في هشاشتهما، وضياعهما البشريّ، وعجزهما عن تقديم الإجابات، أو رؤية الطريق بوضوح أكثر من الآخرين، وإن كانا قائدين لجماعة دينية، ويحذو حذوهما الملايين.
تعيد تجربة فيلم “الباباوان” إلى الذاكرة محاولات فنيّة مشابهة خلال السنوات القليلة الماضية، لسبر غور شخصيّة بابا روما من منظار جديد، كما في مسلسل “البابا الشاب” (2016) من بطولة جود لو وإخراج باولو سورنتينو، وفيلم “لدينا بابا” (2011) من بطولة ميشال بيكولي وإخراج ناني موريتي.
في أحد أكثر المشاهد طرافةً، يتخيّل فيلم نتفليكس الباباوين وهما يشاهدان نهائي كأس العالم 2014 بين منتخبي ألمانيا والأرجنتين، ويشجع كلّ منهما منتخب بلاده، في اللعبة التي تجمع الأضداد، وتتيح للخصوم خوض صراع ودّي في ملعب واحد.
في مشهد آخر، يحاول الكاردينال بيرغوليو تعليم البابا بنديكتوس رقص التانغو، ويستعرض الممثلان الرئيسيان أنطوني هوبكنز وجوناثان برايس مقدراتهما التمثيلية العالية. يضحكان، يتعثران، ويشتبكان، ثمّ يتودعان وفي كلّ منهما أثرٌ من الآخر. يبدو التانغو، كالحديث الممتع الذي تابعناه بين الرجلين، دعوة للسير معاً على إيقاع واحد، وإن كانت حركة الجسد أقرب إلى العراك.
[ad_2]
Source link