أخبار عاجلةالتاريخ النفسيمقالات

فتنة الشمرت و الزقرت

مقال للدكتور مرزوق العنزي

فتنة الشمرت و الزقرت

بلدة النجف في العراق كانت ولا زالت محط أنظار الحاضرة والبادية، العرب والعجم، السنة والشيعة، فتاريخها يعود إلى العصر الجاهلي عندما كانت مركزا للأديرة المسيحية، ثم أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية في عهد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، مما جعل لها مكانة في القلوب، كما كانت لها مكانة في عقول الساسة، احتضنت عدة اجتماعات بهدف الإصلاح بين المسلمين، ازدهرت على اختلاف ألسن أهلها، وارتقت باختلاف ثقافاتهم، تحتضن أكبر مقبرة بالعالم، عاش فيها الجميع بسلام، كثرت بها المنتديات الأدبية مثل معركة الخميس والمعركة الطاعونية والندوة البلاغية وغيرها من المجالس التي تعقد في البيوت والمساجد والمدارس، فأنتجت كثير من دواوين الشعر العربي الفصيح.

استقر حكم بلدة النجف للدولة العثمانية عدة قرون غير أن الدولة الصفوية كان لها نصيب لرغبتها في التوسع على حساب الأراضي العثمانية، فتناوبت الدولتان حكم البلدة، فاختلفت أوضاعها بين هذا العهد وذاك! وفي نهاية الصراع استقر الحكم العثماني، فانهزم الجار، وبقي أتباعهم يطلبون العلم الشرعي ليبدأ الاختلاف الفكري، ويحتدم بين رعايا الدولتين، فيطفو على ساحة النجف الهادئة، لتشتعل شرارة المواجهة لا محالة، ولكن أعداء الدولتين لم يكتفوا بذلك! بل حرضوا بالسر فيما بين المتخاصمين فاقتتلوا، حيث قتل الصفويون الإقطاعي السيد محمود الرحباوي غدرا في قصره الأثري الكائن خارج أسوار البلدة الذي شيده في عام (1777م) حيث تم قتله تحت ادعاء تعاطفه مع عبد العزيز بن سعود في غزو النجف! وحبسه لبعض الأسرى من أهل النجف، وعدم قبول وساطة الوجهاء لفك أسرهم مدعيا أنهم أمانة أودعهم إياه ابن سعود! فأوجس وجهاء البلدة خيفة من تحيز المغدور لابن سعود، وتأكد ذلك الشك لديهم باستقبال الرحباوي لابن سعود في قصره وإكرامه والتعاون معه على إخماد أحداث الشغب التي اندلعت ضد ابن أخته حاكم النجف الذي يجتمع بنسب واحد مع ابن سعود.

ونتج عن ذلك إحساس ورثة المغدور به بالظلم مما دفعهم للمطالبة بالثأر بدعم مطلق من الحاكم، فتكاملت جهود الأسرتين في البحث عن القاتل، فاختفى المجرم الغادر، وتنكر معاونوه لتلك الفعلة الشنيعة، مما اضطر حاكم النجف لسجن مجموعة من المشكوك بأمرهم وحبسهم في سرداب لفترة ثم قتلهم استجابة لنصيحة أحد المستشارين الذي أكد له أهمية فرض هيبة الحكم بهذا القرار الجريء، كما قام بتضييق الخناق على المشتبه بهم مما اضطرهم الخوف من بطشه للهرب إلى المدن المجاورة، فانتصر لهم أصحابهم، واشتعلت الفتنة الطائفية، وانتشرت الفوضى، وكثرت المصادمات في الأسواق والساحات، وانحرفت الأمور عن سابق عهدها، فبلغت بهم مداهمة الأبيات الآمنة، ونهب ما فيها ثم حرقها، وهنا سعى حاكم النجف إلى تهدئة الأوضاع لاستتباب الأمن، ولكن قوة الخلاف بين السلطة في النجف وبين بقايا الصفوية كانت أكبر، فاجتهدت المعارضة بتشكيل حزب أسموه الزقرت بحجة الدفاع عن أنفسهم من غزو ابن سعود المدعوم من سلطة النجف، فتدرب الزقرت على حمل السلاح، ونظموا أنفسهم عسكريا، وأصبحوا قوة مؤثرة لا يستهان بها على الساحة المحلية، مما دفع الموالين للسلطة من أهل النجف بتشكيل حزب مضاد لحزب الزقرت أسموه حزب الشمرت لموازنة القوى في البلدة وحماية الأنفس والإمارة والأملاك من طغيان الحزب المعادي له، وأيضا لحاجة الحاكم إلى قوة شعبية مساندة لجيش النجف النظامي،  فاضطرت أحداث الشغب والي بغداد إلى توجيه حملة عسكرية كبيرة بقيادة سليم باشا هدفها تأديب جماعتي الزقرت و الشمرت دون تفريق، علما بأن القوات العثمانية مستقرة في بغداد وتحركها يستغرق وقتا طويلا، في ظل انشغالها بالدفاع عن النفس في جبهات كثيرة، مما تسبب ذلك بإضعافها وبدء مرحلة السقوط، فبدأ الحزبان بالصراع وسرقة أبيات بعضهم البعض وقتلهم لمن يخالفهم الرأي، وازداد الأمر سوءا، فحزب الشمرت قوي جدا في ظل حاكم النجف العثماني، وحزب الزقرت ضعيفا في ظل انهزام الصفويون وهروبهم من النجف، وكانت المصادمات بينهم شديدة لدرجة وصلت بهم إلى إغلاق الأسواق وتوقف حركة البلدة مع كل مواجهة حزبية مسلحة، وبالتالي تعطلت المصالح، واستمرت الصراعات الفكرية والجسدية في ظل ضعف وغياب الدولة العثمانية التي لم تمهلها الأقدار للانتصار لأتباعها، فقد تعاونت عليها دول الاستعمار، وساندتهم عليها بعض الأحزاب المغرر بسدنتها، يريدون إسقاطها، وتقاسم تركتها، وقد ضعفت الدولة بشكل تدريجي، فاستغل حزب الزقرت تضعضعها وانشغالها في مواجهة الأعداء، فاستفحل دورهم السياسي والعسكري والاجتماعي في البلدة، وبدأ سدنة الحزب بتحريك الدافع العاطفي في قلوب الأتباع معتمدين على الترسبات القديمة التي استكبروها في صدورهم، فنادوا بالحرب المصيرية ضد الأعداء، فكانت أشبه ما تكون بحرب الاستنزاف التي راح ضحيتها خلق كثير، فأخذوا بثأرهم، وحل الدمار في النجف الآمنة، وتم إجلاء أسرة الملاليإلى خارج النجف، فتأخرت تنمية البلدة عقود كثيرة بعد أن كانت متقدمة على غيرها من المدن العربية، واستمرت فتنة الشمرت والزقرت إلى ما بعد سقوط الدولة العثمانية، وإن كان الحزبان قد اتفقا في ثورتهما ضد الإنجليز بما يعرف بثورة العشرين غير أن أسباب الخلاف ما زالت قائمة، وإن كانت نيرانها خامدة، فالنيران تستعر تحت الرماد، فهل من متعظ؟

الدكتور مرزوق العنزي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى