هل السفر يطيل العمر؟ – BBC News Arabic
[ad_1]
كنت أقود سيارتي عبر الطريق المائل وسط وديان سييرا ميدرا شمال شرقي المكسيك، في تلك الوديان الفسيحة والجدباء قليلة السكان التي تكثر فيها أشجار اليوكا الشائكة. وأوقفت سيارتي على جانب الطريق لأشاهد هذه الأشجار عن كثب، وكتبت في مفكرتي: “لسبب ما، أشعر في هذه الطرق الخالية، أنني عدت شابا”.
وفي هذه اللحظة رأيت غصنا رفيعا تحت شجرة اليوكا، ثم شاهدته يتحرك ببطء واكتشفت أنه ثعبان، وأخذ يقبض جسمه ويتلوى وكأنه ينذر بهجوم وشيك. لكنني علمت لاحقا أنه ثعبان غير سام، يطلق عليه ثعبان السوط، ولحسن الحظ أنه ليس الأفعى ذات الجرس التي تظهر على شعار العلم المكسيكي.
ويعيش في المكسيك 26 نوعا من الأفاعي، منها الثعبان الملك والثعابين العمياء وأفاعي الجرذان وأفاعي الحفر، وأفاعي الحدائق التي لا تتعدى حجم الدودة وأفعى البواء العاصرة التي يصل طولها إلى عشرة أقدام.
وقد يشعرك الانطلاق في الطرق المفتوحة في حد ذاته بسعادة غامرة. وكتب جاك كيرواك في كتابه “على الطريق” عند دخول المكسيك: “وجدنا أخيرا أرض الأحلام في نهاية الطريق، وقد فاق سحرها كل توقعاتنا”.
لكني بعدها تأملت جذوع أشجار اليوكا الشائخة المنحنية وأوراقها الشبيهة بالسيوف، إذ يقول أحد علماء الأعشاب إن هذه الأوراق تظل منتصبة وثابتة في البداية وتنحني تدريجيا كلما تقدم بها الزمن. وتبدو كل شجرة كحربة منتفخة تمتد جذورها وسط الرمال، وتنحني عندما تشيخ.
وقد ذكرتني هذه الأشجار بكبار السن في الولايات المتحدة، وأنا منهم، فعندما يشيخ المرء يصبح مهملا وينفر الناس منه ويتعالون عليه ويتحاشونه، ويستخفون به ويسخرون منه ويعتبرونه مملا وعالة على المجتمع ويصبح وجوده وعدمه سواء في نظر الشباب، ويتعرض للتعميم والتنميط، شأنه كشأن شجر اليوكا وكشأن المكسيكيين.
في الوقت الذي كنت أشعر فيه بخيبة الأمل، شعرت أنني حققت انتصارا على المجتمع بالخروج في رحلة طويلة، وقررت أن أختفي دون أن أخبر أحدا مع أنني واثق أن أحدا لن يلاحظ اختفائي.
وقررت أن أتبنى نظرة المكسيكيين لكبار السن، إذ يرى معظم المكسيكيين أن الشيوخ حكماء وليسوا ضعفاء ولا قيمة لهم، ورأيت أنني رجل مسن يستحق التبجيل الذي يمنحه المكسيكيون لأولئك الأكبر سنا.
ويترك الشباب المكسيكي، بحكم التقاليد، مقاعدهم لكبار السن، ويقول المثل المكسيكي إن الشيطان حكيم لأنه عجوز، وليس لأنه الشيطان. في حين أن المثل الأمريكي يقول: “تنح جانبا أيها العجوز، وافسح الطريق للشباب”.
وأردت أن أتحدى المشككين بيدي الهزيلتين وعيني البراقتين، وأقول لهم: “لقد زرت مكانا لم يزره أحد منكم ولن يتمكن أبدا من زيارته، وهو الماضي.”
وقد زرت أفريقيا الوسطى منذ 55 عاما، وحينها راقت لي فكرة الغربة، وابتعادي عن موطني وتعلم لغة جديدة. وكنت أدرس لطلاب حفاة وسط الأشجار، ومكثت في أفريقيا ست سنوات، بعدها انتقلت إلى سنغافورة، حيث عملت مدرسا. وبعد ثلاث سنوات، تنازلت عن جميع الوظائف التي كنت أتقاضى عنها راتبا شهريا، واستقر بي المقام في بريطانيا منذ 17 عاما.
ودفعني الشغف والحاجة إلى كسب المال، إلى السفر من بلد لآخر. وتعتريني الدهشة الآن كلما تذكرت الرحلات الخطيرة التي خضتها في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر. إذ زرت سيبريا في الشتاء، وسافرت إلى بتاغونيا بالسيارة واستقليت جميع القطارات في الصين وسافرت إلى إقليم التبت بالسيارة.
وخضت أمواج المحيط الأطلنطي بمفردي على قارب صغير، وقذفت بي الرياح إلى جزيرة إيستر، وسافرت من القاهرة إلى كيب تاون في عام 2001، وتوقفت في جوهانسبرغ للاحتفال بعيد ميلادي الستين، حيث سرقت حقيبتي بكل محتوياتها، وأطلقت علي عصابة الشيفتا الإثيوبية النار بالقرب من مقاطعة مرسابيت في كينيا.
وبعد عشر سنوات، احتفلت بعيد ميلادي السبعين في صحراء كالاهاري، وواجهت رجالا غلاظا في شمالي أنغولا. وحولت هذه الرحلات، أو 10 منها، إلى كتب.
وعندما شعرت أني سئمت من الأسفار الطويلة، تذكرت مقولة الأديب ألبير كامو: “اكتب قصة شخص معاصر لك استطاع أن يمحو همومه بإدامة النظر إلى الطبيعة”، وبعدها ركبت سيارتي وسافرت إلى جنوب الولايات المتحدة في رحلة استغرقت سنتين، وكنت أرمي إلى اختتامها بتأليف كتاب عنها. ولم أكد أضع قدمي في السيارة حتى شعرت أن شبابي يتجدد.
وخلال السنتين اللتين أمضيتهما في الجنوب، عبرت الحدود المكسيكية للمرة الأولى من مدينة نوغاليس، ومنذ هذه اللحظة تغيرت نظرتي للعالم. فما إن اجتزت بوابة وسط سور حديدي طوله 30 قدم، حتى صرت في دولة أجنبية، وتسللت إلى أنفي روائح أطعمة الشارع، ووصل إلى مسامعي صوت عزف الغيتار، وصياح الباعة الجائلين.
والتقيت حينذاك بعض المهاجرين المكسيكيين، كان بعضهم ينوي المرور خلسة عبر الحدود، بينما رحلّت السلطات آخرين من الولايات المتحدة. لكن التعرف على المخاطر التي واجهها المهاجرون والاستماع للآراء التي تعكس جهل الأمريكيين، بدءا من المسؤولين في أعلى المناصب ووصولا إلى مرتادي الحانات وكارهي الأجانب، شجعني على زيارة المكسيك.
ووجدت أن المسكيك بلد شاسع ومعقد ومتنوع جغرافيا وثقافيا إلى حد أنه يستعصي على الوصف والحصر، ويكفي أن هناك 68 لغة و350 لهجة معترف بها في المكسيك.
وكما يتضح من جميع الكتب عن المكسيك، فقد استقر المهاجرون الأوروبيون في المكسيك وأصبحوا مواطنين مكسيكيين، في حين أن الأمريكيين لم يتمكنوا من الاندماج مع المجتمع المكسيكي بل ظلوا في نظرهم أجانب.
ولو نظرنا مثلا إلى عادة إلقاء النكات وتبادل السخرية التي يطلق عليها علماء الإنسانيات “علاقات المزاح”، سنجد أن المكسيكيين يسمحون للأجانب بتبادل السخرية والإهانات لإبراز الاختلافات الثقافية، باستخدام روح الدعابة لتفادي الصدامات. ويصف رادكليف براون هذا النوع من العلاقة بأنها: “تنشأ بين شخصين يناكف أحدهما الآخر ويسخر منه، بينما يُتوقع من الطرف الآخر ألا يشعر بالإهانة”.
ويستخدم المكسيكيون كلمة أجنبي بحسن نية، ولا يقصدون بها إهانة الآخر، وتوجد الآن مجتمعات كاملة من الأجانب في جميع أنحاء المكسيك، منهم المتقاعدون ومنهم الفارون من مواطنهم دون نية للعودة إليها. ويقف كرم ضيافة المكسيكيين وحسن معاملتهم للأجانب على طرف النقيض من تعامل الأمريكيين الفظ مع المكسيكيين ودأبهم على شيطنتهم وإقصائهم بسور وازدرائهم والارتياب فيهم ومنعهم من دخول الولايات المتحدة.
وكان هذا التناقض أحد الأسباب التي قادتني لهذه الرحلة، على أمل التعرف على هذا البلد الأجنبي الذي يقع وراء السور في نهاية الطريق. كما دفعني لها شعوري بالقلق من أن تنال مني الشيخوخة فأتوقف عن القيادة والكتابة، وكنت أعرف أن هذه الرحلة بالسيارة سترفع معنوياتي وتحررني من هذا النقد الذاتي الذي لا طائل منه.
وكنت أنوي أن أقود السيارة من أدنى المكسيك إلى أقصاها، وانطلق بالسيارة حتى نهاية الطريق. لكن هذه الرحلة الترفيهية إلى المكسيك تحولت إلى رحلة جادة، أثارت مشاعر الحزن والخوف ولفتت نظري إلى الكثير من القضايا الخطيرة.
لكن بمجرد ما جلست خلف المقود حتى شعرت أن الرياح تعانقني وتذكرني بأن أفضل ميزة للسفر هي أنه يحررك من جميع القيود.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel
[ad_2]
Source link