أخبار عربية

قصة الكاتبة البريطانية الشهيرة التي صدمت مجتمعها بـ “فضائحها” المتعددة


جورج إليوت

مصدر الصورة
Getty Images

مهما كانت الطريقة التي ستتخيل بها الكاتبة، ماري آن إيفانز، التي عُرِفَت باسم “جورج إليوت”، فربما لن تراها على الأرجح في هيئة امرأة تجلس مستغرقة في القراءة، وينسدل شعرها الطويل على كتفيها، بينما تتأرجح قدماها على المقعد.

فكل اللوحات القليلة المتبقية التي تصوّر هذه الكاتبة، تحصرها في حقبة بعيدة كل البعد عن عصرنا هذا، وتضفي عليها طابعا جذابا غير مادي، ينسجم مع صورة حافلة بالتبجيل لها، انتشرت على نطاق واسع بعد وفاتها عام 1880.

وقد ذهب البعض إلى حد وصف إليوت بأنها “ملاكٌ حكيم”، مما حجب لوقت طويل جوانب أكثر دنيوية من شخصيتها وتجربتها. ويعود هذا الوصف – بشكل كبير – إلى السيرة الذاتية الثرية التي كتبها لها جون كروس، الذي كان مستشارها المالي، قبل أن يصبح زوجها.

أما الحقيقة فربما تختلف عن هذه الصورة، فبالنسبة للكاتب المعاصر لها، ويليام هايل وايت، الذي شاركها السكن في نفس المنزل لبعض الوقت، كانت جورج إليوت “أحد أكثر الكائنات الحية المتشككة وغير المألوفة” التي التقى بها في حياته، واصفا إياها بالكاتبة “المتمردة”.

وفي الذكرى السنوية المئتين لمولد هذه الكاتبة، تعدُّ انطباعات وايت عنها بمثابة تذكير بأن ما شهدته حياتها من تحديات ومسرات وفضائح، تحظى بأهمية لا تقل عن أهمية ما تضمنته أعمالها الأدبية. فمن خلال مؤلفاتها، صوّرت لنا هذه السيدة شخصيات نسائية لا تُنسى، جسدت لنا عبر معاناتها، مشاعر الحب والطموح، وأظهرت كذلك أهمية مقاومة التقاليد والقناعات الموروثة.

أما مجريات حياتها، فقد قدمت لنا دروسا بشأن إمكانية أن يجرؤ المرء على التشبث بلحظات السعادة مهما كانت التكلفة، وأن يبقى متسقا مع ذاته، وأن يؤمن أيضا بأنه لا ضير من المحاولة في أي وقت من الأوقات.

مصدر الصورة
Getty Images

Image caption

عوضت إليوت توقفها عن الدراسة، وهي في السادسة عشرة من عمرها، بتعليم نفسها بنفسها من خلال الاستفادة من مكتبة الضيعة التي كان يديرها والدها

وُلِدَت جورج إليوت باسم ماري آن إيفانز، في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1819، وكانت الابنة الصغرى لابنة صاحب طاحونة، وأب يعمل مسؤولاً عن إدارة ضيعة في مقاطعة ووركشاير البريطانية.

وفي الخامسة من عمرها، أُرْسِلَت إلى مدرسة داخلية. وبعد وفاة والدتها، تركت جورج إليوت مقاعد الدراسة، وأصبحت مسؤولة عن إدارة شؤون المنزل، الذي كان يعيش فيه والدها، وهي لا تزال في السادسة عشرة من العمر. وبعد خمس سنوات، انتقل الأب مع ابنته للعيش في مدينة كوفنتري.

ورغم أن والدها كان يرى، وقتذاك، أنها بحاجة للزواج، فقد قررت هي العيش في منزل الفيلسوف والكاتب تشارلز براي وزوجته كارا، وهو المنزل الذي كان معقلا للآراء الراديكالية، وضمت قائمة ضيوفه شخصيات مثل الأديب والشاعر والفيلسوف الأمريكي، رالف والدو إمرسون.

وبفضل علاقات الصداقة التي جمعتها بمن يترددون على هذا المنزل، والدعم الذي كانت تحظى به منهم، بدأت الفتاة الشابة حينذاك السير على درب يختلف تمام الاختلاف، عن ذاك الذي رُبيت وعُلِمَت لكي تمضي عليه. وفي زمن سبق بعقود السماح للنساء بتلقي تعليم عالٍ، شكلت الترجمة مدخل ماري لعالم المثقفين والمفكرين؛ إذ بدأت تترجم كتبا ذات طابع ليبرالي في علم اللاهوت، وتكتب عروضا للكتب بقلمها أيضا.

وفي عام 1850، وبحلول الوقت الذي كانت توقع فيه أعمالها باسم “ماريان” إيفانز، انتقلت ماري للحياة في لندن، وأقامت في منزل الناشر، جون تشابمان. لكن ذلك سبب بعض التعقيدات؛ فقد نشأت مغازلات وربما ما هو أكثر بينها وبين تشابمان، الذي كان منخرطاً في علاقة جنسية ثلاثية، تجمعه مع زوجته ومربية أطفاله كذلك.

وبعد هذه العلاقة المحكوم عليها بالفشل، أقامت إليوت علاقة مماثلة مع الفيلسوف وعالم الاجتماع، هربرت سبنسر، الذي كان متبحرا في العديد من الجوانب العلمية والثقافية، وبيعت من أعماله مجتمعة نحو مليون نسخة.

وبفعل قضائهما أوقاتا طويلة معا دون ممارسة للجنس؛ خشي سبنسر من أن تكون إليوت قد وقعت في حبه. ورغم أن هذا الاعتقاد ربما ينم عن غرورٍ ما، كان يتصف به هذا الرجل، فقد كان ذلك هو ما حدث بالفعل في حقيقة الأمر. ومع أنها كانت تدرك أنه لن يبادلها المشاعر نفسها، فقد تقدمت بعرض للزواج منه، آملةً في أن يشكل التقارب الفكري بينهما، مبررا كافيا لكي يقبل الارتباط بها. ولم يقلل الرفض الذي قوبلت به، من تصميمها على الحفاظ على علاقة الصداقة القائمة بينهما.

وفي نهاية المطاف، وقعت إليوت في حب كاتب آخر، وهو جورج هنري لويس، الذي كان معروفا بلباقته وأناقة ملبسه، ودمامة ملامحه كذلك.

وقد كان عالقا في زيجة مع امرأة، كانت – منذ أمد طويل – حبيبةً لرجل آخر، بل وأنجبت منه أطفالا كذلك. ورغم ذلك كله، فقد كان قرار إليوت الإقامة معه رغم أنه لا يزال متزوجا، هو ما صدم المجتمع وأثار اشمئزاز كثيرين. وبلغت الوصمة الأخلاقية التي أصابتها لهذا السبب حداً جعلها تحجم عن الالتقاء بصديقاتها، خشيةَ أن يؤدي أي لقاء من هذا النوع إلى تشويه سمعتهن كذلك.

مصدر الصورة
Alamy

Image caption

كان رفض إليوت ولويس الإبقاء على علاقتهما سرا أمرا غير مألوف في العصر الفيكتوري، رغم أن الخيانات الزوجية كانت شائعة في تلك الفترة

وبكل المقاييس، شكلت هذه العلاقة تزاوجا منسجما ومثمرا للعقول والأمزجة بين الاثنين. وبحسب شهادات معاصرين لهما، كانت إليوت راضية كذلك بشدة عن الجانب الحسي من تلك العلاقة، إذ وُصِفَتْ بأنها كانت “دميمة وشبقة”.

واللافت أن الفترة التي عانت فيها هذه الكاتبة من النبذ الاجتماعي، كانت الفترة الأكثر إنتاجية بالنسبة لها. وقد تم تناول هذه المرحلة بعمق، في أول مؤلفات الكاتبة، كاثي أوشونسي، الذي حمل عنوان “في حب جورج إليوت”.

وقد اختارت الصحفية، ريبيكا مايد، أن تتحدث عن تأثرها بأعمال جورج إليوت، في مذكراتها التي حملت عنوان “الطريق إلى ميدلمارش: حياتي مع جورج إليوت”. و”ميدلمارش” هو اسم أحد أشهر روايات هذه الكاتبة البريطانية.

وتقول مايد في المذكرات: “هناك كتب يبدو أنها تفهمنا بقدر ما نفهمها، أو ربما أكثر”. وقد كانت رواية “ميدلمارش” التي قرأتها مايد للمرة الأولى في مرحلة المراهقة، من بين هذه الكتب. ولم يكن الحال مختلفا بالنسبة لأوشونسي، التي تقول إن هذا العمل وفر لها العزاء والسلوى، في الفترة العصيبة التي تلت انفصالها عن حبيبها، وشعرت فيها بتعاسة بالغة ووحدة شديدة. وتوضح بالقول: “شعرت أنها (إليوت) كانت متفهمة ومتعاطفة، بشكل لم يوفره أي من المحيطين بي”.

على أي حال، تمكنت إليوت من استعادة مكانتها في المجتمع بفضل أعمالها، لكن بوتيرة بطيئة. ففي عام 1857، نشرت أولى مؤلفاتها الأدبية في مجلة “بلاك وود”، مُستخدمة اسمها المستعار الذي صار شهيرا في الوقت الحاضر “جورج إليوت”، وهو الاسم الذي ستواصل نشر أعمالها به، حتى بعد أن تُعرف هوية من يستتر وراءه.

وفي العام الذي بلغت فيه الأربعين من العمر، نشرت إليوت رواية “آدم بييد”؛ أول أعمالها الروائية على الإطلاق، وأحد أكثر مؤلفاتها مبيعا في الوقت نفسه، إلى حد أن الملكة فيكتوريا نفسها، كانت من بين المعجبين بها.

وأعقبت إليوت ذلك على الفور، بنشر رواية “طاحونة على نهر فلَص”، التي أصبحت بطلتها القلقة ذات الروح المتحدية، ماغي توليفر، أشبه بمعبودة لنساء ستينيات القرن التاسع عشر، ومن بينهن الشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون.

مصدر الصورة
Alamy

Image caption

لوحة تُصوّر “هيتي سوريل” إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية “آدم بييد”، وهو العمل الذي قال عنه تشارلز ديكنز ذات يوم إنه لا يستطيع أن يفيه حقه من المديح

وبقدر ما صدمت إليوت المجتمع عبر إقامتها علاقة علنية دون زواج مع جورج هنري لويس؛ فقد سببت ضجة وفضيحة أخرى (وأثارت ربما حيرة من سيدرسون أعمالها في المستقبل) عندما قررت في عام 1880 الزواج وهي في الستين من عمرها، بعد نحو عام ونصف العام من وفاة لويس. وكان الزوج جون وولتر كروس، صديقها ومستشارها المالي، يصغرها بعشرين عاما.

ولم تستمر هذه الزيجة كثيرا، إذ انتهت بشكل مفاجئ بوفاة إليوت في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه. لكن البعض تحدث عن أن هذه العلاقة كانت نتاجا لعوامل نفسية معقدة، بسبب الفارق في العمر بين الزوجين، إضافة إلى ما شهده شهر العسل – الذي قضاه الاثنان في مدينة فينيسيا الإيطالية – من إقدام العريس على إلقاء نفسه من إحدى النوافذ في قناة مائية بالمدينة.

في نهاية المطاف، يمكن القول إن روايات جورج إليوت ستظل إنجازها الأكبر والأهم، وأن هذه الأعمال سيُنظر إليها دائما بمعزل عن المشاعر والعواطف والآلام، التي تركت بصماتها على حياة هذه السيدة، وأفضت إلى خروج مؤلفاتها إلى النور.

في الوقت نفسه، لا يمكن أن نبخس قيمة المثابرة والشجاعة الهائلة، اللتين تحولت إليوت بفضلهما من مجرد “خادمة ضئيلة الأهمية” لوالدها المقيم في إحدى المقاطعات الإنجليزية، إلى مفكرة ومثقفة ذات دور رائد في عاصمة البلاد نفسها، خاصة أن ذلك حدث في وقت كان طموح المرأة فيه مقيدا باعتبارات تتعلق بكونها أنثى لا أكثر.

بالقطع كانت هذه السيدة عبقرية، لكنها بدت وكأنها طَوَّعت حياتها، لكي تصبح على هذه الشاكلة في النهاية، إذ أنها عاشت للتعامل مع سؤال، لم يكن قد بدأ طرحه سوى من جانب عدد محدود للغاية من الناس في زمنها ألا وهو: ما الذي يمكن للمرأة أن تصبح عليه؟

وبجانب ذلك، كانت إليوت تشعر بالبهجة عندما تتحلى بالإرادة والعزم لتحقيق هدف ما. ففي يوم ما، أكدت لويليام هايل وايت، أنها لن تتردد في تعلم اللغة الفرنسية، حتى يتسنى لها – فقط – قراءة السيرة الذاتية للكاتب الشهير، جان جاك روسو، التي تحمل اسم “اعترافات”.

وفي النهاية، تجدر بنا الإشارة إلى ما قالته أوشونسي، من أن أحد أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من حياة إليوت، يتمثل في أهمية أن “تُبقي المرء مهتما بالعالم والناس من حوله، من خلال المعرفة والقراءة والدراسة والفهم والصداقة والحب”.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى