المطعم التركي: متظاهرون على “جبل أحد” وسط بغداد
[ad_1]
تحول مبنى شبه مهجور قرب ساحة التحرير التي يتجمع فيها المحتجون في قلب بغداد إلى أيقونة رمزية في الحراك الشعبي وحركة الاحتجاجات المتواصلة ضد الفساد في العراق.
وطوال تاريخ حركة الاحتجاجات في العقد الأخير في العراق، تنافس المحتجون والقوى الأمنية للسيطرة على هذا المكان (الاستراتيجي) المطل على ساحة التظاهر من جهة، الذي يسمح ارتفاعه العالي بالإطلال على مجمل الجسر والمنطقة الخضراء (مقر الحكومة العراقية) في الجهة الأخرى.
وقد التجأ العديد من المحتجين في الاحتجاجات الأخيرة المستمرة منذ يوم 25 من الشهر الجاري، وسط الدخان المسيل للدموع والرصاص المطاطي أو الحي أحيانا، إلى هذا المبنى واحتموا بجدرانه وطوابقه الفارغة وفوق سطحه.
فما هو هذا المبنى الذي يحمل اسم مبنى “المطعم التركي” و كيف يعيش المعتصمون في داخله؟
“غرفة عمليات”
يعود إنشاء هذا المبنى المؤلف من 14 طابقا إلى ثمانينيات القرن الماضي، إذ أشرفت على بنائه شركة هندية وافتتح في عام 1983. واحتل مرآب سيارات واسع طوابقه السفلى، وامتلأت طوابقه الأخرى بالمحلات التجارية لتشكل مركز تسوق كبير.
وأخذت المبنى اسمه من مطعم احتل الطابق الأعلى منه وامتاز بشرفاته التي تقدم منظرا بانوراميا مطلا على مدينة بغداد، وعرف حينها باسم المطعم التركي.
وقد تعرضت المبنى لقصف أمريكي في حرب الخليج الثانية عام 1991، وقد أثر هذا القصف على هيكله الأساسي، لكن أعيد استخدام بعض طوابقه في أواخر التسعينيات، ولتكون مقرا لهيئة الرياضة والشباب لاحقا في عام 2001.
وخلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وجهت دبابات أمريكية عند اقتحام العاصمة العراقية بعض القذائف للمبنى ضد المسلحين المقاومين لها المتمترسين فيه. وكان ظهور هذه الدبابات على جسر الجمهورية المجاور له لحظة الإعلان عن دخول القوات الأمريكية وسيطرتها على بغداد في وسائل الإعلام.
وتحدثت تقارير عن وجود تلوث إشعاعي في المبنى، ونقلت عن مسؤولين صحيين قولهم إن التلوث الإشعاعي لا يشمل جميع طوابق البناية بل يقتصر على 3 طوابق منها.
وفي حركة الاحتجاجات ضد حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام 2011، سُلطت الأضواء على هذا المبنى من جديد عندما استخدمته القوات الأمنية مركزا لمراقبة المظاهرات التي كانت تتمركز تحته في ساحة التحرير.
وتحدثت تقارير عن أن الطابق الثامن منه قد تحول حينها إلى ما يشبه مركزا لقيادة العمليات ضد المتظاهرين، تمركز فيه عدد من قيادات قوة عمليات بغداد، وبعض المسؤولين والنواب الموالين للحكومة لمراقبة المظاهرات والإشراف على عمليات قمعها وتفريقها.
وقد انتشرت حينها في وسائل التواصل الاجتماعي صور القوات الأمنية في أعلى البناية فضلا عن أحد النواب المقربين من المالكي حينها وبعض المسلحين في أعلى البناية وهم يراقبون ويستهدفون المتظاهرين.
“جبل أحد”
أطلق المتظاهرون على المبنى تسميات استعارية مختلفة فالبعض منهم سماه “جبل أُحد” في إشارة إلى موقع المسلمين فوق الجبل في معركة أحد في زمن النبي محمد.
واستعار البعض الآخر من التاريخ العراقي اسم “الجنائن المعلقة”، أحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم التي ينسب بناؤها للملك نبوخذ نصر الثاني في بابل لوصف المبنى المطل على نهر دجلة وجانبي مدينة بغداد.
وتحدث أحد المتظاهرين، فضل عدم ذكر اسمه، عن التسابق بينهم وبين القوى الأمنية للسيطرة على البناية، مشيرا إلى أن بعض الشباب المتظاهرين شقوا طريقهم إلى البناية المهجورة والمغلقة منذ عام 2003، ثم بدأ الاخرون في الدخول اليها وتسلق طوابقها والاعتصام والتمترس فيها.
وقال الناشط نزار حسين، أحد المشاركين في المظاهرات،إن للمبنى أهمية رمزية كبيرة، بوصفه المكان الذي كانت تستخدمه القوى الأمنية في مظاهرات سابقة كبرج مراقبة يطل على كامل ميدان التظاهر ومكان عال استخدم لتصيد المتظاهرين وقمع وتفريق مظاهراتهم، محيلا إلى تجربة استخدام القوى الأمنية للمبنى في قمع وإخماد الاحتجاجات ضد حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عام 2011.
ويشير متظاهر آخر، فضل عدم ذكر اسمه، إلى أنهم احتلوا سطوح البناية لمنع صعود القناصين إليها واستخدامها لقنص المتظاهرين ومنع تحشيدهم في الساحة التي تحتها، بعد أن استهدف قناصة المتظاهرين بالرصاص الحي في اليوم الأول للمتظاهرات.
أجواء تضامن
وتصف ريا إحدى المشاركات في المظاهرات أجواء التضامن الكبيرة التي تسود المكان ومستوى التنسيق بين الشباب المعتصمين في المبنى والمتظاهرين في الساحة والشوارع الواقعة تحته.
وتحدثت ريا عن مساهمتها ونساء عراقيات أُخريات في إيصال الأدوية والأغذية التي يتبرع بها الأهالي إلى الشباب المعتصمين هناك، متحدثة عن جهد تطوعي غير مسبوق في دعمهم لدى العوائل العراقية.
ووصفت لبي بي سي، كيف أن المتبرعات يُوصلن هذه المواد إلى مرآب السيارات في أسفل المبنى، حيث يتولى مجموعة من سائقي عربات التُكتك (الراكشو) نقلها في طوابق المبنى السفلى التي كانت سابقا مرآب سيارات، ثم يتولى شباب أخرون نقلها وتوزيعها على الطوابق الأخرى على سلالم ضيقة، أو باستخدام السلال والحبال لسحبها.
كما يستخدم الشباب للصعود إلى طوابق المبنى العالية سقالات بناء متروكة خلفه يتسلقونها لتجنب السلالم الضيقة المكتظة.
ويضيف نزار أن تنسيقا يتم بين الشباب المعتصمين في المبنى والشباب المتمترسين على مقدمة الجسر، الذين يشكلون حاجزا أمام القوات الأمنية يمنعها من اقتحام المبنى والساحة.
ويصف نزار أجواء التضامن السائدة هناك وروح السخرية التي تسود بين الشباب، لا سيما عند تزاحمهم على درج خلفي ضيق يستخدمونه للصعود والنزول إلى طوابق المبنى، وهم يرددون “واحد صاعد واحد نازل” لتنظيم عملية صعودهم ونزولهم من هذا السلم الخلفي. وفي مقطع فيديو تبادله الشباب نراهم عند صعود السلالم الضيقة يرددون النداءات التي يرددها الحجاج في موسم الحج.
ووسط أجواء التضامن تلك تشهد طوابق المبنى تجمعات احتفائية تتخلها الموسيقى والغناء وإلقاء قصائد الشعر الشعبي.
ووصف لنا احد المعتصمين اطلق على نفسه اسم “ابن بغداد” حكاية بقائه في المبنى لأربعة أيام مخفيا الأمر عن أمه وعائلته، لكنه بعد أن اتخذ قراره بإبلاغ أمه واتصل بها في النهاية ليخبرها أنه في ساحة التحرير وأنه افتعل خلافا معها ليترك البيت لينضم إلى المتظاهرين، “فاجأتني أمي بالقول: “روح (بفالك) وتظاهر أيضا نيابة عن أمك وأبيك، فقلت لها ساخرا ولكن إذا ألقي القبض علي سأذكر اسميكما إذن معي كمحرضين”.
ويتحدث نزار عن محاولة مجاميع مجهولة اختراق صفوف المتظاهرين والصعود إلى المبنى والقيام بعمليات حرق وكيف تصدى لهم المعتصمون وتوحدوا بمجاميعهم المختلفة على منعهم وطردهم من المبنى.
وتتحدث ريا عن مبادرة شبابية لتنظيف المبنى المكتظ بالقمامة والأنقاض حرصا على صحة المتظاهرين المعتصمين في طوابقه، حيث اشترى متطوعون أكياس أزبال وحبال ومكانس وبكرات للحبال وأوصلوها لهم. ويحاولون الآن إيجاد آلية تُسهل نقل أكياس الأنقاض والقمامة بالحبال من طوابق المبنى العليا إلى أسفل.
ويضيف نزار أن هناك ثلاثة مجاميع مختلفة كانت تحاول مد أسلاك كهرباء إلى المبنى بشكل منفصل، وقد اتفقت مع بعض على تنسيق جهودها.
ويحضر بعض الشباب لإقامة حفل غنائي على سطح المبنى تضامنا مع المتظاهرين بعد أن ينجحوا في إيصال التيار الكهربائي إليه.
أضواء متقاطعة
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت واجهة هذا المبنى تضم شاشة إلكترونية كبيرة لبث الأخبار والإعلانات، وقد استعاد الشباب المعتصمون هذه الوظيفة فاستخدموا واجهة المبنى المطل على ساحة التظاهر لشعاراتهم ولافتاتهم ومدوا علما عراقيا كبيرا على امتداد المبنى إلى جانب اللافتات الضخمة التي حملت شعارات مختلفة، من بينها: الشعار الأكثر ترددا في هذه المظاهرات “نريد وطنا” وشعارات أخرى من أمثال “نازل آخذ حقي” و” إزرع ثورة احصد وطنا” و “ماكو وطن ماكو دوام .. حتى إسقاط النظام”.
وفي الأمسيات يحرص المعتصمون على إنارة المكان بإشعال الشموع أو شاشات هواتفهم النقالة أو المصابيح اليدوية والتواصل مع المتظاهرين في ساحة التحرير في أسفل المبنى عبر تلك الاشارات الضوئية.
وحرص بعض الشباب المعتصمين في المبنى، على تسجيل يومياته صوريا داخل المبنى مصورا تلك الأجواء الاحتفائية فيه، كما هي الحال مع حيدر كريم الذي اعتاد أن يضع مثل هذه اليوميات على صفحته على فيسبوك. ويستغل حيدر ساعات الفجر وساعات الصباح الأولى لتسجيلها عندما يكون الاتصال بالإنترنت يسمح بذلك.
وتوضح لنا ريا أن تغطية الإنترنت شحيحة جدا في منطقة التظاهر وتُقطع إحيانا، لذا يلجأ المتظاهرون إلى استخدام شبكة “واي فاي” بديلة (كاسبر) بديلا عن التغطية المقطوعة أو الضعيفة التي تقدمها شركات الهواتف النقالة في المنطقة.
ويقول نزار إن المعتصمين نظموا أنفسهم بشكل عفوي في مجاميع تتناوب على الصعود للمبنى في نوبات على امتداد ساعات اليوم كي يظلوا مسيطرين على المبنى ولا يسمحوا باقتحامه.
ويحاول الشباب ابتكار وسائل تديم هذا التناوب كما هي الحال مع حالة المتظاهر الذي فضل أن نسميه بالحرف الأول من اسمه (ل) الذي يقول إنه يتناوب مع أخيه في نوبات الاعتصام في المبنى، وقد اضطرا إلى تأجير غرفة في فندق قريب يتناوبان على النوم فيها وجعلاها قاعدة خلفية لتخزين الأودية للمتظاهرين والمعلبات والمواد الغذائية.
في كثير من مقاطع الفيديو التي يتداولها بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي للمبنى وساحة التحرير ليلا، يخلد في البال مشهد تلك الأضواء المتقاطعة التي يرسلها المعتصمون في المبنى فيرد عليهم المتظاهرون في الساحة في احتفاء ضوئي ينير ليل بغداد.
[ad_2]
Source link