قصة “مدينة أسطورية” شيدها أسرى حرب في اليونان القديمة
[ad_1]
كان ذلك يوما شديد الحرارة عندما وجدت نفسي في سيارة تقودها عالمة الآثار اليونانية إيليني كوركا، ونتنقل بواسطتها بين التلال والمناطق شديدة الخصوبة في منطقة بيلوبونيز الواقعة جنوبي اليونان.
وأشارت كوركا إلى خارج نافذة السيارة وقالت: “أنظر إلى هذا السهل. كانت مدينة تينيا تغطي كل هذه المنطقة”. كانت البقعة التي تتحدث عنها خبيرة الآثار اليونانية، عبارة عن منطقة منبسطة هائلة المساحة، تكسوها الشجيرات وأشجار الزيتون، وتنتهي بجبال تغطيها الغابات.
وأضافت كوركا: “تقع هذه المنطقة فوق سطح البحر، ويهب فيها نسيم بارد عليل، لذا يُرجح أنها كانت موقعا للقصر الصيفي” الذي كان قائما في المدينة القديمة، مُشيرة إلى مطعم تقليدي بدا قابعا تحت تل مميز مربع الشكل تقريبا.
محدثتي – التي تجمع بين الجنسيتين اليونانية الأمريكية – هي واحدة من أبرز علماء الآثار في اليونان. وقد حققت مؤخرا الاكتشاف الأكبر منذ بدأت مسيرتها المهنية قبل نحو 40 عاما، ألا وهو العثور على مدينة تينيا المفقودة، التي ورد ذكرها في العديد من النصوص التاريخية والأساطير اليونانية، مثل أسطورة أوديب، التي تتحدث عن ملك يحمل الاسم نفسه، قتل والده بغير قصد وتزوج والدته دون أن يعلم.
وقد أُميط اللثام عن هذه المدينة على يدها وفريقها، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعدما ظلت مدفونة طويلا تحت الحقول التي كنا نمر إلى جوارها بالسيارة.
وتقول الأسطورة إن هذه المدينة شُيّدت على يد أسرى الحرب من أهل طروادة، في وقت ما حوالي عام 1100 قبل الميلاد. وقد اختير لها هذا المكان لكونه يقع على الطريق الواصل بين منطقتيْ كورينثوس وميسينا، التي كانت تشهد تجمعا سكنيا في الماضي.
وتقول الأساطير إن أوديب نشأ في تينيا بعدما أُرسِل إليها وهو رضيع، وأنها كانت إحدى أكبر المدن وأكثرها ازدهارا في منطقة كورينثيا بشمال بيلوبونيز. رغم ذلك، فلم يكن بوسع علماء الآثار، تحديد موقعها بدقة أو التعرف على سبب اختفائها.
وقد بدأ البحث عن هذه المدينة المفقودة عام 1984، أي بعد خمس سنوات فحسب من بدء كوركا مسيرتها المهنية في عالم التنقيب عن الآثار. وقتذاك تلقت هذه السيدة اتصالا هاتفيا من قرويين كانوا يعكفون على شق قناة مائية، قالوا لها إن معاولهم ارتطمت بتابوت حجري قديم خلال الحفر، ما أدى إلى كسره إلى نصفين.
ذهبت كوركا لإلقاء نظرة على الموقع، وتتذكر تلك اللحظات بالقول: “أدركت بمجرد أن رأيته أنه كان شيئا فريدا من نوعه. في بعض الأحيان؛ ينشأ ارتباط بين اكتشاف أثري ما والشخص الذي عثر عليه. إنه أمر روحي تقريبا”.
وكان التابوت على شكل مزهرية، واحتوى من الداخل على رسوم رائعة لأسود، بجانب هيكل عظمي وقرابين للمتوفى. وأوضحت كوركا ذلك بالقول: “ليس لدينا أي توابيت أخرى تحتوي على رسوم مثل هذه. كما أننا لا نعرف من الأصل كيف كانت الرسوم تبدو في هذا الزمن القديم. فلا توجد بحوزتنا نماذج للأعمال الفنية التي كانت سائدة في الحقبة المعروفة باسم فترة اليونان العتيقة”.
ولم يكن بخافٍ على كوركا حينذاك، الاعتقاد السائد بأن مدينة تينيا تقع بالفعل في المنطقة التي اكتُشَفَ فيها التابوت، وذلك استنادا إلى كتابات لمؤرخين، أشاروا إلى أنها كانت قائمة في مكان ما بين كورينثوس وميسينا. لكن صغر سنها وقلة خبرتها وعدم وجود مزيد من الأدلة التي تثبت ذلك، جعل من المستحيل عليها، الحصول على تصريح يسمح لها بالحفر والتنقيب عن الآثار في تلك المنطقة.
غير أن هذا لم يمنع من يتاجرون بشكل غير مشروع في الآثار، من ارتياد ذاك الموقع لسنوات سبقت العثور على ذلك التابوت، واعتاد هؤلاء أن يدفعوا – في أغلب الأحيان – أموالا للمزارعين هناك، مقابل الحصول على ما يعثرون عليه من مزهريات وعملات قديمة.
وفي عام 2010، تعاونت كوركا مع الشرطة وبعض المخبرين، لعرقلة عملية بيع غير مشروعة لتمثاليْن عُثِر عليهما بالقرب من التابوت الغامض.
وتقول هذه السيدة إن وجود التمثالين أثبت “أن تينيا كانت مدينة ذات وضع مرموق للغاية، ويسودها فن راق بشدة”.
في نهاية المطاف، حصلت خبيرة الآثار اليونانية هذه، على التصريح الذي يخول لها التنقيب في المنطقة، وبدأت أعمال الحفر بالفعل في عام 2013.
توقفنا في رحلتنا – أنا وكوركا – في قرية خيليومودي المجاورة للموقع المفترض لـ “تينيا”، وذلك لاحتساء القهوة وتناول بعض المعجنات. ويعود أقدم منازل القرية إلى نحو 200 عام، وقد شُيّد الكثير منها – كما تقول العالمة اليونانية – باستخدام صخور قديمة، أُخِذَت على الأرجح من أطلال تينيا، التي كانت تتناثر في محيط البلدة.
وتكمن المفارقة في أن أحد جدران كنيسة القرية، يحتوي في داخله على عمل نحتي يُظهر إله حصاد الكروم وصنع الخمور والمسرح لدى الإغريق القدماء المعروف باسم ديونيسوس أو باخوس. وتقول كوركا: “نعتقد أن ذلك العمل النحتي يشكل جزءا من مسرح قديم لا نزال نبحث عنه”.
وتتسم خيليومودي بأنها بقعة جميلة وادعة لا يرتادها السائحون إلا نادرا. وقد أدى اكتشاف المدينة المفقودة على تخومها، إلى بث الحيوية والحماسة في أوصال سكانها. فقد رأينا لدى الخبّاز قوارير زيت زيتون – أُعِدَت محليا – وتحمل اسم “تينيا”، كما يستعد متجر يحمل نفس الاسم، لفتح أبوابه في القرية كذلك.
لكن كوركا وزملاءها شكوا لي من أن المشروع لم يسر بالضبط حسبما كان مخططا له، نظرا للافتقار للتمويل والكوادر البشرية.
على أي حال، لم تكن البداية مبشرة، فبعد مسح جيوفيزيائي أظهر ما يبدو أشياء مدفونة في المنطقة، تبين أن ذلك لم يكن سوى أشكال لتكوينات نشأت بفعل التربة الجيرية.
أدى هذا إلى أن يعود فريق البحث للعمل بالقرب من موقع العثور على التابوت، ليجد هناك نحو 40 تابوتا آخر. وتقول كوركا: “ظلت هذه التوابيت تخرج من باطن الأرض، واحدا تلو الآخر وكأننا في القصة الشعبية المعروفة باسم علي بابا”.
وبعد ذلك، اكتشف الفريق جزءا من طريق قديم قاد أفراده إلى ضريح روماني يعود إلى عام 100 قبل الميلاد، وإلى جواره عُثِرَ على صهريج، كان يُستخدم للطقوس الدينية وتقديم القرابين.
وتشير كوركا إلى أنها وفريقها كانوا يعلمون سلفا بأن هذه المواقع، كانت توجد خارج المدينة “لذا قررنا الحفر إلى الشمال”، بدلا من المنطقة التي كان يجري فيها العمل وقتذاك.
وهكذا اكْتُشِفَت منازل تينيا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأدرك فريق البحث أنه وجد أخيرا المدينة نفسها. ويقول أعضاء الفريق إنه تبين أن اللصوص سرقوا غالبية ما كان قائما على مستوى سطح الأرض. لكن الجانب الأكبر من المدينة ظل موجودا على عمق مترين أو ثلاثة أمتار من هذا المستوى.
وخلال وجودنا في قرية خيليومودي، توقفنا في منزل يُستخدم كمركز لحفظ المقتنيات التي يتم العثور عليها. ففريق العمل الأثري، يمارس عمليات التنقيب في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، بينما يكرس الشهور المتبقية من العام، لتحليل ما يتم العثور عليه من قطع أثرية ودراسة النصوص التاريخية.
وقال لي أحد مساعدي كوركا إنه تم العثور على عدد هائل من القطع النقدية في الموقع، ما يبرهن على أن تينيا كانت مدينة شديدة الثراء. وأشار في هذا الصدد إلى العثور على قرابة 200 من هذه القطع، قائلا “عادة ما تعثر على عدد مثل هذا، بعد سنوات من الحفر والتنقيب”.
وعرض عليّ هؤلاء عملات مُصممة على شكل أوراق من الذهب، كانت مدفونة مع المتوفى لتقديمها هبة إلى الموتى في العالم السفلي، بحسب الأساطير الإغريقية. وقالوا: “غالبية الناس في ذلك الوقت كانوا يُدفنون وإلى جوارهم قطع نقدية صغيرة. أما في تينيا، فكان الذهب هو المستخدم لهذا الغرض”.
وتضمنت الاكتشافات الأخرى؛ مزهريات ملونة بشكل رائع ومِشكاوات منقوشة وأدوات معدنية استخدمها الرياضيون لإزالة الزيوت التي طهروا بها أجسامهم. وحدا ذلك بالباحثين للاعتقاد بأن هناك ملعبا رياضيا لم يعثروا عليه بعد في هذه المنطقة.
وتقول كوركا إن كل شيء تقريبا في تينيا “فريد من نوعه”. ويعزز ذلك نصوص تاريخية، تفيد بأن اختلاف سكان المدينة كان له أوجه متنوعة. فبحسب العالمة الأثرية اليونانية، كان “هؤلاء من أهل طروادة، وكانت لديهم هوية مختلفة”، فهم أتوا من مدينة أخرى تقع على بعد نحو 600 كيلومتر في تركيا الحالية.
كما أن ما عُثِر عليه في تينيا حتى الآن، يشير إلى أن سكانها استخدموا أنماطا مختلفة من الخزف، واتبعوا كذلك تقاليد في الدفن، تختلف عن تلك التي كانت سائدة في منطقتيْ كورينثوس وميسينا المجاورتين، مثل وضع العملات النقدية على صدر المتوفى لا في فمه، كما كان شائعا في باقي أنحاء اليونان القديمة.
من جهة أخرى، لا يزال سبب اختفاء تلك المدينة، من بين أكبر الألغاز المحيطة بها، في ضوء أن غالبية المدن الكبرى التي عرفها الإغريق قديما لا تزال مأهولة بالسكان حتى الآن، مثل أثينا وأسبرطة وكورنث.
وتزايد الغموض الذي يكتنف هذا الأمر، في ضوء أنه بدا غير معتاد بالنسبة لمدينة كبيرة في حجم تينيا، التي كان يقطنها على الأرجح قرابة مئة ألف نسمة، أن يهجرها الناس بالكامل، خاصة في ظل عدم وجود أي كتابات تاريخية توضح سبب ذلك.
يتبنى فريق كوركا نظرية في هذا الصدد، مفادها بأن الأمر مرتبط بغزو القوط الغربيين لليونان القديمة عام 397 قبل الميلاد، وذلك لنشر المسيحية والاستيلاء على ثرواتها بحسب مؤرخين.
ويعزز هذا التصور العثور على عملات تخص القوط الغربيين في المنطقة. ورغم أن الفريق عثر على أدلة تفيد بأن تينيا ظلت آهلة بالسكان بعد 200 عام تقريبا من ذلك الغزو، فإن المؤشرات توحي بأن المدينة كانت قد فقدت بحلول ذلك الوقت غالبية ثروتها، إذ أن المكتشفات الأثرية التي تعود لتلك الحقبة كانت أقل قيمة وفخامة من تلك التي كانت تنتمي للحقب السابقة على ذلك. وبعد قرنين من الغزو، لم يعثر العلماء على شيء، كما قالت كوركا.
إحدى محطات رحلتي على متن سيارة إيلينا كوركا تمثلت في دير بديع من العصر البيزنطي يقع في بقعة تطل على منطقة جبلية وسهل، يُفترض أن تينيا كانت تقع تحتهما. هناك قال لي أحد أفراد فريق البحث والاستكشاف الأثري: “نعتقد أن سكان المدينة فروا إلى التلال هنا، عندما غزا السلاف أو الصقالبة المنطقة”.
المعروف أن القبائل السلافية هاجمت هذه المنطقة بالفعل، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بينها وبين السكان، ما دفع أهل تينيا على ما يبدو لاعتبار أن التلال أكثر أمنا. في ذلك الوقت، كانت هناك الكثير من القنوات المائية المحيطة بالمدينة. ونظرا لأن أحدا لم يعد يعتني بهذه الجداول، فقد فاضت مناسيبها وكست تينيا بطمي، تحول في النهاية إلى تراب وطين غطيا المدينة تماما.
على أي حال، أدى اكتشاف تينيا إلى فك طلاسم الكثير من الألغاز، مثل الموقع الذي كانت توجد فيه، والسبب المحتمل لنزوح سكانها منها. لكن الفريق يعتبر أن ما لم يُكتشف بعد، هو ما يكتسي بطابع أكثر إثارة. فأفراده يتوقعون أن يعثروا خلال السنوات المقبلة على مزيد من المنازل والمعابد، وكذلك على مسرح وساحة دائرية من تلك التي كان يلتقي فيها المزارعون في بلاد الإغريق قديما.
وشكلت هذه الساحات – التي تُعرف الواحدة منها باسم “أغورا” – مراكز إدارية ودينية وتجارية للمدن التي كانت توجد فيها. ويقول أحد الباحثين: “الأمر يشبه رأس جبل الجليد، ونحن لم نلمس سوى حافته بالكاد. سوف تواصل هذه المنطقة إماطة اللثام عن مكتشفات مثيرة للاهتمام على مدار الأعوام المئة التالية”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel
[ad_2]
Source link