بالفيديو عماني شارف على المئة عام | جريدة الأنباء
[ad_1]
تركت سمكة “الجرجور” بقايا عضتها في جسده النحيل شاهدة على نضاله مع البحر بحثا عن لقمة عيش، إنه لا يفتأ يتذكر تلك الحادثة كلما شرع في صناعة قارب “الشاشة” الأثير إلى قلبه.
كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، والأمواج تتلاعب بقاربه السعفي في عرض المحيط بخليج عُمان، عندما تمكن خليفة القاسمي من اصطياد “القرش الصغير”، بعد صراع مثير طوال طريق العودة، فالمركب المصنوع من جريد النخل لم يكن يتسع لهما معا، وتلك السمكة يومئذ كانت بمثابة كنز عظيم.
كانت الحياة قاسية للغاية، وهو ما جعل خليفة يركب البحر ولما يبلغ العاشرة من عمره، وهو اليوم يكمل عامه الـ95 ولا يزال متصلا بالبحر، وفي عينيه جذوة من حياة حبلى بالمغامرات والصعاب، وذكريات لم تستطع يد الحداثة والمدنية أن تسلبه إياها، بل إن رغد العيش لم يحدّ من ولعه بصناعة القارب الذي أطلق عليه لقب “محمل الفقير وسفينته الفارهة”.
ضيق الحال وقلة ما في اليد لدى العمانيين -في السابق- كانت حافزا لارتياد البحر، وعلى امتداد السواحل العمانية البالغة أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، عمد العمانيون البسطاء إلى صنع قواربهم الخاصة بأيديهم دون الحاجة إلى دخول معاهد أو مصانع متخصصة، وصارعوا بها الحياة، وأوجدوا لأنفسهم سبلا للعيش ومضوا يطاردون الرزق يومهم كله.
يفخر القاسمي، بحسب تقرير لقناة “الجزيرة”، بأنه طور في شكل الشاشة (القارب) في الخمسينيات، وأعاد إليها بهاءها وحسنها، إذ كان صانعوها قبلئذ لا يهتمون بمنظرها الجمالي.
صنع المئات منها خلال رحلته الطويلة مع البحر، وكانت محور حياته ونمط معيشته الوحيد، ولا يزال حتى اللحظة مفتونا بها، متماهيا في لحظاته القديمة، يوم أن واجه البحر وغضب هديره بقلب من حديد، عندما همّ بالعودة قبيل الغروب ذات طلعة صيد عصيبة، وإذ بالموج العاتي قد حطم قاربا بحريا سريعا، وأوشك ركابه الثلاثة على الغرق، فكان يوما مشهودا إذ تمكن من نجدتهم وحملهم على “الشاشة” السعفية، وهو يكرر “هنالك انتصر قارب الفقير على مركبة الموسرين”.
قوارب لا تغرق
كل القوارب والسفن واليخوت تغرق إلا قارب الشاشة يظل طافيا على الدوام، فهو محشو بالكرب (قاعدة سعف النخيل) الذي استبدله بعضهم بالفلين مؤخرا، مما يبقي القارب عائما على السطح لخفته ومرونته، وأقسى ما تستطيعه الأعاصير والأمواج أن تقلبه ظهرا على بطن لا أكثر.
ارتباط القاسمي الوجداني بالقارب البسيط لم يكن حديث عهد، فرغم براعته في صناعة القوارب البحرية التي باع أفخمها بما يقرب من عشرين ألف ريال عماني (52 ألف دولار) في بدايات النهضة العمانية الحديثة في الأعوام الأولى من حكم السلطان قابوس؛ فإنه ظل وفيا لرفيق كفاحه الطويل الذي أوجده العوز وشظف العيش.
أورث أبناءه الذكور الأربعة عشر حب البحر، وجميعهم صعدوا على “الشاشة” وعبروا المحيط من خلاله، ليس للنزهة فحسب بل لصيد السمك كما كان يفعل والدهم، وسار على خطاه أيضا بقية أحفاده، هذا الحب العظيم بقي وثيق العرى سنواته كلها، إذ لم يمر يوم واحد عليه لم يكن بصحبة القارب إما في البحر أو عبر ساعات صناعته.
النوخذة (القبطان) القاسمي الذي يقضي أغلب وقته في صنع الشاشة لزبائنه وصلت قواربه المصنوعة يدويا بموارد بدائية بسيطة إلى خارج سلطنة عمان، حيث بيعت قواربه إلى عشاق الشاشة من كوريا وقطر والإمارات، وتتخذ تلك القوارب إما للزينة أو محفوظات تراثية للعرض، أو لأجل المشاركة في المهرجانات الخاصة بقوارب الشاشة، خصوصا في مسقط والإمارات.
ورغم تقادم عهده، لم ينقرض هذا القارب من مياه السلطنة، إذ يدفع الحنين المحمّل بذكريات غابرة البعض إلى النزول به إلى البحر، خصوصا في شريط الباطنة الساحلي الممتد بشمال السلطنة، وهم يرددون أهازيج البحر العائدة إلى الزمن الماضي بذكرياته ووجعه وصروفه، كما أن “الشاشة” كانت ولا زالت الشعار الرسمي لولاية لوى.
وإلى وقت قريب، كان العمانيون “صناع الشاشة” يقيمون مهرجاناتهم الصيفية على امتداد الخط الساحلي لشواطئ السلطنة لصناعة “حبال الليف” من مخلفات النخيل، لتستخدم لاحقا في صناعة قوارب الشاشة. كان المشهد يعبر عن ارتباط وثيق بالطبيعة، حيث النخلة هي امتداد العلاقة الطويلة بالإنسان برا وبحرا.
النخلة تجود بخيراتها
في منزله، يحتفظ القاسمي بعدة هذه الحرفة (السكين والمشبك والقدوم) ومواردها، وما هي إلا خيرات النخلة من جريد وكرب وحبال صُنعت من أليافها، وتجود شجرة السدر بأعواد خشبها لتثبيت دفتي القارب والقاعدة والمحافظة على تماسكها.
يحفر الصانع خندقا يغمره بالماء ويضع فيه الجريد بقصد تليينه لمدة 15 يوما وقد تزيد حسب حجم القارب، ثم يشرع في بناء هيكل الشاشة انطلاقا من القاعدة وانتهاء بالمقدمة والمؤخرة التي ترفع بأعمدة من الخشب، في حين يملأ البطن بالكرب.
يشق القارب طريقه عبر دفع الماء بالمجاديف والشراع الذي يتخذ من الريح معينا، ولمحبي المزج بين الحداثة والأصالة طريقتهم الخاصة في إضافة المحركات الحديثة في المؤخرة.
بدأ القارب عند ظهوره قبل أكثر من ثلاثمئة سنة بمساحة صغيرة تتسع لشخصين فقط، ولم يزد حجمه كثيرا على مر السنين، إذ يتسع الكبير منها لخمسة لا أكثر، ويستغرق بناؤها بين ثلاثة أيام وخمسة، وحتى يومنا الحاضر لا يزال سعر تصنيعه وبيعه بسيطا لا يتجاوز الكبير منها أربعمئة دولار.
سيبزغ فجر الغد، وسيجد القاسمي نفسه على ظهر مركبه البسيط، إنها قصة عشق خلدتها ذاكرة البحر، وكعادته في أيامه الخوالي، سيخرج وحيدا في غالب أيامه، مرددا أغنيات الـ”يامال” وأهازيج النوارس على وقع أنغام أمواج بحر عمان، فلا شيء يطفئ هذا اللهيب والحنين.
[ad_2]
Source link