كمالا إسحاق المتوجة بجائزة الأمير كلاوس: موسم الهجرة إلى الجنوب
[ad_1]
أخذت اسمها من الهند، واستلهمت مصادرها الفنية من عمق التراث السوداني والزخارف والأشكال التي تخلقها النساء السودانيات على جدران بيوتهن. ونهلت من تجربة أكاديمية ثرة في بريطانيا، وجمعت بين تجربة الرسام والشاعر الإنجليزي وليم بليك الروحية وجلسات “الزار” للنساء السودانيات، وبين النساء والأشجار في لوحاتها التي جلبت لها اهتماما عالميا، كانت ذروته بمنحها مؤخرا جائزة الأمير كلاوس في هولندا. فمن هي كمالا إبراهيم إسحاق التي جمعت بين تلك العوالم المختلفة؟
توج منح جائزة الأمير كلاوس للفنانة السودانية، كمالا إبراهيم إسحاق، مسيرة فنية حافلة بالإنجازات امتدت على أكثر من نصف قرن من الحياة الثقافية والفنية في السودان.
لقد تركت كمالا بصمات واضحة في مسار بناء الحداثة في الحياة الفنية والثقافية في السودان وفي مجال الريادة النسوية للفن التشكيلي فيه، فضلا عن حياة أكاديمية وتعليمية ثرة شكلت مصدر إلهام لدى جيل من الفنانين السودانيين الشباب.
ويركز الكثير ممن كتبوا في تاريخ الحركة الفنية في السودان على ريادتها في مجال تطوير “الفن المفاهيمي”، وكونها مرشدة لحركة فنية عُرفت لاحقا باسم “المدرسة الكريستالية” (البلورية) والتي صاغ بيانها في السبعينيات عدد من طلبتها. بيد أن كمالا تصر على أنها لا تحصر عملها في مدرسة محددة بل تتنوع أشكالها ومصادرها التعبيرية، كما قالت في حوار مع بي بي سي: “لا أميل أن اضع نفسي في صندوق، لا أعتقد أنه أمر صحي. فالحاجة التعبيرية للفنان في وقت محدد هي التي تحدد طبيعة العمل الفني”.
وأضافت “لا أحصر نفسي في مدرسة أسلوبية لمدة طويلة. من الممكن أن أعبر عن نفسي بأي طريقة. فالمهم لدي ما تمثله اللوحة نفسها وما تفرضه الحاجة التعبيرية في داخلي. أنا لا أومن بأن تحجر نفسك في نوع محدد من الرسم”.
بين الهند والسودان
ولدت كمالا في أم درمان في السودان عام 1939، وحملت اسما هنديا غريبا لم يكن منتشرا في السودان. فسميت “كمالا”، تيمنا باسم المناضلة الهندية وزوجة جواهر لال نهرو وأم أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند الشهيرة لاحقا.
تُبرر كمالا ذلك بإعجاب والدها بتجربة نهرو وحزب المؤتمر الهندي حينها ومحاولته مع آخرين تأسيس حزب مشابه في السودان، إذ سماها أبوها بهذا الاسم بعد صدور كتاب “to Kamala and no more” الذي أهداه إلى زوجته.
درست كمالا في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم وتخرجت منها عام 1963، لتستكمل دراساتها العليا في الكلية الملكية للفنون في لندن للفترة من 1964 إلى 1966. وعادت بعدها لتعمل في تدريس الفنون، وتواصل حياة أكاديمية في هذا المجال لعقود في السودان ومسقط عاصمة عُمان.
وإلى جانب دورها التعليمي وأثرها في أجيال من طلبتها الفنانين، بنت كمالا تجربتها الفنية الخاصة، فانخرطت في الحراك الفني في السودان الذي كان يهيمن عليه ما يعرف بـ “مدرسة الخرطوم”، ممثلة بعدد من أبرز رموز الفن السوداني وبناء الحداثة فيه، من أمثال وقيع الله عثمان ومحمد أحمد شبرين وإبراهيم الصلحي. وقد انشغلت هذه المدرسة كثيرا بقضية العلاقة مع التراث وعلاقته بالحداثة وبمحاولة بناء هوية مميزة للفن السوداني، وهيمنت على الحركة الفنية في السودان أواخر الستينيات وطوال عقدي السبعينيات والثمانينيات.
بيد أن كمالا وعددا من الفنانين الشباب من طلبتها شكلوا تحديا جديا لهذه الهيمنة، بحسب الباحث في تاريخ الفن التشكيلي السوداني، د صلاح محمد حسن، بمحاولتهم “الإبحار بعيدا عن روح مدرسة الخرطوم بطرح أسلوب وتقنيات فنية بديلة” عرفت ب”الجماعة الكريستالية”.
بيان الكريستالية
تقول كمالا إن الأمر ابتدأ بعد أن قدمت لوحة كبيرة بطول 3 أمتار ونصف “عرضت في المتحف القومي تصور “15 كرة كريستالية” فيها تدرجات لونية وكانت تمثل ما يشبه علاقة الحياة بين الإنسان والنبات، ثم عرضت في عام 1977 في واشنطن في متحف الفن الأفريقي المعاصر”.
وتضيف “ثم قام بعض طلبتي بكتابة مانيفستو أسموه المدرسة الكريستالية يُنظّر لهذا النوع من التشكيل. ثم بدأوا هم يعملون بنفس الفكرة والأسلوب و دون انتاج أعمال مشابهة”.
يقول البيان، الذي وقعه إلى جانب كمالا محمد شداد ونائلة الطيب وهاشم إبراهيم وحسن طه، وكتب بلغة نظرية تبدو مشوشة وتحمل الكثير من العمومية “إن جوهر الكون بمثابة مكعب بلوري كامل الشفافية وأبدي التحول، يتغير باختلاف موقف المشاهد. يقبع الإنسان أسيرا داخل هذا المكعب البلوري الشفاف بانتظار مصير عبثي المآل”.
ويخلص البيان، الذي نشر في صحيفة الأيام مطلع عام 1976، إلى ضرورة إيجاد نظرة شفافة بإزالة الحجب التي تغلف الإنسان، فهو “نفسه مشروع كريستالة تمتد في داخله إلى ما لا نهاية”.
ومن الواضح أن البيان محاولة للحاق بروح العصر حينها وفيه تأثرات واضحة بالفلسفة الوجودية والحركات الفنية الطليعية الأوروبية وتحديدا أصداء ظهور الفن المفاهيمي في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، ومحاولة للتميز عن مسار مدرسة الخرطوم كما يصفه د صلاح محمد حسن، الذي يشير إلى أن جل اهتمام “الكريستاليين يركز في العمل على وضع فكرتي (التحول) و(الصيرورة) في مقدمة اهتمام الفن التشكيلي كقوى جوهرية بديلا عن سيادة (السودانوية) التي تركز على أيديولوجيا (العودة إلى الأصل) التي تفردت بها مدرسة الخرطوم على مستوى الأسلوب والجماليات”.
التجربة الروحية بين بليك و”الزار“
تشكل التجربة الروحية مصدرا ثرا لكمالا، التي تعترف بتأثرها بأعمال الفنان والشاعر الإنجليزي وليم بليك. وتعيد هذا التأثر إلى فترة دراستها في الكلية الملكية للفنون في بريطانيا في منتصف الستينيات، حيث اعتادت أن تزور متحف “تيت” لمشاهدة أعماله.
وبدأ هذا الاهتمام من نصيحة من أستاذها في الكلية الذي وجهها أن يكون موضوع بحث تخرجها في موضوعة المقارنة بين تجربة “الاستحواذ الروحي” لدى وليم بليك والنساء السودانيات في جلسات “الزار”.
تقول إنها عادت إلى السودان إثر هذه النصيحة لمدة ثلاثة أشهر لعمل دراسة ميدانية تقارن بين التجربة الروحية المستخدمة للعلاج في حلسات الزار وتجربة وليم بليك الروحانية. وقد شكل هذا التركيز على البعد الروحي أحد مصادر تجربتها الفنية لاحقا إلى جانب استحضار عناصر طقسية أخرى من جذور أفريقية أو صوفية إسلامية.
ولعل المدقق في لوحات كمالا يتلمس بوضوح نوعا من النزوع الصوفي الواضح وتلميح إلى وحدة الوجود عبر تلك الاشكال المتداخلة بين البشر والشجر. فالأجساد البشرية تستطيل لتخرج منها أشجار، كما تكتسي الأشجار بملامح بشرية، من النساء في الغالب، أو كما تقول كمالا إنها دورة واحدة “الإنسان والنبات وحدة واحدة، وعندما يموت الإنسان يكون سمادا لينمو نبات ثانٍ”.
زخارف النساء
ويترافق هذا النزوع الصوفي مع اهتمام كبير بالفلكلور الشعبي الغني في بلد متنوع مثل السودان، فتستلهم كمالا في أعمالها أشكالا من الزخارف والنقوش والمطرزات الشعبية السودانية، لاسيما تلك التي تنتجها المرأة السودانية.
وعن ذلك تقول “يمثل التراث الفلكلوري بالنسبة إلي الكثير، فأنا منه. وفي السودان تنوع فلكلوري كبير: تجد النساء في الشمال يُزخرفن البيوت من الداخل ومن الخارج. والنساء في غرب السودان لهن طريقة مختلفة في الزخرفة، إذ يستخدمن السعف ويقدمن أعمالا جميلة جدا. ولدي بعض المجاميع من هذه الأعمال. وفي الجنوب والشرق يستخدمنَ الخرز الملون لصنع أعمال جميلة . أنا في مجتمع تعمل النساء فيه على وجه الخصوص أعمالا جميلة”.
ولا يتوقف استلهام كمالا للتراث السوداني عند الفلكلور بل يعود إلى جذور الحضارات القديمة ورموزها التي اكتشفتها خلال عملها في إعادة رسم وترميم الآثار السودانية، إذ عملت لأكثر من سنة مع المتحف القومي والبعثات الآثارية في إعادة رسم الآثار السودانية لمراحل “ما قبل التاريخ وتاريخ حضارة مروى والممالك المسيحية” في السودان وترميم النقوش البارزة في المعابد الأثرية.
وتسعى كمالا إلى مزاوجة هذه الأشكال والعناصر المستلهمة من التراث القريب والتاريخ البعيد مع روح الحداثة المعاصرة.
تصف كمالا مصادر فنها تلك بـ “المخزون الاستراتيجي “، إذ تقول: “ما عشته في مجتمعي وحياتي وما رأيته بالطفولة هو مصدر كل ما أرسم. أحيانا أرسم حاجات أتذكرها من الطفولة. مررت في حياتي بأشياء كثيرة وأحداث وأحاجي وأساطير وهي التي تؤثر في عملي الفني. وهذا ما أسميه المخزون الاستراتيجي”.
بيد أنها لا تتوقف عند تلك المصادر التاريخية او الفلكلورية أو الرموز القبلية العميقة، بل تنهل حتى من تجاربها اليومية التي تغلفها أحيانا ببعد أسطوري. على سبيل المثال تمتاز الأشكال البشرية في لوحاتها بنوع من التشويه أو التشويش البصري أحيانا. تشرح لنا ذلك بقولها “عندما كنت أستقل قطار الأنفاق في لندن ويدخل في النفق أرى الوجوه في الزجاج الذي أمامي مشوهة. تلك كانت بالنسبة لي تجربة مدهشة وغريبة واستلهمتها في بعض أعمالي”.
النزعة النسوية
في قرار منحها جائزة الأمير كلاوس، التي ستتسلمها في حفل ديسمبر/كانون الأول المقبل، قالت لجنة الجائزة “بقيت إسحاق ناشطة في تنظيم معارض مع فنانات من أجيال شابة، وبالتالي كانت مساهمتها في الحركات الاجتماعية الراهنة، حيث تلعب النساء دورا مركزيا مرئيا. واستمرت في دورها كمحفز ثقافي وقوة ملهمة بين جيل الفنانين السودانيين الشباب”.
لا شك أن المرأة تقع في صلب اهتمام ونشاط كمالا الفني والتعليمي والاجتماعي، وفي قلب لوحاتها التي تمتلئ بوجوه النساء المحاطة بالأشجار أو المختلطة معها. بيد أن هذا الاهتمام ينطلق من صميم تجربتها الوجودية كأمراة في المجتمع السوداني وليس من نزعة نسوية نظرية تستلهم مفاهيمها في عملها الفني.
عن ذلك تقول كمالا ” لا أفرق في الفن بين فنان رجل أو امرأة، ثمة عدد كبير من الفنانين الرجال. الآن بدأ عدد كبير من النساء والفتيات يدخلن كليات الفنون ويقدمن أعمالا جميلة جدا، لكن إلى جانب زملائهن الفنانين. جنس الفنان ليس مهما، والمهم هو العمل الفني نفسه ومدى نجاحه أو فشله”.
لا تبحث كمالا عن الهوية خارجها، فهي لا تشكل فكرة خارجية تسعى لاكتشافها أو تأكيدها، بل تجربة وجودية خالصة تعيشها. لذا لا تشكل العلاقة مع الآخر، والغربي المتقدم تحديدا، عقدة لديها، بل مدخلا للمثاقفة واكتشاف الذات. وهي إذ جاءت للدراسة في الشمال (الغرب) والنهل من فنونه وحداثته عادت إلى شرقها لتنهل من طقوسه ورموزه وأشكاله وتجربته الروحية الثرية وتصبها في قوالب حديثة. وكأنها بعودتها هذه إلى الجنوب قلبت عنوان رواية مواطنها الأديب المعروف الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”. وعاد الشمال اليوم ليتوجها بإحدى أبرز جوائزه.
[ad_2]
Source link